مقالات

إب.. المدينة التي يمزِّقها الحوثي بصمت!

17/05/2025, 09:14:56

لا أظن أن هناك مدينة تعرَّضت للتخريب الصامت من قِبل الحوثي مثل مدينة إب. إنه يكرّس تركيزه على هذه المدينة، يعمل على تمزيق هويتها بشكل مُمنهج، يزرع خنجره السام والموحش بشكل انتقامي.

إنها المدينة الوحيدة التي يغزوها الحوثي بصمت، يفكّك روابطها، ويسحق إرثها التاريخي، بعدائية مُريعة...!

إن ما يحدث في إب لا يمكن قراءته بوصفه نتيجة طبيعية للحرب، بل كخطة واعية تُمارس ضد مدينة ذات طابع خاص، مدينة تختزن في جغرافيتها سرًّا سياسيًا وفلسفيًا، لا يطيقه المشروع السلالي.

فالحوثي لا يكتفي بإخضاع إب، بل يشتغل على إعادة تشكيلها، على تحطيم جوهرها من الدَّاخل، وتفريغها من كل ما يجعلها حُرة، متفرّدة، عصيّة على التدجين.

إنه يدرك أن هذه المدينة لا تُؤخذ بالقوّة، بل تُنهك بالبطء. لذلك، لا يُطلق عليها النار كما يفعل في المُدن الثائرة، بل يخنقها بالصمت، يزرع فيها الرُّعب، ويُمزّق نسيجها الاجتماعي، ويشوّه وعيها، ويمسخ ذاكرتها.

لقد اختار الحوثي لإب طريقًا مختلفًا: حربا خفية، قائمة على تفتيت الهوية وتبهيت الوعي. إنه لا يُريد مدينة خاضعة فحسب، بل يريد إبّا جديدة: بلا ماضٍ، بلا وجدان، بلا ذاكرة تُذكّره بأن لهذه المدينة موقفًا من الإمامة، ومكانة في جغرافيا الجمهورية.

ولهذا، فإن التدمير لا يأتي على شكل غارات، بل على هيئة تغييرات لغوية، ثقافية، اجتماعية، تعليمية، كلها تنصبّ على قلب المدينة، لتفريغها من ذاتها.

لم تعد إب جميلة كما كانت، لقد فقدت روحها. لم يعد النور يتسرّب من نوافذها القديمة، ولم تعد القصائد تُتلى على أرصفتها، أو الأغاني تُغنّى على جبالها.

المدينة، التي كانت تعيش بالفكرة والجمال، تحوّلت إلى مسرح للمحو. هذا الخراب لا يُقاس بالحجارة فقط، بل بما هو أعمق: بالمعنى الذي ضاع، بالإحساس الذي تلاشى، بالعلاقة بين الإنسان والمكان التي شُوّهت بعناية. إنها إب التي تُباد ببطء، كأن ثأرًا قديمًا يُصفّى معها.

الصمت الذي يخيّم على إب ليس بريئًا، إنه صمت مصطنع، مفروض بالقوة والهيمنة، صمت ثقيل يختبئ وراءه مشروع إجراميّ يُمارس بدمٍ بارد، وبضمير غارق في ثأر سلاليّ.

الحوثي لا يغفر لإب أنها ظلت، تاريخيًا، منبعًا للفكر الجمهوري، وأنها، رغم كل شيء، ظلت حاضرة في ضمير سبتمبر، كصوت داخلي لا يُسكت. ولهذا، يُصر على إخضاعها، وعلى سحق رموزها، وعلى قتل أبنائها بصمت. يتهمهم بتصنيع الخمور، يشوّه سُمعتهم، ويُمارس بحقهم عقابًا جماعيًا خفيًا، يمرّ كأنه تفصيل عابر في زمن فقد كل معنى.

إب اليوم تُشبه مدينة تعيش تحت احتلال نفسي. إنها لا تُعاني من غياب الدولة فحسب، بل من حضور كيان معادٍ للروح. الحوثي يتعامل معها كغنيمة يجب إذلالها، لا كمدينة يجب احترامها. كأن وجودها ذاته يُهدده، وكأن تنفّسها الحرّ يُربكه. لهذا، هو لا يكتفي بالقمع، بل يُعيد إنتاج المدينة وفق رؤيته، في المدارس، في المساجد، في الشوارع، حتى في المفردات اليومية. إنه يغسل الوعي، ويُشوّه العلاقة بين الإنسان وتاريخه.


إن تفكيك الهوية بمعناه الكلي ليس فعلاً سياسيًا فحسب، بل هو جريمة أنطولوجية تُمارس ضد الكينونة ذاتها، ضد الذاكرة، واللغة، والصوت الداخلي للجماعة. والحوثي، بوصفه مشروعًا أيديولوجيًا مشوَّهًا، لا يكتفي بالسيطرة على الجغرافيا؛ إنه يسعى إلى إعادة تشكيل الإنسان داخل هذه الجغرافيا، عبر قتل ما يتجاوز الجسد: قتل المعنى، وقتل الإحساس بالانتماء، وقتل الحنين.

منذ سنوات والحوثي يعمل على تخريبها وقتلها بصمت، إب، دخلها كمهندس خراب روحي، كمن يريد أن ينتقم من الفكرة التي تجسّدها هذه الأرض. إنه لا يعاديها بما هي مساحة، بل بما هي ذاكرة مقاومة، وميراث مدنيّ، وروح جمهورية مستقلة عن روايته المذهبية. ولهذا يحاول إذلالها؛ لأن فيها كل ما لا يمكن تدجينه.

الهوية، كما يراها الفلاسفة، تراكمٌ زمنيّ لمجموعة من الإشارات الرمزية، من اللغة، والمكان، والعلاقات، والمعتقدات، والآمال الجمعية. وكل محاولة لمحو هذه التراكمات: هي عدوان على الوجود ذاته، عدوان على ذاكرة الجماعة، على سرديتها في الزمان والمكان، وهو ما يفعله الحوثي تحديدًا. إنه لا يكتفي بأن يكون مستبِدًا، بل يريد أن يُحِلّ نفسه محلَّ التاريخ.

يعمل الحوثي في إب، على ما يمكن تسميته "بالخراب الميتافيزيقي"، أي ذلك الخراب الذي لا يُقاس بالأضرار المادية، بل بما ينكسر في الداخل، في ضمير المدينة، في طاقتها الرمزية، في طموحات شبابها، في انتمائها المتوارث للجمهورية، في صلتها العاطفية بثورة سبتمبر. لقد حوّل المدينة إلى جسد حيٍّ بلا نفس، إلى مسرح مفتوحٍ لطقوس الإذلال والطمس، حيث لا شيء يُترك كما هو؛ بل يُعاد تدويره ضمن سردية الكهنوت.

وحين يتهم أبناء إب بصناعة الخمر، أو يسحق أصواتهم في الزوايا المعتمة، أو يختلق الأكاذيب لتشويههم، فإنه يُمارس أعمق أشكال الحقد الرمزي: كأنه يريد أن يعاقب المدينة لا على ما فعلته، بل على ما كانت دائمًا تمثّله؛ أي: النفي المطلق لسلطته، والرفض الصامت لخطابه، والسخرية التحتية التي تقوضه دون سيف.

هنا يتجلى الخطر الأكبر: أن الحوثي لا يطمح فقط إلى طمس هُويات المدن، بل إلى هندسة هوية بديلة، ممسوخة، خانعة، تشبهه. يريد أن يخلع على كل مدينة قناعًا زائفًا، ويجعل من الخوف هويةً جديدة، ومن الصمت دستورًا وجوديًا. يحول المدن إلى جزر معزولة عن ذاكرتها، ويغلق أبوابها على الداخل، ويمنعها من التطلع إلى المستقبل، كما لو أن قدرها النهائي أن تذوب في كيانه الطائفي المجرَّد.

قد يُخيّل للبعض أن ما يحدث في إب لا يختلف كثيرًا عما يحدث في صنعاء، أو ذمار، أو صعدة، من استلابٍ للهوية، وتعميمٍ لثقافة الخضوع. غير أن التمايز هنا جوهري، لا في مستوى القمع، بل في نوع القمع وعمقه الرمزي. فصنعاء، وقد أصبحت مركزًا للسلطة، تُعامَل كعاصمة يجب تزييف وجهها، لا تدميره؛ أما ذمار فتُستثمر في بعدها الثقافي المذهبي؛ وأما صعدة فهي الحاضنة، النموذج، المختبر الأول. لكن إب ليست كذلك؛ إنها تُعامَل "كخيانة رمزية"، كمدينة عصيّة على الاحتواء، كندٍّ تاريخيّ لهيمنة السلالة.

ولذلك، فإن العقاب الحوثي لإب يتجاوز حدود الاستتباع، ليغدو شكلًا من أشكال الثأر الماورائي؛ كأن المدينة تمثل جريمة وجودية ضد سردية الحوثي، تستحق العقوبة بفعل ما هي عليه، تلك المدنية المتصالحة مع التنوع، المنحازة لفكرة الجمهورية، والمتورِّطة بجمال داخليّ يرفض القبح الذي يفرضه الكهنوت.

في تعز، يُقاوم الناس بالسلاح، في عدن تُبنى جبهات سياسية، في مأرب تُستعاد مفاهيم الدّولة. أما في إب، فإن المقاومة تتخذ شكلها الأشد تعقيدًا: الصمت الرافض، الإباء الداخلي، والسخرية المقنّعة التي تستنزف المستبد وتضعه أمام هشاشته. وهنا يكمن سرّ هذا الانتقام المتواصل: لأن الحوثي، ببساطة، لا يحتمل من لا يأخذه على محمل الجد.

هذه الخصوصية تجعل من إب جبهةً غير مرئية، لكنها أكثر خطورة. مدينة لم ترفع سلاحًا، لكنها احتفظت بالذاكرة، ولم تهتف، لكنها رفضت في عمقها، ولم تنخرط، لكنها لم تُسلِم نفسها أيضًا. إنها، ببساطة، المدينة التي تُعاقَب لأنها لم تتورّط. والحوثي، كأي سلطة خرافية، لا يطيق الحياد، ولا يحتمل المسافة، ولا يغفر للذين لا يشاركونه خرافته، ولا يقاومونه بالأسلوب الذي يفهمه.

وهكذا، هي إب "معنى يُطارد". استعارة حية للكرامة الخرساء، لذلك تُواجَه بالطمس لا بالسجال، وبالشتيمة، والتشويه. والحوثي، حين يغزوها، لا يبحث عن إخضاعٍ آنٍ، بل عن محوٍ نهائيّ، عن طمس الصفحة التي لم يستطع كتابتها.

مقالات

ناصر الحميقاني، وشريف ناجي: أصوات اليمن المنسية

كانت اليمن تخفق في كل قلب وهي مقسِّمة إلى شطرين: شمالي وجنوبي. يتجلى ذلك في تاريخ الحركة الوطنية وأدبياتها ومسارها التاريخي من ثلاثينات القرن الماضي، إلى خطابها في دولتي سبتمبر وأكتوبر، في صراعاتها وحروبها مثلما في تقاربها واتفاقاتها، وصولاً إلى تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 90.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.