مقالات
ابن الشيخ الذاكرة التي لا تصدأ!
منذ زمن بعيد، والجميع يتابع أعمدة عبد الرحمن بجاش، سواء في صحيفة "الثورة"، أو "العالم الأزرق"، أو مواقع أخرى، ولعلّنا -جميعا أو بعضنا- اقتنينا كتبه التي أصدرها تباعا من "شهقة الفجر" إلى "حافة إسحاق"، وغيرها، وهذه السلسلة الطويلة من الكتابات البهية، التي تميّزت بإنسانيّتها المنقطعة النظير، التي ترصد حياة عدد كبير من الناس، الذين كانوا الخميرة التي ارتقت باليمن، في فترات طويلة، وفي مجالات وتخصصات كثيرة، والأجمل في كل ذلك هو التنوّع الجغرافي لهؤلاء الناس، الذي امتد إلى كل جهات اليمن ومُدنها وأريافها ومديرياتها.
وبقيت ذاكرة ابن الشيخ، وهو الاسم الذي يحلو له ويحب سماعه من محبيه. فقد كان للشيخ قاسم بجاش تأثير عميق في التكوين الإنساني والوجداني والمدني لابنه عبد الرحمن، هذا الكتلة الإنسانية المشعّة، والنُّبل المضمخ بأعلى مراتب التنوّع والفرادة الإنسانية المعطّرة بالوفاء مع ذاكرة متّقدة مازالت تحتفظ بأدق التفاصيل والأسماء والأماكن، وهذا ليس أمرا عابرا أو سهلا، ولا يمكن لأحد اقتناص تفاصيل من إنسانية وتاريخية وثقافية فترة زمنية امتلأت بمتغيِّرات وتحولات يصعب الإمساك بأطرافها، كما يفعل الكاتب السهل الممتنع، وصاحب اللغة الخاصة، الذي يعرف ماذا يقول، وماذا يكتب قبل أن يقول، وقبل أن يكتب.
والمثير للدهشة أنه يكتب دون تحيّز، سواء لحزب أو حزبية، ولا يتحيّز لأشخاص دون غيرهم، وكل ما تجده من تحيّز في كتاباته هو للوطن، وعن الوطن، وعن الأخيار الذين خدموا هذا الوطن، وقدموا لأجله كل شيء، ولم يصطف أمام فكرة بذاتها بل تجاوز الذات إلى الآخر، محاولا إنصاف الإنسان من الإنسان.
وفي مقال اليوم، سأحاول إيجاز وإعجاز كتاب "شهقة الفجر"، الذي أهداني نسخة منه في تعز عام ٢٠١٤م، الذي بقي في أحد رفوف كتبي، وقلت لنفسي: "كم ستبقى، وغدا أمام شهقة عبد الرحمن بجاش".
بدأت بقراءة الكتاب، ولم أستطع التوقّف، لقد انتهيت من الكتاب بشهقة كبيرة أمام هذي اللوحة الإنسانية التي تصوّر الحياة والأحياء بكل دِقة وسلاسة ونُبل، تتحدّث عن الأحياء الرائعين والأموات الذين تركوا مواقف نندم على أننا لم نتعرّف عليها؛ لسبب واحد ووحيد وهو أننا لم نقرأ كتب ابن الشيخ، ولو كنا قرأناها ما كنا بهذا الجهل حول تاريخ أبطالنا اليمنيين بكل فئاتهم ومشاربهم وانتماءاتهم، وكم كانوا أناسا رائعين عكس ما سمعنا وقرأنا عنهم، أو قيل عنهم من خصومهم، أو ممن لا يعرفهم حق المعرفة، لكن حس الصحفي وروح الكاتب ودماثة الإنسان التي تسكن ابن الشيخ أبت إلا أن تعيد كتابة التاريخ الإنساني النبيل لأنبل اليمنيين، الذين لم نفهمهم وهم بيننا أحياء، ولم نعرف جوهرهم الإنساني النبيل بعد رحيلهم عن وجه هذه الأرض.
كتاب "شهقة الفجر" يحتاج إلى إنصاف من أجل إنصاف الكوكبة الإنسانية، التي يتمحور الكتاب حول شخصياتهم ومواقفهم، وهناك الكثير من الشخصيات نسمع بها لأول مرّة من ابن الشيخ، ولكن بفضل ذاكرته المتَّقدة استطاع إحياءهم على الورق، وفي نفوسنا، وفي ذواكرنا الضعيفة والهشّة.
ويكاد ابن الشيخ يقترب من أغوار نفوس الشخصيات التي يتحدّث عنها ويحييها، وكأننا أمام لوحة جميلة لرسَّام بارع، أو عالم نفس مُتمكن.
ومن هذه الشخصيات، التي أدهشني حولها، شخصية العم محمد، وهو العميد محمد علي الأكوع، الذي تميّزت شخصيّته بالصراحة الجارحة، وقول الحقيقة حتى على نفسه، وخاصة حين اتهموا عبد الغني مطهر بسرقة أموال بيوت الإمامة عقب ثورة سبتمبر، فاعترف قائلا: "إن من سرق كل ذلك هو أنا محمد علي الأكوع"، وقد كان رئيس لجنة "الجرد" لتلك الأملاك؛ هذا موقف.
وهنا أستند إلى موقف صدامي مع محمد علي الأكوع في صحيفة الأسبوع، حيث نشر فيها قصة قصيدة للشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان بعنوان "فاخرا جئت"، وهي قصيدة طويلة، ومن أجمل القصائد التي كتبها الفضول.
قال العم محمد إنه كان حاضرا عندما ألقى الفضول القصيدة في مدح علي عبد الله صالح، عندما منحه وسام الآداب والفنون مع كوكبة من الشعراء؛ بينهم البردوني، والمقالح، والمرشدي، ومحمد سعيد جرادة، وغيرهم، مطلع عام ١٩٨٢م.
قال محمد علي الأكوع إنه التقى الفضول خارج القاعة، وأسر له قائلا: لقد مدحت علي عبد الله صالح بقصيدة صاحبك إبراهيم الحمدي، وهو الأمر الصحيح، فقد كانت القصيدة قِيلت في مدح إبراهيم الحمدي.
أخبرتني عزيزة النعمان -زوجة الفضول- أنه حينما طلب من الفضول الطلوع إلى صنعاء لتكريمه أخبرها بأن ليس في قلبه شيء ليقوله في مدح صالح.
قال الأكوع، في المقال نفسه، إن الفضول استاء كثيرا من الأكوع إلى درجة أنه سب وشتم.
ولقد أثبت في كتابي "الظمأ العاطفي" أن القصيدة كانت في مدح الحمدي وليس صالح، وبقي أحد أولاد الفضول متمسكا بأنها في مدح صالح لأغراض شخصية.
وهنا اختتم هذا المقال بأن ابن الشيخ، وكتابه "شهقة الفجر" يصحح ويصوِّب أحداث مهمّة في حياة اليمنيين السياسية والأدبية والثورية والثقافية والإنسانية.