مقالات
أبو الرُّوتي (2)
مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".
ثم يتساءلون قائلين:
"ابن من هذا الولد المُمْخِط؟".
وكنت أنا أتألم وأزعل، وأشتم كل هؤلاء الذين يقولون عنِّي إني مُمْخِط، وأرد عليهم قائلا:
"أنا أُمخّط أمهاتكم".
وكانت أمِّي تزعل لزعلي، وحتى تواسيني، وتخفف عنّي تقول لي، وهي تمخِّطني:
"مُخَّاط ابني عسل".
وفيما كانت تعزو مُخَّاطِي إلى مَرض في أنفي، كانت جِدتي تقول إن عينًا أصابت نُخرتي، التي كانت أحدّ من السَّيف.
وعندما عرضتني أمي على السيّد عبد اللطيف الصوفي، عالجني بالكيِّ، وكَوَاني بمِيْسم في قذالي، لكن مِيْسمه ذاك تسبب بفقدي حاسة الشَّم، وهي الحاسة التي بسببها حُرمت من شَم روائح الزُّهور والعُطور، وتلك المنبعثة من أجساد النِّساء.
كان شُبَاطَة قد أوجعني بكلامه، لكنِّي -لفرحتي بوجوده بعد ضياع- تصرّفتُ كما لو أنّي لم أسمعه، ثم أنه هو نفسه راح يسألني عن القرية، ورحت أنا أجيب عن أسئلته الواحد بعد الآخر، وبدا مرتاحاً مِني، خصوصاً عندما قلت له إن هناك أمطارا غزيرة في القرية، والسقايات امتلأت بالماء.
وبعدئذٍ -وقد رأيته فرحاً ومنبسطاً من الأخبار التي نقلتها له- تشجعتُ، ووسوست لي نفسي أن أسأله عن السِّينَما، وقلت له:
"أين هي السينما -يا شُبَاطَة؟".
ولحظتها، التفت إليَّ بغضب، وقال لي:
"مو تشتي بالسِّينَما تسأل عنها؟!!".
قُلت - وقد أفزعتني التفاتته الغاضبة-:
"ولا حاجة".
قال بنبرة تهديد:
"هيا أوبه تروح السِّينَما تِتْمَخْنَث.. السينما ما يدخلوها إلا المَخَانِيث والمُعَرَّصِين، ولو عرفت أنك دخلت السِّينما والله لا أكلم أخوك سيف، واخلوه يرجعك القرية".
وكان لكلماته وقع مثل وقع السِّياط، حتى لقد شعرتُ من ردة فعله بأن السِّينما مكان تُمارسُ فيها الفاحشة، وبعد كلامه هممت بالانصراف، لكنه مسك بيدي، وقال لي:
"تعال أنا عازمك على عَشا".
وطلب منِّي أن أقول له ما هو العشا الذي اشتهيه:
"قل لي ما هو اللي في نفسك!".
ومثل الحِمار المضبوع، الذي يقوده خوفه ناحية الضّبع، قلت له: "سِيكْرِيم".
ولا أدري كيف فلتت مِنّي هذه الكلمة، رغم حِرصي على عدم التلفظ بها، وللمرة الثانية التفت شُبَاطَة ناحيتي بغضب، وقال لي:
"أنت غَلاَّبِي من قرية جد الغلَّيْبَةْ، خليك رجال، السِّيكريم هذا حق المايعين على شان لما يبوِّسُوهم يكون طعم مشافرهم حالي".
قال ذلك ولاذ بالصَّمت، وظل يمشي أمامي، وأنا أمشي خلفه، وفي نفسي خوف من ردود فعله الغاضبة على كلامي، وحتى لا أثير حنقه أكثر، مشيتُ خلفه صامتاً.
ثم وقد خرجنا من السوق الطويل، واقتربنا من الميدان، التفتَ جهة اليمين، وقال لي مُحذِّراً، وهو يشير إلى محل في مدخل الميدان:
"هذي المِقْهاية -يا عبد الكريم- اسمها مقهاية زكُّو، أُوبِهْ تدخلها، لو دخلتها شِخَنّثُوك، ذانا كلمتك وحذّرتك".
ومن بعد، كنت كلّما مررت من جَنب مِقْهاية "زكُّو"، أَمُر مُسرعا، ولا ألتفت إلى اليمين، ولا إلى الشمال، وكنت عند مروري جنبها تعتريني قشعريرة رُعب شبيهة بتلك القشعريرة التي كانت تعتريني في القرية عند مروري في الليل، قريبا من تلك الأماكن التي تعارف أهل القرية على أنها مسكونة بالجن والعفاريت.
بعد وصولنا الميدان، قادني شُبَاطَة إلى إحد المطاعم، وكانت تلك أول مرة أدخل فيها مطعم، وأجلس فوق كرسي، وأمامي الطاولة، وشعرت كما لوأنني في مدرسة "البعث"، بقرية "بني علي"، فقد كان فيها كراسي نجلس عليها، وطاولات لها أدراج نكتب فوقها، ونضع دفاترنا في أدراجها، لكن طاولات المطعم كانت من دون أدراج، وكانوا يضعون فوقها صحون الأكل، وعندما أحضروا لي العشا بدوتُ مترددا، إذ لأول مرة أرى طعاماً غريباً، وحين لاحظ شُبَاطَة ترددي، قال لي:
"مالك ما تأكل؟!".
قلت له، وأنا متردد: "مُصْلو ذا؟ زُرْمَةْ والا بُرعِي؟".
قال، وقد اكتسى وجهه بالغضب:
"الزُّرْمة والبُرعي بالقرية عند امك، هذي فاصوليا أكل السلاطين".
وعندما مددتُ يدي، وتناولتُ أول لقمة، وطعمتها، صدقتُ ما قاله شُبَاطَة بأنها أكل السلاطين.
كانت لذيذة الطعم بشكل لا يصدق، وقلت له -وأنا مستغرق في الأكل-:
"عدن جَنة -يا شُبَاطَة".
قال شُبَاطَة: "عدن جهنم، ونار الله الموقدة".
وفعلا كان شُبَاطَة على حق، فقد كان الحر في عدن شديدا لا يُطاق، ويُذكِّرك بنار جهنم، لكن الفاصوليا اللذيذة بدت لي كما لو أنها طعام أهل الجنة، والولد العدني الذي رأيته يمر من جنبي راكبا دراجته أشعرني بأنه يعيش في الجنة، وبدا لي بأن أطفال عدن جميعهم لديهم دراجات حتى أنني كنت إذا أبصرتُ طفلا من دون دراجة اعتقدت بأنه قروي مثلي، وليس من أولاد عدن.
عندما لاحظ شُبَاطَة أني أجهزت على طبق الفاصوليا، صاح مناديا المباشر:
"واحد فاصوليا لحقة".
لم أفهم ما هو المقصود بقوله: "واحد فاصوليا لحقة".
ثم سألني:
"هل رحت بيت جدك علي إسماعيل؟".
لكني لشدة استغراقي في تنظيف الطبق، لم أسمعه.
فسألني ثانية بنبرة عالية:
"هل رحت بيت جدك علي إسماعيل؟".
قلت له: "لا".
وواصلت لحس بقايا صلصة الفاصوليا في قاع الصحن.
وحين لاحظ ذلك، غضب مني، وقال لي:
"لا تلحّس الصحن، أنت في عدن مش بالقرية".
قال لي ذلك، وهو مستفز من سلوكي الذي سبب له الكثير من الإحراج.
قلت له: "نحنا بالقرية نخُط ونلحّس -يا شُبَاطَة".
قال: "أنت في عدن مش بالقرية.. هنا عيب واحد يلحِّس الصحن، والا يلحِّس أصابعه، كن افهم الكلام".
وعندما وضع المباشر صحن الفاصوليا اللحقة أمامي، قلت بيني وبين نفسي: "عندنا في القرية لو يكمل الأكل نقوم، ولو ما شبعنا، أونا باين عليهم عندهم أكل كثير، والواحد لو يكمل الأكل، وعاده ما شبعش يغرفوا له، ويقوم وهو شبعان".
وبعد أن كنت في الطبق الأول آكل بسرعة، وأ-مي باللقم إلى معدتي مثلما ترمي أمي بقطع الحطب في الموقد، رحت في الطبق "اللحقة" آكل على مهلي، وبدون عجل، واسترجع تجربة ضياعي، وكيف أن ربنا رحمني وأرسل إليَّ شُبَاطَة ينقذني.
كانت الفاصوليا قد رفعت معنوياتي، وعدَّلت مزاجي، وجعلتني في مزاج رائق، وفي أجمل حالاتي، حتى إنني سامحتُ شُبَاطه لقوله عني "إنني مُمْخِط".
وأردت بعد أن عدّلت الفاصوليا مزاجي أن أوضح له بأنني لم أعد ذلك الطفل المُمْخِط الذي كنته في القرية، لكني أحجمت عن الكلام حين رأيتُ سائق السيارة "اللاندروفر"، الذي ركبت معه من الراهدة إلى عدن، يدخل المطعم هو ومساعده "الجُرِشْبِل".
وبعد دخولهما، توجَّست خوفاً منهما، وخفتُ أن يكلما شُبَاطَة عني.
كانا قد جلسا في الطاولة المقابلة لطاولتنا، وأول ما شاهدني "الجرشبل"، قال مُخاطبا شُبَاطَة:
"أيش يوقع لك هذا الولد؟".
قال شُبَاطَة: "من قريتي".
وبعدئذ، راح مساعد السائق يشكوني إلى شُبَاطَة، ويقول له إني وسخت السيارة من كثرة ما تقيّأت، لكن شُبَاطَة راح يدافع عني، ويقول له إن أي شخص يركب السيارة لأول مرّة لا بُد أن يُصاب بالغثيان ويتقيَّأ، ويفعل ما فعلته نفسه.
قال له الجُرُشْبِل إني كنت قليل أدب، أتقيَّأ فوق السيارة، وفوق الركاب، وفوق هذا أسبهم، وأشتمهم.
وبعد كلام الجُرُشْبِل، التفت شُبَاطَة إليَّ التفاتة غاضبة، وعندها استقرت اللقمة في حلقي، ورفضت تنزل إلى معدتي، وكدت "أشرغ" بها، وبسرعة صب شُبَاطَة ملء كأس ماء، وقدَّمه لي لأشربه.
وبعد أن شربت الماء، ونزلت اللقمة من حلقي إلى معدتي قلت له: "كذاب -يا شُبَاطَة- أنا كنت أطرش إلى خارج السيارة، والريح ترجِّع الطرش حقي إلى داخل السيارة، وكانوا الركاب يسبُّوا لي، وبعدما سبوا لي سبيت لهم".
ثم تكلم السائق، وقال مخاطبا شُبَاطَة:
"لو أنا داري ما كنت ركّبته معي، مش على الطرش، الطرش سهل، كلهم اللي يركبوا السيارة لأول مرة يغثُّوا ويطرشُوا كبار وزغار، لكن على التعب والخسارة والمشاوير، أول ما وصلنا عدن الركاب كلهم نزلوا من فوق السيارة، وهو مش راضي ينزل، ويقول لي إن إخوته وأخواله بايجوا إلى عند السيارة يستقبلوه.. ومرت ساعة، لا إخوته أجو يستقبلوه، ولا أخواله، ولا هو داري أين يروح، وقلت جاهل حرام أسيبه في الشارع، ولما سألته، وقلت له: أين هم إخوتك؟ وليش ما أجو يستقبلوك؟! قال: مو درَّانا!!
قلت له: كيف نزلت عدن؟ ومن اللي كذب علوك وقال لك إن إخوتك وأخوالك با يجوا لا عند السيارة يستقبلوك؟!
قال لي إن جدته أعطيته أجرة السيارة، وقالت له إخوته وأخواله با يجوا يستقبلوه، وهو صدقها، ونزل عدن وحده".
وسأل شُبَاطَة السائق، وقال له:
"وبعدين أيش عملت؟".
قال السائق: "بعدها قلت له: أين إخوتك يشتغلوا؟
قال: أخوه سيف يشتغل بالفرم".
وراح شُبَاطَة يسأل السائق، والسائق يحكي له كيف أنه طاف شوارع عدن بسيارته ومر على المخابز والأفران يسأل عن أخوه سيف، وكيف أنه في الأخير أوصله إلى مخبز في سوق الاتحاد.
وعندما انتهى، قال مخاطبا شُبَاطَة، وهو منفعل:
"بالله عليك أيش من ناس هؤلاء، يخلوا واحد جاهل ينزل عدن وحده؟!!".
وعندئذٍ التفت لي شُبَاطَة التفاتته الغاضبة، وقال لي:
"كيف تنزل عدن وحدك؟".
قلت له: "يا شُبَاطَة أنا أسرح للراهدة بعد الحمار وحدي، وارجع من الراهدة بالليل وحدي".
وعندها ثار شُبَاطَة، وصرخ قائلا: "أنت باين عليك حمار ما تفهم، هذي عدن مش هي الراهدة، والله لا يشلوك عيال الحرام إلى ساحل أبين ويخنثوك، ويرجموا بك بالساحل، ولو نجيت منهم بايشلوك الجَبَرْتْ لابنجلة الشيطان".
وكان كلام شُبَاطَة عن الجَبَرْتْ قد سقط مثل حجر في بئر ذاكرتي، وأيقظ أكثر الذكريات رُعبا، وتذكّرت تلك الليلة التي رأيتُ فيها من سطح بيتنا رجال وفتيان القرية، وقد خرجوا بالفوانيس، والمشاعل لملاحقة الجَبَرتْ.
ومن سطح بيت جِدي تناهى إلى مسامعي صوت جدتي تُحدِّث زوجة خالي محمد، وبنت خالي عبد الوهاب عن الجَبَرْتْ، وتقول لهن إن الجَبَرْتْ يجيئون في "كوانين".
ولم أعرف ماذا تقصد جدتي بقولها إن الجَبَرْتْ يأتون في "كوانين".
وحين سألتها "حَمَام" -زوجة خالي محمد- عن السر في أنهم يأتون في "كوانين!!؟
قالت لها جدتي إنه في "كوانين" يكون الجو مغيِّماً، والجَبَرْتْ يفرحون بالغمام؛ لأنهم أيام الغمام يروننا، ونحن لا نراهم.
وسألتها "مُنى" -ابنة خالي عبد الوهاب- عن بلاد الجَبَرْتْ؟!
قالت لها جدتي: "بلادهم غُدْرَةْ ما فيهاش شمس، وشمسهم الغمام".
ولم استطع ليلتها أن أكتفي بالاستماع، فسألت جدتي:
"لِمَوْ الجَبَرْتْ -يا جدة- يخطفوا الجُهَّال، وما يخطفوش الكبار؟".
قالت جدتي: "الجهال دمهم غالي".
وظننتها تقول إن دمهم حالي.
وسألتها عما إذا كان الجَبَرْتْ يذبحون الأطفال، ويشربون دمهم الحلو؟!!
قالت جدتي: "لا، ما يذبحوهمش، ولايشربوا دمهم، بس يسمِّنوهم، وبعدا يعلِّقوهم للسقف، وبعد ما يعلقوهم، يتغِّزوهم بالإبر، ويعملوا تحت كل واحد صحن، والدم ينطُف لا داخل الصحن، ويقول:
طُفْ طُفْ طُفْ. وكل نطفة تنطُف لا داخل الصحن ترجع جنيه ذهب".
كان شُبَاطَة يسألني، وأنا شارد الذهن، أسترجع كلام جدتي عن الجَبَرْتْ، وعن قطرات الدَّم التي تتساقط من أجساد الأطفال المخطوفين، والمعلَّقين، وكان أكثر ما أرعبني -في حديث جدتي- هو صوت سقوط قطرات الدم من أجسادهم المثقوبة بالإبر:
"طُفْ طُفْ طُفْ"، وكيف أن كل نطفة تقع في الصحن تتحول إلى جُنَيه ذهب.
وحتى يوقظني شُبَاطَة من شرودي، صاح بي محتدَّاً:
"أين أنت؟ أين راح حسك؟ أين عقلك؟".
قلت له وقد أيقظني من شرودي:
"مو قلت -يا شُبَاطَة؟".
قال: "ليش جدتك خلّيتك تنزل عدن وحدك؟".
قلت له: "جدتي بعدما مات الحمار حقنا قالت لي انزل عدن أكمِّل دراستي".
قال شباطة، وقد تفاجأ بكلامي عن موت الحمار:
"مو تقول ياب!! حماركم مات!! كيف مات؟".
ورحت أكلم شُبَاطَة عن موت حمارنا، وقلت له إنه أثناء عودتي من الراهدة فاجأني سيل قوي وسط وادي الشويفة، وبعد أن أبصرتُ السيل، وسمعتُ دويه، ربطتٰ الحمار عرض شجرة، وطلعتُ فوقها، لكن السيل من قوته سحب الحمار.
(شُبَاطَة يُشكك بروايتي حول مصير الحمار، ويتهمني بأنني وضعته في طريق السيل، لكيما أتخلص منه، وأنزل عدن)..
لكن شُبَاطَة راح يُشكك بروايتي حول موت الحمار، وقال إني من شدة رغبتي بنزول عدن، وضعته في طريق السيل، وأنكر أنني ربطته عرض الشجرة.
وواصل قائلا بنبرة محتدَّة واتهامية:
"بعد ما قال السواق إنك نزلت عدن وحدك، تأكد لي أنك هربت على جدتك. وأنك سبب موت الحمار".
ووافقه السائق ومساعده، وقالا له إن هناك أطفالا كثيرين ينزلون عدن من دون عِلم أهلهم، وأولياء أمورهم.
وحتى يُرضي السائق ومساعده ويُثبت لهما إن له سلطة عليَّ قال لي:
"نزلتك عدن غلط، أيش نزَّلك؟! وايش نزلت تعمل؟!".
وحين قلت له إني نزلت أدرس، قال لي:
"دراسة بعدن مش ممكن، أين با تجلس عند من؟! إخوتك ما عندهم بيوت، وكل واحد في مكان، ومشغول بعمله، من با ينتبه لك، لو رحت تتصعلك؟!".
قلت له – وقد جرحني بكلامه-:
"أنا نزلت عدن أدرس ما نزلتش أتصعلك".
قال: "كيف ما نزلتش تتصعلك، وانا لقيتك بالليل تتصعلك بالشارع، انت صورتك حق صعلكة مش حق دراسة".
وبعد أن صمت لثوانٍ، قال وكأنه وجد حلا لمشكلتي:
"أنا باكلم أخوك سيف يرجّعك القرية".
قلت له: "أنت مو دخَّلك!!".
وبمجرد أن قلت له: "أنت مو دخَّلك"، ثار وهاج، وقال بنبرة تهديد:
"با ترجع القرية غصباً عنك، أنت ما لقيت من يربوك، ولو أنت جلست بعدن بتضيع".
لحظتها دارت الدنيا في رأسي، وأظلمت، حتى إني بعد خروجنا من المطعم، ولشدة حنقي من كلامه مشيت بخطىً سريعة باتجاه سوق الطويل، وكانت نيتي أن أهرب منه، وأعود إلى السوق الذي ضعت فيه،لكنه لحق بي، وقال لي:
"تعال أوصِّلك إلى بيت جدك علي إسماعيل".
قلت: "ما أشتيش أروح بيت جدي، ولا أشتي أمشي معك".
ولم أستطع -من شِدّة ما جرحني بكلامه- أن أحبس الدموع في عيني، لكنه -وقد أبصر وجهي مغتسلا بدموعي- قال لي:
"مالك!! خينا زعلت من كلامي!!".
قلت: "أيوه، أنت جالس تفجّعنا، وتقول لي: ما دري أيش؟ وبعدا مو تشوفنا أهبل!".
وحتى يقنعني بأنه على حق قال لي: "أنت غلابي من قريتي، ومن حقي أنصحك، وأحذرك لمصلحتك، ولازم تعرف أن عدن غير القرية، بالقرية لو واحد ضربك أهلك هم اللي من حقهم يضربوا اللي ضربك، أو يسامحوه، أما هنا في عدن لو واحد من عيال عدن أو من غير عيال عدن ضربك فهو ما ضربكش وحدك وإنما ضربنا كلنا أصحاب قريتك، ولو شتمك أو أهانك فهو شتمنا وأهاننا كلنا، ومسؤوليتنا -أبناء قريتك- أن ننتقم لك؛ نضرب من ضربك، ونشتم من شتمك، ونهين من أهانك، وأنا من خوفي عليك قلت أحذرك، وأنصحك، وبعدا أشتي أقول لك أنا وسيف أخوك أكثر من إخوة، فلا تزعل منِّي".
وكان شُبَاطَة من النوع الذي يتَّهم ببساطة، ويصدر أحكاما على الناس بسهولة، وكان الوهم هو الغالب على تفكيره، وكل ما يتوهمه هو الحق، وهو الحقيقة، ولو شعر بأن هناك من يشكك في أوهامه، واتهاماته وأحكامه يُقسم يمينا تلو اليمين بأن ما قاله عن فلان أوعلان صحيح كل الصحة.
وبعد أن قال لي إنه وأخي سيف أصحاب، وطلب مني أن ل اأزعل منه، قلت بيني ونفسي:
"شباطة هذا باين عليه طيب، وينصحنا لمصلحتي".
وفي طريقنا إلى بيت جدي، وقد ذهب زعلي منه، كان في ذهني سؤال عن تلك الأخشاب المركوزة في الشوارع والميادين، التي تضوِّي، ويصدر عنها ضوء. كانت قد لفتت انتباهي، وأثارت استغرابي منذ وصولي عدن، وقلتُ أسأل شُبَاطَة عنها:
"مُصْلِهِن هاذِنْ الخشب -يا شباطة؟!".
قال لي شُبَاطَة: "أيش من خشب؟".
قلت له: "الخشب اللي يضوَّيْنْ".
وأشَّرت باتجاه واحدة.
قال: "هَاذِن كامبات حق الكهرباء!!".
قلت: "أيش هي الكهرباء؟".
قال يحذّرني: "أوبه تقرب جِناب الكهرباء، لو قربت جَنبها ولمستها با تمسكك مسكة أعمى، وما با تفلِّت لك إلا بعد ما تطلع روحك، وتمص دمك".
قلت له: "هو ضوء -يا شباطة- كيف با يمسكنا، وليش لما كنا بالقرية نمسك الفانوس، والا التريك ما يمسكنا؟!!".
غضب شُبَاطَة من كلامي، وقال لي محتدًا:
"هذي كهرباء تمسكك، وتمسك أكبر كبير، مش هي فانوس أمك".
وكنت أنا أزعل عندما يغضب مني، ويذكر أمي، وأقول بيني وبين نفسي:
"خلاص أسكت لي وأمشي ساكت".
لكن الفضول كان أقوى من رغبتي، ومن إرادتي، وفيما نحن نمضي باتجاه بيت جدي قلت له:
"بيت جدي جَنب البحر -يا شُبَاطَة- والا بعيد؟".
ولحظتها التفت إليَّ التفاتته المعهودة، وقال لي محذِّرا:
"أوبه تروح البحر".
قلت له، وأنا مستغرب: "لِمَوْ؟".
قال: "أيش با تروح البحر تعمل؟".
قلت: "أروح أسبح، تحسبنا ما أعرفش أسبح!! أعرف".
ورحت أكلمه، وأقول له إنني تعلمت السباحة في بركة جدي علي إسماعيل، وفي كريف السيِّد محمد ناجي صالح.
وعندها استشاط شُبَاطَة غضبا من كلامي، وقال لي:
"هذا بحر.. بحر.. مش هو بركة جدك، ولا هو كريف السيد!!".
قلت مؤكدا كلامه: "داري أن البحر كبير، شفته بعيوني، وشفت الحيتان".
والتفت شُبَاطَة يسألني:
"فين شفت الحيتان؟".
قلت له، وأنا خايف من رد فعله:
"شفتهن من فوق السيارة ونحنا داخلين عدن".
قال لي: "اللي شفتهن قوارب ومراكب مش هِن حيتان".
وكنت قد سمعت وأنا في القرية أن البحر فيه حيتان كبيرة؛ لكن بسبب البُعد وضعف نظري كنت أرى من فوق السيارة أشياء عائمة جهة المعلا والتواهي، وظننتها حيتانا، لكن شُبَاطَة لم يقتنع يومها بكلامي، وقال إن ما رأيته من فوق السيارة هي مراكب وقوارب الصيادين وليس حيتانا.
وعندما ذهبت لزيارة أخي عبد الحليم في التواهي تبيَّن لي أن كلام شُبَاطَة صحيح، وأن ما شاهدته كان عِبارة عن مراكب وقوارب الصيادين، وليس حيتانا.
أتذكَّر يومها أني سألت أخي عبد الحليم عن الحيتان، فقال لي:
"الحيتان موجودة في البحر، لكنها تعيش تحت الماء".
قلت له: "والمراكب ليش ما تنزلش تحت؟!".
قال: "المراكب تبقى فوق البحر، ولو نزلت تحت تغرق، والحيتان تبقى تحت الماء ولو طلعت فوق تموت".
وبعد التحاقي بالمعهد العلمي الإسلامي صف رابع ابتدائي؛ طلب منَّا مدرس اللغة العربية -في حصة التعبير- أن نكتب موضوعا عن البحر، وحدث أن كتبت كلام أخي عبد الحليم بالحرف، وقلت:
"المراكب تبقى فوق البحر، ولو نزلت تحت تغرق، والحيتان تبقى تحت ولو طلعت فوق تموت".
ويومها أعطاني المدرِّس علامة صفر، وحين ذهبت إليه أتظلم قال لي إني كتبت عن المراكب والحيتان، ولم أكتب عن البحر.