مقالات

أبو الرُّوتي (22)

17/02/2025, 18:58:26

كان عملي في مخبز صِهري عبد الوهاب هو بيع  الرُّوتي،  وكنت أقف من الساعة  السابعة صباحًا في "المَفْرَش" أستقبل الزبائن، والبِّي طلباتهم؛ استلم منهم الفلوس، وأسلّمهم أقراص الرُّوتي، بعد أن ألفَّها بورَق الجرائد.

وفي الساعة التاسعة أو التاسعة النصف صباحًا، أحمل "الطاسة العُظمَى"، وأذهب لَأحضِر الفطور ليَ وللعمّال من المطعَم.

وكان هناك مطاعمُ شعبيةٌ من الصَّفِيح والخشَب خلف "مسجد النور"، لكنِّي كنتُ أذهبُ إلى مطعم شخصٍ اسمه توفيق.

وكان توفيق هذا من منطقة المقاطرة، لكنَّه كان مشهورا بطباخَة الفاصوليا، وكان للفاصوليا، التي يطبخها، صِيْتٌ وسُمعة، كانت لذيذة إلى درجة لا تُصدَّق، وكان لها طعم غير الطعم، ومذاق غير المذاق، ورائحة غير الرائحة، والأهم من كل ذلك كان لها روح.

وكنت أعود من المطعم والعمَّال  ينتظرونني على أحر من الجَمر والجُوع، وأمامهم رصَّة من أقراص الرُّوتي السَّاخن.

وبمجرد وصولي، يتحلقون حول "الطاسة العظمى"، ويفتتحون الوليمة باسم الله، وبعد أن يبسملوا يهجمون على  الطاسة كلٌ حسب قدرته، ولكلٍ حسب جوعه، ويأكلون بشهية لا حدود لها، وبحماسٍ منقطع النَّظير.

وأما أنا فكنت أشعر بأن تلك الفاصوليا لا تغذِّي جسدِي فقط، وإنما تغذِّي روحي، وتنقلني من الواقع إلى الحلم، ومن العادي إلى الخارق.

حتى إنني كنت أكتفي بالصَّبوح، وأذهب إلى الكلية من دون غدا، وأظل من دون أكل حتى موعد تقديم العشاء.

وذات يوم، حدث أنَّ ولدًا بوجهٍ أنثويٍ، وتقاسيم أنثوية، ادَّعى كذبًا بأنه دفع لي ثمن الرُّوتي، وحين رأيته يهمُّ بالمغادرة والرُّوتي معه جريتُ خلفه، ومسكتُ به، وقلتُ له وأنا أفور من الغضب:
- "والله ما تخرج إلا بعد ما تسلِّم قيمة الرُّوتي".

لكن الولد بدلا من أن يدفع ثمن الرُّوتي دفعني بكلتا يديه، وأسقطني أرضًا، ثم انقض عليَّ، وراح يوسِعني ضربًا، ويكيلُ ليَ الضَّربات، واللَّكمات، ثم لكَمني لكمةً جعلت الدَّم يندفع بقوة من نُخَري، ولولا أن العمَّال تدخلوا وفصلوا بيننا لما نجوتُ منه.

وحين نهضتُ من الأرض، كان جسدي مثخنًا بالألم، وقميصي ملطّخاً بالدَّم والدَّقيق، لكن أكثر ما أوجعني هو أن "المَسْتَرِيْ" شهد بأن الولد أعطاني ثمن الرُّوتي، وأنه أبصره بعينيه وهو يناولني الثَّمن.

وعند مغادرتي المخبز لحق بي "البَطْرَوَالَة" إلى الشارع، وراح يهمس في أذني ويقول لي إنَّ هناك علاقة بين الولد الذي ضربني وبين "المَسْتَرِي"، وحين لاحظ بأنني لم أفهم قصده، قال لي:
-"المَسْتَرِي لوطي من قوم لوط"، وكانت تلك أول مرَّة أسمع بالكلمة (لوطي)، وبقوم لوط.

يومها عُدت إلى البيت وأنا متألم من ضرب الولد العَدَني، ومتألِّم أكثر من "المَسْتَرِي"، الذي شهد لصالحه.

ولشدة ما كنت متألمًا ومقهورًا لم أذهب يومها إلى الكلية، وإنما استلقيتُ فوق السرير، ورحتُ أنتحبُ بصوتٍ لا يكادُ يُسمَعُ، وما لبثتُ أن نمتُ وغرقت في النوم.

وفي  صباح اليوم التالي، حين ذهبتُ إلى المخبز، ذهبتُ وأنا زعلان من "المَسْتَرِي"، وأول ما وصلتُ دخلتُ في شجار معه، وقلت له:
"أنت لوطي من قوم لوط".

وكان أن تفاجأ "المَسْتَرِي" بكلامي، واندفع نحوي ليضربني، لكنٍِي هربت من أمامه، ورحت أشتمه من مسافة، وأكرِّر ما قلته له.

ولشدة ما كان غاضبًا منِّي شكاني لصهري عبد الوهاب، وطلب منه أن ينقلني من المخبز إلى محل آخر، ولم يكن المحل الذي انتقلت إليه مخبزًا، وإنّما كان محلًا لبيع الرُّوتي  في حارةٍ بطرف المدينة يُعشعش فيها البُؤس.

وقد شعرت بعد انتقالي إليها بالغضب من صهري، الذي نفذ طلب المَسْتَرِي، ولم يعترض.

كان  المحل، الذي انتقلت إليه، أشبه ما يكون بالمنفى وليس فيه أحد غيري، وكانوا يأتون بالرُّوتي من المخبز الرئيس في "حارة دُبَعْ"؛ لكي أبيعه في المحل لسكان الحارة الفقراء.

وقد شعرت من أول يوم بضيق وضجر، ووجدتني محرومًا من تلك الوجبة الصباحية الرائعة التي كنت أتناولها مع العمَّال، والتي كانت تبقيني في حالة شبع حتى المساء.

وبعد مرور يومين أو ثلاثة أيام على انتقالي إلى المحل الجديد، حضرت فتاة في غاية الجمال، وطلبت مني أن أبيع لها خمسة أقراص روتي بالدَّين وأعطيتها.. وفي اليوم التالي، حضرت وطلبت الطلب نفسع وأعطيتها.. وفي اليوم الثالث واليوم الرابع، وهكذا لمدة أسبوع كامل، وأنا ابيع لها خمسة أقراص روتي دينًا.

وفي نهاية الأسبوع، حضرت  ودفعت لي الثمن. ثم وقد دفعت ما عليها من دين سألتني عن السبب، الذي جعلني أعطيها الرّوتي بالدين المرّة بعد الأخرى؟!!
 قلتُ لها: "كنت داري إنك أمينة".
 
قالت: "كيف دريت إنني أمينة وانت ما تعرفنيش؟".

قلت لها: "قلبي كان داري".

وحين قلت لها ذلك، ابتسمت ابتسامة أصابتني في القلب، وتركتني مصابًا بها، ومن حينها نسيت "المَسْتَرِي" الحقير الذي أوجعني بشهادته، ونسيت صهري الذي نقلني من المخبز بطلبٍ منه، ونسيت الولد العَدني الحلو الذي ضربني أمام العمًال ومَسح بي الأرض.

وكذا نسيت البنت رَشِيدة، التي كان حضورها يملأ قلبي فرحًا وغبطة، والبنت يَاسِمين التي صارت مصدقةً نفسها بأنها مغنِيّة وبأنني ملحِّن.

نسيتهم جميعا، ونسيتهن، ولم يبقَ في ذاكرتي سوى تلك البنت الجميلة، التي بفضلها تحوَّل ذلك المكان المُقرف  والمضجر والكئيب إلى قِطعة من الجنَّة.

وكل يوم كانت تلك الفتاة - التي نسيت اسمها- تمر بالمحل لشراء الرُّوتي، وأحيانا تمر للسلام، والكلام، وفي كل يوم جُمعة كانت تُحضِر لي الغداء من البيت (رز، وصانونة، وقطعة سمك).

وفي عيد الأضحى، وكان ذلك في العطلة الصيفية، حضرت ظهرًا إلى المحل وهي بكامل زينتها، وأحضرت لي غداء ولحمة العيد، وكانت اللحمة  أكثر من قدرة معدَتي على هضمها. وحين رأتني لم آكل سوى القليل، قالت لي إن لحمة العيد يجب أن تؤكل كاملة، وأنها سوف تخاصمني وتزعل مني، ولن تكلمني إن لم آكلها..

ولخوفي من أن تزعل منِّي، رحتُ آكل، وأواصل أكل اللحمة إلى أن أجهزت عليها.

وفي المساء، وقد عدتُ إلى البيت، حدث ما يشبه الانقلاب في معدتي، ولم أتوقف عن ألقيء والإسهال، وراحت أختي بُنُود تلومني؛ لأنني ذهبت إل. العمل في يوم عيد.

لكن الحقيقة هي أنه لم يكن هناك عمل، ولم يكن ثمة خبز حتى أذهب إلى المحل لأبيعه.

كان العمَّال قد أخذوا إجازة، وسافروا إلى قراهم، وكنت أنا  مثلهم، لكنِّي كنت عاشقًا، وقد ذهبت إلى المحل لكي أكحِّل عينيّ برؤية تلك الفتاة الجميلة، التي كحَّلت مِعدتي بلحمة العيد، وكدت بسببها أرتقي إلى مرتبةِ شهيد.

مقالات

الهويات الصغرى والدولة والإنسان

قد توجد أحياناً أصوات داخل الدّولة تحاول أن تنتصر للهويات الصغرى -إن صح التعبير- على حساب الهوية الجامعة، التي تؤسس للوحدة السياسية، وهناك أصوات من هذا النَّوع بدأت تعلو في السياق اليمني.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.