مقالات
أبو الروتي (6)
بعد خروجي من السينما، شعرتٰ بأني خرجتُ من جلدي، وولدتُ من جديد، ولم أعد ذلك الطفل الذي وصل من القرية، لكني كنت خائفا من ردود فعل الأهل فيما لو عرفوا بأني كنت في السينما، ورحت أقلِّب الفكرة في رأسي، وأسأل عما سوف أقول لهم حين يسألوني عن السبب في عودتي متأخراً!!
وبعد أن فكرت ملِيَّاً قلت لنفسي:
"سوف أقول لهم إنني كنت في بيت جدي علي إسماعيل،
وسمعت صوتاً يقول لي: ولو راحوا يسألوا؟".
ولحظتها تملَّكني الخوف من العودة إلى بيت الحاج، ورحتُ أبحث عن سبب يجعلني أتأخر في العودة، وكان ما جعلني أخاف هو أن الشوارعَ كانت شبه خالية من المارة، ومن السيارات، وحتى الأضواء بدت لي خافتةً، وأقل سطوعاً على عكس ما كانت عليه في أول الليل. وكانت المحلات مغلقة باستثناء تلك المطاعم العشوائية أمام سينما "هريكن"، التي عرفتُ فيما بعد أنها مطاعم يقصدها السكارى الخارجون آخر الليل من البارات.
ولأني خرجت من السينما، وبي جوع، وجيبي مازال منتفخا بالنقود التي أعطاها لي جدي، فقد قادني جوعي إلى واحد من تلك المطاعم الخشبية العشوائية، وطلبت نفر "فاصوليا"، وجلست انتظر، وفي لحظات الانتظار تلك رحت استرجع أحداث الفيلم، واستمتع باسترجاعه، وبدوت مفتونا بفاتن حمامة حتى إن صورتها، وهي تقبِّل عمر الشريف، لم تفارق ذاكرتي.
وفي تلك اللحظة، التي رحت استرجع فيها أحداث الفيلم، دخل رجلان اثنان، وجلسا في الطاولة على يميني، وطلبا طلباً غريباً؛ نوعاً من الطعام لم أكن قد ذقته أو سمعت به: اسمه "جمبري".
وأول ما جلسا على الطاولة أخرج أحدهم قارورة من تلك القوارير التي أذهب مع عامل الفرن منصور لجمعها، وبعد أن وضعاها فوق الطاولة، طلبا من صبي المطعم أن ياتيهما بكأسين، وسرعان ما راحا يشربان، ويتكلمان، لكني لم أفهم من كلامهما شيئا، والكلمة الوحيدة التي سمعتها واستوقفتني هي: "الحرية".
ومع أنني لم أفهم بالضبط معناها إلا أنني كنت أحدس بأن لها علاقة بكلمة الثورة، التي كنت قد سمعتها من أمي:
كانت أمي، في صباح يوم الخميس 26 سبتمبر 1962،
قد أيقظتني من النوم، وراحت تلومني، وتقول لي وهي تتحسس فراشي المبلول:
"الثورة قامت، وانت مكانك تبول".
ولحظتها ترجم عقلي كلمة الثورة على أنها البقرة - أنثى الثور - وخطر في بالي أن بقرتنا التي كانت مريضة تعافت من مرضها، وقامت، وكان أن فرحتُ بقيامها، وقلت لأمي:
"من صدق يما قامت!!".
قالت أمي: "الثورة قامت، والبدر هرب من القصر".
وكان لبقرتنا البيضاء، التي ماتت، عجل أسميناه: "بدر".
وبقدر ما فرحت بقيام الثور ة زعلت حين قالت لي أمي إن البدر هرب من القصر، وكان عقلي قد ترجم لي كلمة القصر على أنه الإسطبل؛ وفهمت من كلامها أن عجلنا بدر هرب من الإسطبل.
ولأنها كانت زعلانة مني لأني تبولت فوق الفراش، قلت أسترضيها، وأخفِّف من غضبها عليَّ، وأخرج بعد العجل الهارب، وأعيده إلى الإسطبل، وقلت لها:
"ولا يهمك يمَّا أنا با أخرج وأرجِّعُه للصَّبْل".
لكن أمي بدت مستغربة من كلامي، وقالت لي:
"شْتَخْرُج ترجِّع من؟!!".
قلت لها: "أرجِّع بدر مش قلتِ إنه هرب من الصبل!!".
وعندها تعجبت أمي من غبائي، وقالت لي إن الذي هرب هو الإمام محمد البدر ملك اليمن، وليس البدر العجل، لكن عقلي لم يستوعب ما قالته، فقد كنت أعرف أن الإمام الملك معه عسكر وجيش، والناس يخافون منه، ومن عساكره، وهم الذين يهربون منه، وقلت لأمي:
"كيف هرب وهو ملك، ومعه عسكر، ومعه جيش؟!!".
قالت أمي بنبرة حادة: "مش قلت لك الثورة قامت".
ولأن الثورة، التي تتحدث عنها أمي، كانت قد ترسخت في عقلي على أنها بقرة، رحت أسألها وأقول لها:
"الإمام هرب من الثورة حقنا، والأمن حقه الثورة؟!".
ولحظتها استشاطت أمي غضباً من غبائي، وقالت لي:
"مُوْ أنت أهبل يا عبد الكريم؟!!".
وراحت تشرح لي معنى الثورة، وقالت إن الناس، الذين يحكمهم الإمام، خرجوا عن طاعته، وعصوا أمره، وأصبحوا ضده بسبب ظلمه، وأرادوا قتله وهو هرب من قصره.
وشرحت معنى القصر، وقالت لي إنه ليس إسطبلا مثل إسطبل البقر، وإنما هو دار ضخمة من عدّة طوابق، يقيم فيه الإمام الملك.
وعندئذٍ عرفت أن كلمة الحرية، التي وردت في حديث الرجلين، قريبة من معنى كلمة الثورة، التي شرحتها لي أمي، وكانت كلمة الحرية قد ترددت عدة مرات في حديث الرجلين، حتى لقد حفظتها، وكانت أول كلمة تستقر في ذاكرتي وتلامس شيئا في نفسي من قبل أن أعرف معناها.
وعندما سألني أحد الرجلين عن السبب في أنني موجود خارج المنزل إلى هذا الوقت، قلت له:
"كنت بالسينما".
- واستغرب الرجلان من قولي إنني كنت في السينما.
وأما صاحب المطعم فقد التفت ناحيتي بغضب، وقال لي:
"عادك زغير مو دخلك السينما؟".
وراح يسألني عن أهلي، وكيف سمحوا لي بدخول السينما، وبالبقاء خارج المنزل إلى وقت متأخر، لكني لُذت بالصمت، ولم أرد عليه، ثم سألني أحدهم عن اسم الفيلم، وقال لي:
"أيش اسم الفيلم؟!".
قلت له: اسمه "صراع في الوادي".
وسألني الآخر:
"هل أعجبك الفيلم؟".
قلت: "أيوا أعجبنا".
ورحت أحكي لهما عن الفيلم، وعن الباشا الظالم، وعن الممثلين وهما يصغيان، لكني استغربت حين قالا لي إنهما لا يعرفان الممثل أحمد بن عبد الوارث عسر، ولا أمل بنت الباشا، وقالا إنهما لم يسمعا باسميهما، وكنت بيني ونفسي أقول: "يا لهم من أغبياء!! ثم ما لبثت أن أدركت أن الغبي هو أنا؛ ذلك لأني كنت اعتبر اسم الممثل في الفيلم هو اسمه الحقيقي.
كان أحدهما يشرب على عَجَل، والآخر يشرب ببطء، وكان الذي يشرب على عَجَلٍ يُكثرُ من الأسئلة.
كانا لطيفين معي، وكانا قد توقفا عن النقاش، وراحا يسألاني عن مكان سكني، وعندما عرفا بأنني أقيم في شارع الاتحاد، وفي بيت الحاج عبد الله صاحب الفرن، قالا لي إنهما يعرفان الفرن، ويعرفان الحاج، وطلبا مني وأنا أهمّٰ بالمغادرة أن انتظرهما حتى يوصلاني بالسيارة.
ثم وقد أجهزا على الزجاجة، وانتهيا من تناول العشاء، أصرا على دفع ثمن الفاصوليا التي طلبتها؛ وقالا إني ضيفهما، وعند خروجنا كان الرجل الذي شرب قليلا هو الذي يسوق.. أما الآخر، الذي شرب كثيرا، فقد جلس إلى جانبه، وجلست أنا في الخلف؛ وكنت سعيدا بالتعرف عليهما، وبالحديث معهما.
وبعد أن أوصلاني إلى شارع الاتحاد المتفرّع من سوق الطويل مشيتُ باتجاه باب بيت الحاج، لكني وقد وجدته مغلقا رحت أقرع الباب وأواصل القرع، وبدلا من أن ينفتح باب البيت انفتح باب الفرن، وسمعت الكرّاني يسب ويشتم ويقول لي:
"أين كنت (....) لاذا الوقت؟".
وأردف قائلا -وقد أغضبه تجاهلي له-:
"الواحد لما يكون ساكن ببيت أبوه، أو ببيت أمه، مش مهم لو راح (.....) وروّح آخر الليل يدق الأبواب، ويزعج النايمين، لكن لمّا يكون ساكن ببيت ناس محترمين مفروض يحترم نفسه".
وطلب مني أن أكف عن طَرق باب البيت، وأدخل أنام بالفرن.
وحين دخلت سألني:
"أيش من سينما دخلت؟".
قلت: "ما سينمتش، ولا دخلت سينما".
قال: "طيب قل لي أين كنت إلى هذا الوقت؟".
قلت له إني كنت في بيت جدي علي إسماعيل، وعند العودة أضعت طريقي، وضِعت.
لكن الكَرَّاني لم يصدقني، وقال لي:
"كذاب كنت بالسينما".
كان يتكلم بيقين، وكنت بيني ونفسي أتساءل:
"كيف عرف أننا دخلت السينما؟ أيش عرّفه؟".
ومثل المحقق حين يطلب من المتهم أن يعترف بجريمته، ويظل يضغط عليه، وعلى أعصابه؛ راح الكراني يضغطُ عليَّ وعلى أعصابي، ويطلب مني أن أقول الصدق، واعترف، وكنتُ كلما نفيتُ ذهابي إلى السينما، وأنكرت؛ يشعر كما لو أني استصغرُ سلطته، وأقلّل من شأنه، واستخفّ به، وكان ذلك يغضبهُ ويجعله يزداد تعنُّتاً وإصراراً على انتزاع اعتراف يرضيه ويشعره بالنصر.
لكنه حين وجدني أواصل الإنكار، راح يغيّر من أسلوبه، ويقول لي بلغة خالية من التهديد، وبطريقة فيها الكثير من اللِّين:
"أنت بس اعترف لي، وأنا أشفع لك عند الحاج، الحاج زعلان منك، سأل علوك، وقالوا له إنك دخلت السينما".
كان الكَرّاني متزوجا من بنت الحاج، وكان هو المحاسب، وهو الكل في الكل، وكانت له سلطة، ولديه القدرة على الحاق الأذى بي، سواء اعترفتُ له بدخولي السينما، أو لم اعترف، وكنت من حين وصولي عدن أتوجّسُ؛ خوفا منه، وقد شعرتُ من طريقة استقباله لي بأنه غير مرتاح من وجودي في بيت الحاج.
كان قد أفصح عن ذلك في اليوم التالي لوصولي عندما سألني، وقال لي:
"ليش نزلت ببيت الحاج، وما نزلت عند جدك علي إسماعيل؟".
ولم يكن يدري بأن المصادفة وحدها هي التي قادتني إلى بيت الحاج، ووضعتني تحت سلطته.
ليلتها وقد عجز عن انتزاع اعتراف مني قال لي:
"ارقد ذحين، وحسابك بكرة الصبح".
أيامها كانت عدن في عزّ الصيف، والحر أشد ما يكون، وكان عليَّ، وقد اقترفت جريمة الذهاب إلى السينما. أن أعاقب بالنوم في جحيم الفرن وفوق أكياس الدقيق؛ بدلا من النوم في سقف بيت الحاج حيث الهوء والنسيم والبرود.
ولو أن ذلك العقاب حدث قبل دخولي السينما، لكنتُ فطستُ من شدة الحر، لكني في تلك الليلة كنتُ أسترجعُ ما حدث في جنة السينما، وإذا بحر الفرن الذي يذكِّر بالجحيم يتحول إلى ما يشبه النسيم.
ثم إن السينما كانت قد شطرت حياتي إلى شطرين، ورفعتني عن الأرض شبرين، وجعلتني أحلّق من دون جناحين.
ومع أني نمتُ ليلتها قرابة ساعتين إلا أنني أستيقظتُ في الفجر وأنا في غاية النشاط، وكنت فرحاً، ومبتهجاً، وسعيداً على غير العادة.
وبعد أن أستيقظتُ ذهبتُ مباشرة إلى المسجد في سوق الحراج لصلاة الفجر،وبعد الصلاة عدتُ إلى الفرن لأستلم "العَانَتَين" مصروفي؛ لكن الكَراني فاجأني بقوله:
"ما فيش مصروف للمسينمين".
ثم تناهى إلى سمعي صوت الحاج وهو قادم من المسجد، وكان يصيحُ بكل صوته قائلا:
"اللي يشتي يسينم يخرج من بيتي".
وكان أن تجمّع العمال حولي، بعد سماع صوت الحاج، وجميعهم راحوا يدينونني ويشهدون بأني دخلت السينما وكأنهم كانوا معي.
وعنادا للكَرّاني، الذي كان قد حرّض الجميع ضدي، رحتُ أنكرُ وأواصل الإنكار.
قال الحاج بعد أن أنكرت:
"قل لنا أين كنت لانص الليل؟".
قلت له إني ذهبت إلى بيت جدي علي إسماعيل، وعند العودة، أضعت الطريق، وبقيت أمشي إلى أن وصلت البحر.
وبدا الحاج مستغربا من كلامي، وقال يسألني:
"مُو ودّوْك البحر؟".
قلت: "ضعتو وضيعتوا الطريق".
قال: "وبعدا كيف عرفت ترجع؟!".
قلت له: "حصّلت اثنين جنب البحر قالوا إنهم يعرفوك، وكان معاهم سيارة، وبعد ما قلت لهم إننا ضعت، وصّلونا لاجنب الفرم، وقالوا لي أبلغك السلام".
وشعرتُ لحظتها بأن الحاج اقتنع بحكاية ضياعي، وأعجبه أن هناك من يعرفه ويبلغه السلام، وعندئذ أمر الكراني بأن يعطيني مصروفي، لكن الكراني، الذي كان مغتاضاً مني، كان عند ما يبصرني يقول لي:
"أهلا بالمُسَيْنم".
وحين ينادي عليّ:
"تعال يا مُسَيْنِم".
وفي غيابي عندما يسأل عني:
"أين هو المسينم؟ صيِّحوا للمسينم".
كان يعتقد أنه بذلك يهينني، ويؤذي مشاعري، فيما الحقيقة هي أنني كنتُ أطربُ، وأبتهجُ، وأبتسمُ ابتسامة تغيظه؛ ذلك أن السينما كانت قد تركت أثرها في نفسي، ومنحتني شيئا ثمينا.
ومع أنني لم أكن أعرف بشكل واعٍ كنه هذ الشيء الثمين الذي خرجت به من السينما إلا أني كنت أعرف على وجه اليقين أنه يستحيل للكرّاني، ولكل صاحب سلطة بعد دخولي السينما أن يذلني، ويخضعني لسلطته.