مقالات

أحمد بن فليتة.. كاتب الدولة الرسولية ورائد الشعر الحُميني

17/02/2025, 12:35:47

قبل سبعمئة عام، ظهر في اليمن شاعر كُتب له أن يكسر جمود الشعر الفصيح، وأن يؤسس لونًا شعريًا جديدًا، سيصبح علامة فارقة في ازدهار اليمن الحضاري خلال العهد الرسولي.

أحمد بن فليتة هو رائد الشعر الحميني الأول؛ الشِّعر الملحون المتمازج مع الغناء، كان هذا الشاعر أول من أظهره في نسخته الأكثر اكتمالًا.

وُلِد في زبيد، ثم انتقل إلى تعز، ليصبح وزير الدولة الرسولية وكاتب الإنشاء في بلاطها. طوال أكثر من ثلاثة عقود، ظل اسمه مقرونًا بديوان الدولة، ولُقِّب بـ"القاضي شهاب الدين ابن فليتة"، فكان أحد أعمدة البلاط الرسولي، وأحد أصواته الأدبية البارزة، غير أن مكانته لم تكن محصورة بحدود رجل الدولة، بل مكانة مبدع صنع تحولًا عميقًا في مسار الشعر اليمني.

أول إشارة إلى الشعر الحُميني، ترد في كتاب الخزرجى مؤرّخ الدولة الرسولية في القرن الثالث عشر الميلادي، جاءت مقرونة بذكر رائده الأول أحمد بن فليتة، يقول عنه:

"كان كاتبًا لبيبًا، شاعرًا أديبًا، حسن الشعر، فصيحًا، بليغًا، خصيصًا، بالملوك. وله ديوان شعر ممتع، مدخل في مجلدين ضخمين. فالمجلد الأول في العربيات مرتبٌ على حروف العجم. والمجلد الثاني منهما يضم الحُمينيات، والساحليات، والبال بال والدوينيات، ويسمى سوق الفواكه، ونزهة المتفاكه".

"البال بال" يرادف الشبواني، ناقشه روبرت سارجنت في كتابه "نثر وشعر حضرموت". وبقية المسمّيات لأنواع من الشعر اليمني كانت منتشرة آنذاك.

-الشاعر الذي مزج الشعر بالغناء قبل سبعة قرون

رغم إتقانه كتابة الشعر الفصيح، اختار أن يكسر رتمه الجامد، ويتّجه إلى كتابة الشعر الملحون المُطعَّم بمفردات من اللغة اليومية، حيث تكتمل القصيدة بالغناء.

كتب الموشح الحُميني، ذلك الشعر المُتمازج مع الموسيقى، فكان أول من أظهره في صورته الأكثر نضجًا، وجعل منه لونًا شعريًا يناسب أحاسيس الغناء المرهفة، ويتّسع لتعبير الناس عن أحوالهم وحياتهم الحقيقية وأفراحهم.

فنان مكتمل

كان هذا الشاعر الرسولي يكتب الموشح الملحون من نقطة قصوى تدمج الأغنية مع كلماتها، لا مِن منطقة تقع خارجها؛ هذا ما جعل قراء سيرته من الدارسين لهذا النوع المتفرّد من الشعر يصفونه بأنه كان "صاحب حس موسيقي"، بل ويذهبون أكثر من ذلك بالقول إنه "احترف الغناء"، كما هو الحال عند كثير من شعراء اليمن.

لا يحتاج هذا التخمين إلى تسجيلات غنائية لتأكيده، فقد كان شعره نفسُه شاهدًا على حسه الموسيقي.

ديوانه “نُزهة الأعيان وجلاء القلوب من الأحزان” ضمَّ قصائد فصيحة وحُمينية، إلى جانبه ديوان آخر أسماه “تحفة المطالع وبغية المخالع”، جمع فيه سبعة أنواع من شعره، من الفصيح إلى "الدوبيت" و"الحُميني" و"الساحلي" و"الموشحات".

كان ابن فليتة فاتح الباب، الذي خطَّ بمداده المسار الأول لهذا الشعر، وجاء بعده عبدالله المزاح ليمنح الموشح الحُميني بُعدًا فنيًا وموضوعيًا أوسع، ثم أبو بكر العيدروس، الذي -وإن لم يبلغ مستواهما الشعري- كان له أثره المعنوي، إذ يرى الدكتور عبدالعزيز المقالح أنه ساهم بصفته شاعرًا صوفيًا صاحب نفوذ روحي في انتشار هذا اللون، ومنع المتشددين من الوقوف ضده، أو اتهامه بالخروج عن الفصحى.

غير أن المناخ الثقافي في الدولة الرسولية كان أكثر انفتاحًا مما يُظن، ولم يكن ازدهار الشعر الحُميني مشروطًا بظهور العيدروس وحده. لقد ازدهر لأنه كان تعبيرًا عن هوية جديدة، عن مجتمع يفرض نغمته، وعن دولة تحاول أن تجد صوتها المستقِل في تاريخ اليمن الحضاري.

يرى جعفر الظفاري أن لا أساس لاحتمال قيام ابن فليتة بإذاعة الموشح الأندلسي في الدوائر الأدبية اليمنية؛ لأن هذا النمط من فن الموشح العربي لم يكن، لأسباب متباينة، مستحباً لدى شعراء اليمن، ولم يشعْ في مؤلفاتهم، وكما يبيِّن عن ذلك ما توافر من المتحدّر الموروث من الشعر الحُميني.

ريادة ابن فليتة للشعر الحُميني يراها الظفاري معقولة، باقتران اسمه بالموشح المنتظم في منتهى صيرورته الذي أتى بعد محاولات عديدة قام بها نظامو اليمن لتطوير فن "المبيت المسمط".

يضيف شارحاً: "إن قول عيسى بن لطف الله إن ابن فليتة أول من أظهر الشعر الحُميني مقبول وصحيح، إذا ما حُصر في نطاق احتمالين اثنين لا غير:

الأول: إن ابن فليتة كان أول وشَّاح يمني استطاع أن يرسم المعالم الأخيرة للموشَّح المنتظم في منتهى صيرورته، فحذا حذوه آخرون، وجعلوا منه تقليداً أدبياً راسخاً.

الثاني: إن ابن فليتة كان الشاعر الذي مكَّن الشعر الحُميني، وبجميع ضروبه وأنواعه، من أن يستوطن في الدوائر الأدبية اليمنية بعد أن أعلى مقامه بتحبيره حُمينيات شاعت وذاعت بين الناس بمختلف أقدارهم ومنازلهم".

-حين يكون الشعر والأدب موضع شغف رجال الدولة

جاك لامبير، الباحث الفرنسي في الغناء اليمني، ينضم لأهم الباحثين قبله وبعده في القول: "إن ظهور الشعر الحُميني يتطابق مع قيام دولة مزدهرة فى اليمن، الدولة الرسولية في القرر الثالث عشر الميلادي، التي شهدت أطول فترة استقرار في اليمن تعدت المائتي عام. ويمكن تحديد تاريخ مولده بأعمال ابن فليتة، فقد كان أول من أدخل اللهجة وشكل 'المبيّت' في شعره، وهو نوع من الرباعي 'المربعات' ونحسّ بتأثير اللغة المحكية في تعز لدى هذا الموظف في البلاط الرسولي".

دلالة ظهور ابن فليتة في العهد الرسولي يراها الدكتور عبد العزيز المقالح انعكاسًا لروح الاستقلال التي عبّرت عنها الدولة الفتية.

لقد كان كاتب الدولة، لكنه كان أيضاً شاعر الحُب الذي يكتب قصائده بلغة الشعب، وحين تكون الدولة تعبيرًا عن روح مجتمعها وناسها وتاريخهم الجمعي تضيق المسافة بين الحاكم والمحكوم، كما تضيق المسافة بين البلاط والحياة خارجه، بين لغة القصر ولغة الناس الحيَّة في حياتهم اليومية؛ وقد تبلورت إلى قصائد مُغنَّاة.

كان ابن فليتة يكتب للملك الرسولي سيف بن داود رسائله ومراسلاته، لكنه كان يكتب أيضًا لمن يهجل في الحقول، لمن يعزف على أوتار العود، لمن يجد في الشعر نسغاً للحياة.

-أول قصيدة غنائية في تاريخ الموشح الحميني: لي في رُبى حاجر غُزيل أغيد

تُعد قصيدة “لي في رُبَى حاجر” لأحمد بن فليتة واحدة من أقدم وأهم القصائد الغنائية الحُمينية، وقد كتبها قبل سبعة قرون في بلاط الدولة الرسولية في تعز، حين كانت حاضرة للعِلم والأدب والفن.

كانت هذه القصيدة إعلانًا عن ميلاد لون شعري يمني جديد (الموشح الحُميني)، حيث امتزجت فيها العذوبة الموسيقية للشعر الملحون بالحس الوجداني العميق، وأصبحت مع مرور الزمن النص الغنائي الأول من حيث القدرة على البقاء والانتشار.

إلى كونها موشَّحة حُمينية مُغنَّاة عابرة للزمن، كانت هذه القصيدة عابرة للمكان، وهذا ما يفسر ظهورها في “سفينة شهاب الدين الحجازي” في مصر، ووجودها ضمن مخطوطة احتوت قصائد ابن فليتة في مكتبة الإمبريزونا في ميلانو، مما يدل على أن تأثيرها لم يكن محصورًا في اليمن، بل تجاوز حدوده الجغرافية.

جمال القصيدة دفع شاعرين آخرين إلى أن يكتبا قصيدتين بالعنوان نفسه؛ هما محمد السودي ومحمد عبدالله شرف الدين، وكلاهما من شعراء الحُميني اللاحقين.

تحوَّلت "لي في ربى حاجر" نموذجاً للشعر الحُميني يتجلى في كل عصر بصيغة جديدة، إلا أن ابن فليتة يبقى هو الأسبق، فقد توفي قبل السودي بمئتي عام، وهذا الأخير تُوفي قبل ابن شرف الدين بمئة عام تقريبًا؛ مما يجعل قصيدته هي الأصل الفني الذي احتذى به من جاءوا بعده، خاصة وأنها قصيدة حُمينية بديعة أقرب إلى الأغنية منها إلى القصيدة المقروءة.

ما يجعل هذه القصيدة / الأغنية عابرة للزمن هو قدرتها على الجمع بين البساطة والعُمق، فهي من ناحية تمتلك إيقاعًا موسيقيًا يجعلها قريبة إلى الغناء، ومن ناحية أخرى تحمل بُعداً وجدانياً يجعلها قادرة على ملامسة إحساس المتلقِّي رغم اختلاف الزَّمن وما يصنعه من أمزجة متباينة.

كذلك، بنيتها الدرامية، التي تبدأ بالوصف، ثم تتصاعد إلى الحزن والاستغاثة، قبل أن تبلغ قمة التوتر في الحوار، ثم تنتهي بالمفارقة الساخرة، تمنحها طابعًا سينمائيًا يجعلها أقرب إلى المشهد التمثيلي.

لقد نجح أحمد ابن فليتة في كتابة نص يتجاوز زمانه، فبقيت قصيدته تتردد في فضاء الشعر والغناء اليمني، واستمرت في إلهام الشعراء الذين جاءوا بعده. وربما كان هذا هو سر بقائها وانتشارها حتى اليوم، حيث ما زالت تتردد بأصوات الفنانين ومحبِّي الشعر، وكأنَّها وُلدت بالأمس فقط، رغم مرور سبعة قرون على كتابتها.

أنهي هذا المقال وأنا أستمع إلى هذه الأغنية بصوت الفنان أحمد عبيد قعطبي، بصوته الشجي المصقول، يترنَّم بها وكأنَّه فنان من زمن الرسوليين، ذلك العصر المقترن بكل جميل أشرق في سماء اليمن:

لي في ربى حاجر غزيل أغــــيد

ساجـــــــــي الرنا

نهده على قده يقدنــــــــــــــــي قد

إذا انثنــــــــــــى

وا مسلمين شا موت أنا وشاخمد

من الضــــــــــنى

شا موت ولا يعلم بقصتي أحد

إلا أنــــــــــــــــــا

**

أصبحت في أسر الذي ملكــــــني

خاضع ذلــــــــيل

لا هو رضي بالبيع ولا عتقـــــني

كيف الســــــــبيل

ومن عشق يصبر على التجنـــــي

صبراً جمـــــــيل

عواقب الصبر الجميل تحمــــــــد

فيها المـــــــــــنى

**

عذب فؤادي أسقمه أذابـــــــــــــه

هوى المــــــــلاح

لو زاد في سقمه في عذابــــــــــه

ما قلـــــــــــت أح

 

قلبي رضى بالحب واستطــــــابه

ما له بــــــــــــراح

عهده على ما كان عليه يعـــــــهد

ما انثـــــــــــــنـى ..

**

أما أنا ما أجفاك ولا أمــــــــــــلك

واهوى هــــــواك

أخشى جفاك إن طال عليّ أهـلك

قلل جــــــــــــفاك

لفت وقال لي شا تموت مـــت لك

ما لي مـــــــــعاك

ويلاه كان الموت عليّ أبــــــــرد

ممـــــــــــا هنا

**

ما بعد هذا القول شي يليق لــــــي

إلا الســــــــكوت

قد ضاع رشدي في الهوى وعقلي

أخشـــــــى يفوت

بالله تقل إن شيت مت أموت لــــي

قل لي أمــــــوت

ضحك وقال يا سين عليك يا أحمد

أمــــــــــــوت أنا

مقالات

الهويات الصغرى والدولة والإنسان

قد توجد أحياناً أصوات داخل الدّولة تحاول أن تنتصر للهويات الصغرى -إن صح التعبير- على حساب الهوية الجامعة، التي تؤسس للوحدة السياسية، وهناك أصوات من هذا النَّوع بدأت تعلو في السياق اليمني.

مقالات

أبو الرُّوتي (22)

كان عملي في مخبز صِهري عبد الوهاب هو بيع الرُّوتي، وكنت أقف من الساعة السابعة صباحًا في "المَفْرَش" أستقبل الزبائن، والبِّي طلباتهم؛ استلم منهم الفلوس، وأسلّمهم أقراص الرُّوتي، بعد أن ألفَّها بورَق الجرائد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.