مقالات
"أخوان القفا"
ظللنا نقرأ الكتب، ونتجادل في ما نقرأ، ونكتب من وحي قراءاتنا. وظللنا نرى ضرورة أن نقرأ ما هو جاد وضروري وهام وحيوي ومصيري من القضايا والموضوعات، ونتجادل فيها، ونكتب عنها.
كنا نرى وحدة اليمن قضيةً كبرى، والديمقراطية قضية هامة، وحرية الفكر قضية حيوية بل مصيرية. غالباً ما كانت قائمة القضايا الكبرى والهامة والحيوية والمصيرية تتطاول ثم تتفرع وتتسع رأسياً وأفقياً.
كانت القضايا الاجتماعية أكثر حيوية من القضايا الاقتصادية، وهذه أهم من القضايا السياسية. وكانت القضايا الثقافية تتقدم حيناً وتتخلف أحياناً عن هذي وتلك وتاك. غير أننا لم نكن نختلف كثيراً أو عميقاً بصدد أهمية وحيوية ومصيرية جميع هذه القضايا. وكان هامش الاختلاف ضيقاً في هذه المسألة، ولم تكن بؤرة الخلاف واسعة قط.
ذات يوم، انتبهنا إلى أن القضية الكبرى قد تغدو قضية إشكالية. وهو ما لم يكن في حسباننا ولا ميزاننا. فالوحدة - مثالاً - قد تصير خاضعة لتعريف أو توصيف أو موقف تُحدده إما المصالح الشخصية أو الفئوية لا الوطنية ولا التاريخية، وإما يُحدده الطرف المنتصر حربياً في معركة مسلحة دامية نشبت بين طرفين أو أكثر أسهم جميعهم في تحقيق هذه الوحدة.
ولا أدري كيف تواترت إلى ذاكرتي واقعة من الزمن البعيد، حين كنا أطفالاً نتبارى في كرة القدم. ذات مرّة، هُزم الفريق الذي ينتمي إليه مالك الكرة، فأخذ كرته معه ورحل، تاركاً الملعب واللاعبين بدون كرة. ومرّة أخرى هُزم أحدهم، فشرع في تمزيق الكرة أشلاء، قائلاً بحنق شديد: هيا العبوا ذحيّن يا عيال الـ ......!
لم تكن كرة الوحدة أفضل حالاً من تلك التي في الذاكرة من الزمن الطفولي البعيد.
ولطالما شعرنا برغبة جامحة إلى أن نجمع كل نظريات وأطروحات جميع علماء الاقتصاد والاجتماع عبر التاريخ، من آدم سميث وكارل ماركس وجون كينز إلى ميلتون فريدمان وديفيد ريكاردو وجون فون نيومان، ومن كلود ليفي شتراوس وماكس فيبر وأوجست كونت إلى هربرت سبنسر واميل دوركايم وغيرهم، ثم نرميها دفعةً واحدة، في مكبّ زبالة أو في مشب نيران أو في مهب الريح - لا فرق - في اللحظة التي ترى امرأة تمدّ يدها إلى جوف برميل قمامة لتنتشل منه قوت أطفالها، وفي اللحظة ذاتها التي استطاع فيها أحدهم أن يجمع عشرات المليارات من الدولارات لمجرد أنه يعرف الرقم السري لخزانة أفقر دولة!
ولم تعد حرية الفكر وجلال الفكرة وقُدسية الحاجة الروحية للإنسان ذات أهمية من أيّ نوع ولا أيّة درجة، في ظل تهاوي ثقافة المجتمع قُبالة مشهد مُستجلَب من قلب عتمة القرون ما قبل الوسطى: وأد طفلة، مثالاً. فهذا المشهد لازال قائماً حتى هذي الساعة!
وانظر في ما إذا استبدل أحدهم اللقب العلمي الرفيع "الدكتور" بصفة "الشيخ"، أو استجرَّ مُسمَّاه القروي أو المذهبي بعد أن نبذه طويلاً - عن وعي، كما كان يزعم - فاعرف أن العالِمة فيفي عبده صارت أكثر قيمة وأهمية من العالِم محمد عبده. ثم اعرف - عافاك الله - أن مثقفاً ماركسياً صار أجيراً عند أمير سعودي أو خادماً عند شيخ خليجي، لا يدعوك البتة إلى شتم أُمّه، فهي بريئة -يرحمها الله- بل عليك أن تشتم أُمّ سلسفيل الماركسية نفسها لأنها "ما عرفتش تُربّي".
ويا عزيزي عبدالباري طاهر ... لقد تشابه الأمر علينا اليوم بين "أخوان الصفا" و"أخوان القفا".