مقالات
أربعون يوماً في أربعين سنة!!
في منتصف الأسبوع الماضي، مرّت أربعون يوماً على وفاة رجل الأعمال والمثقف النزيه علوان سعيد الشيباني، الذي حظي بوداع كبير من كل شرائح المجتمع اليمني، بمن فيهم فرقاء السياسة في البلاد، الذين أجمعوا على نُبل الرجل وقيمته الأخلاقية الكبيرة، التي جسّدها في مسيرة حياته، والأهم فيها كان تسخيره لكثير من أمواله لخدمة المجتمع بفئاته الفقيرة والمهمّشة، ودعم المبادرات الجديدة التي تهدف إلى إحداث عملية التحول بواسطة التعليم.
قبل وفاته بعام، قام مجموعة من أصدقائه بتبنّي مشروع إصدار كتاب تذكاري عنه، خُطط له أن يصدر مع كتابين آخرين يتصلان بالرجل ومشروعه الثقافي الكبير، الأول هو سيرته الذاتية، التي تحمل عنوان "الحياة كما عشتُها"، والثاني "موسوعة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية" بأجزائها التسعة، التي قام بتمويلها الراحل، وعمل فيها وراجعها قرابة أربعين باحثاً وباحثة من جامعات مراكز أبحاث في اليمن وخارجها لمدة عامين كاملين.
مات قبل أشهر قليلة من حلول الذكرى الأربعين لإطلاق "مجموعة العالمية"، التي قام بتأسيسها في صنعاء العام 1983م، لتصير بمرور الوقت واحدة من المجموعات التجارية الرائدة، التي تنشط في مجالات السياحة والسفر والفندقة والنقل والخدمات الأمنية وغيرها.
تنوّعت الكتابة عن الرجل من مفكِّرين وسياسيين ومثقفين وأُدباء قبل رحيله، وبعد فاجعة رحيله في العاصمة البريطانية لندن، صباح يوم الأربعاء 8 يونيو 2022م.
فعلى سبيل المثال، كتب صديقه القريب جداً، الأستاذ يحيى حسين العرشي - وزير الثقافة وشؤون الوحدة والسفير السابق:
"لقد أدرك علوان الشيباني، منذ وقت مبكر، أهمية العلم في وجه الجهل، وأهمية التعاون وتجاوز الفاقة والاحتياج، لذلك فقد اضطلعت مؤسسته بدورها في التعليم، وفي دعم العملية التعليمية في بعض المناطق، وفي دعم التعليم في أوساط الفئات المهمشة، وخصوصاً في دعم تعليم الأطفال والفتيات، وحتى المستوى الجامعي داخل الوطن وخارجه، والمخرجات لهذا الدور ليست قليلة مبتدئاً بمنطقة نشأته، متوسعاً إلى أنحاء متفرقة من مناطق اليمن.
ولم يكتفِ بذلك، بل إنه تطرق إلى أبواب المعرفة بالدفع والتشجيع لعدد من نشاطات الثقافة والإبداع والفكر، وأبرزها السعي لإنجاز مشروع الموسوعة المختصة بالهجرات اليمنية، قديمها وحديثها، في أصقاع المعمورة، بتعاون عدد من الشخصيات والقدرات الوطنية المخلصة ذات الصلة. ولعلّ إنجاز هذا المشروع قاب قوسين أو أدنى للظهور، مما يشكل تحدياً صارخاً لما نحن عليه في وطننا من وضع أقل ما يمكن أن يوصف بالنكبة".
الشخصية الوطنية والسياسي الكبير أنيس حسن يحيى -أحد رموز اليسار اليمني- قال هو الآخر في نص عنوانه "أيقونة للوطنية وسيرة للوفاء":
"والأخ العزيز علوان يؤكد لنا، بنهجه هذا، أنّ الغِنى المادي ونعمة المال ما هما إلاّ قيم وأخلاق وإنسانية وبناء. ومن هنا هو يستحق لقب أيقونة الوطنية والخير والنبل الإنساني، بخاصة لو عرفنا فكرة اهتمامه باليمني المهاجر والمغترب حين لمس شخصياً -كما وصلني- التعامل غير المريح والمتسم بالاستعلاء مع المهاجر اليمني، الأمر الذي ولّد عنده فكرة إنشاء مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية، برئاسته وإشرافه، مستعيناً بكثير من الكوادر المؤهلة ذوي الاختصاصات المتنوعة، مبيناً دور اليمني المهاجر في تحقيق نهضة وتطور الدول، ومشاركاً فعالاً في تنمية الدول التي هاجر فيها واستقر بها.
ولهذا، نجد أنّ المتتبع للتاريخ الناصع للأخ علوان مجبر على التمهل في قراءة كل السطور، ليرى ويلمس بصمات إنسانيته التي تسحبك بلطف، لتقف محترِماً لتاريخه المضيء، وإلى تأمل التكوين الجوهري لهذه الشخصية الفذة التي قلّ الزمان بمثلها".
الأستاذ عبد الباري طاهر نقيب الصحفيين اليمنيين الأسبق - الكاتب والباحث المعروف- قال عن علوان:
"أحد الضمائر العلنية والمستترة في إنجاز أعمال وطنية كثيرة لم يتحدث عنها مطلقاً. كان دوره مائزاً في اليمنية للطيران، وله الفضل الكبير في النهوض بها؛ أسس العالمية، التي أصبحت واحدا من أهم المكاسب الاقتصادية.
علوان الضمير الحي واليقظ اهتم أيما اهتمام بالتعليم، اتجه لتعليم المهمشين. أدرك أن الهجرة التي عرفها وذاق مرارتها وكانت الأساس في بنائه، أنها المدخل الحقيقي للتمدن والتحضر وبناء الحياة والإنسان والثورات في اليمن، فأسس فريق دراسة الهجرة اليمنية الأثر والتأثر، وكانت الثمرة في عدة مجلدات درست واقع الهجرة قديماً وحديثاً وأثرها على اليمن واليمنيين.
اهتم بأبناء الريف الفقراء في الحوافي والأرياف، في الجوف وتهامة وريف الحجرية، وبنى عشرات المدارس وشجّع الطلاب محدودي الدخل للالتحاق بالمستويات التعليمية المختلفة حتى الجامعة. تخرج بدعمه المئات والآلاف.. كان أباً روحياً للتعليم الحديث".
أستاذ التاريخ في جامعة صنعاء، الدكتور أحمد قائد الصائدي، نشر موضوعاً عن الراحل الكبير عنونه بـ"الوطنية أفعال لا أقوال"، جاء فيه:
"لقد تحققت بعض أحلام هذا الرجل، عبر كفاح طويل وجهد ودأب، وعبر عمل منظم صارم، لعلّ بذرته قد أودعها فيه انتماؤه التنظيمي المبكر إلى أحد الأحزاب القومية. ولكن الأحزاب عجزت عن بلورة مشاريعها الوطنية والقومية، ومواصلة مشوارها، حتى تحقق أهدافها، ووقفت في منتصف الطريق، واندثر معظمها. في حين واصل هذا الرجل مشروعه، بعد أن استقال من عمله الرسمي، وابتعد كلياً عن العمل السياسي، بمعناه الضيّق، منذ سبعينات القرن الماضي، واستبدله بالعمل الوطني المثمر، الذي أثبت من خلاله أن الوطنية أفعال لا أقوال".
الدكتور عبد الغني عبد القادر - وزير الصناعة الأسبق- الشخصية الوطنية المعروفة، قال: "إن ارتباط الأخ علوان سعيد بالحركة الوطنية، والعمل الحزبي بداية حياته في منتصف الخمسينات، قد أثر كثيراً في رؤيته للنشاط الاقتصادي الذي قام به بعد أن تفرغ للأعمال الخاصة، فجعل اليمن كلها ساحة لعمله، وتعامل بمسؤولية تجاه أبناء وطنه من شتى أنحاء اليمن، واهتم بالتأهيل والتدريب وخلق فرص عمل في مجالات عدة. كما اهتم بالجوانب الإنسانية، فقدم العون للكثير من الأسر الفقيرة، وفي تأمين التعليم لأبنائها، وأنشأ المؤسسات الخيرية مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية، التي تهدف إلى عون ذوي الحاجة وتأهيلهم. وعندما تعرّضت بلادنا للأزمة الخانقة التي تعيشها حتى اليوم من حرب ودمار، لم يختر العمل في الخارج، وإنما فضّل الحفاظ على إبقاء أعماله في الداخل، التي يعتاش منها الكثيرون من أبناء وطنه".
الدكتور محمد علي مقبل -وزير الصحة والسكان الأسبق- قال:
"مبكراً اقتنع علوان بأن التعليم هو مفتاح كل الأعمال المنتجة، ولذلك بدأ بالعمل من أرض الوطن، وكل ما عمله ونفذه علوان في سيرته الحياتية هو أنه قلب معادلة الهجرة من أجل الرزق والبحث عن العمل، إلى أن تكون الهجرة بوابة للتعليم، ونحو فتح آفاق لأعمال مثمرة ومنتجة لكل المجتمع. وعلى ذلك رتَّب صديقي علوان أُموره على البقاء في وطنه، وافتتح له مكتبا للسفريات في شارع سيف بن ذي يزن... فجاهد وثابر وصبر، فرزقه الله بعد ذلك بـالشركة العالمية للسياحة".
الباحث والكاتب المعروف قادري أحمد حيدر حينما كتب عن علوان "المثقف الإنسان" قال: "استطيع القول مطمئن الخاطر إن المعنى المادي والسلوكي/ العملي للمثقف الإنسان حاضر في كل ما يقوم به ويمارسه علوان، دون تقليل أو تهوين من قدراته الثقافية.. فهو محاور جيّد في السياسة، وعلى اطلاع معرفي/ ثقافي على مستوى رفيع دون ادعاء، فلديه مساحة معرفية واطلاع لا بأس به على المشهد الثقافي، مكسوة بخبرة حياتية إنسانية.. لأن الثقافة، في التحليل الأخير، ليست تنظيراً فقط، بل هي قدرة على تمثل أجمل ما في الحياة.
إن علوان لا يتمثل هذه القيم، على الصعيد النظري فقط، بل هو أيضاً يمارسها بعفوية وتلقائية في كل حين. لقد قلب الصديق العزيز علوان سعيد الشيباني مقولة ديكارت: أنا أفكر، إذن أنا موجود، ليعيد تركيبها وصياغتها على معانٍ بسيطة حياتياً وإنسانياً في صورة لا يقف خلفها تنظير فلسفي، ولا يحتاج معها إلى صياغة كتابية فكرية تعبر عنها، وذلك في صورة وصيغة: أنا أقدم على إنجاز فعل خيري، إذن أنا رجل أعمال إنسان.
هو رجل أعمال لم تسلبه التجارة وجريان رأس المال في يديه عمقه الإنساني، وهو الخالد في الحياة، فالمال زائل، ولا يبقى سوى وجه الفضيلة والقيم الأخلاقية التي يتركها ذلك الأثر المالي. فالرأسمال قبيح بحكم صلته بالاستغلال للعمل المنتج، ونبيل فقط بمقدار ما يتركه البعض من أثر قيمي سامٍ يخلده في الحياة".
الفنانة والأكاديمية، الدكتورة أمنة النصيري، لخصّت شخصية الرجل في بضعة أسطر حينما قالت: "قبل أكثر من عشرين عاما، حكى لي كاتب ومثقف قدير كيف أنه في فترة مروره بأزمة صحية قاسية، خذلته المرافق الثقافية الرسمية وتجاهلت مرضه، وتقاعست عن معالجته على نفقة الدولة. في الوقت نفسه يتواصل معه أحدهم ويبلغه أن هناك من يتكفل بنفقات علاجه كاملة. كان يقص التفاصيل بتأثر شديد، ويثني على شخص لم يلتقه قبل ذلك سوى مرة واحدة. لكن ذلك الشخص عُرف باهتماماته الفكرية وبعلاقته الوثيقة بالوسط الثقافي والأكاديمي اليمني. كان ذلك هو رجل الأعمال المعروف الأستاذ علوان الشيباني. علمت، بعد ذلك، أن تلك لم تكن سوى قصة من قصص كثيرة ومواقف إنسانية متكررة عرفت عن الأستاذ علوان تجاه عديد من المثقفين وأهل الفكر والإبداع والشخصيات الوطنية".
الدكتور أحمد السري -أستاذ التاريخ الإسلامي وحضارته في جامعة صنعاء- كتب عنه تحت عنوان "رجل أعمال بآفاق تنموية متنوعة" قائلاً:
"نجاحات الأستاذ علوان الشيباني في ميادين التجارة والأعمال والعلاقات الدولية ألهمته رؤية ثاقبة معززة بتجارب ناجحة، فوضع مفاهيم التنمية الحديثة وصلتها بالتعليم وتنمية المهارات نصب عينيه، فأنفقت مؤسسته مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية، الأموال الطائلة لجعل التعليم ممكنا لفئات كانت ستحرم منه لو لم يتوفّر الدعم اللازم.
وهو في هذا الميدان قدوة لغيره من بيوتات المال والأعمال، وفيه فليتنافس المتنافسون، لاسيما بعد أن أفضت تطورات السوق والرؤى الاقتصادية إلى تراجع مسؤوليات الدولة في كل الميادين، وجُعل التعليم سلعة يتسابق القادرون فقط على دفع أثمانها. وهي تحولات جذرية في طبيعة التنمية وعلاقة المجتمع بالدولة، أدت وتؤدي إلى عجز فئات اجتماعية كثيرة عن دفع أثمان سلعة التعليم. وهنا بالتحديد يكون للأعمال الخيرية دورها الواعي والحاسم لمساعدة ولو بعض أفراد المجتمع من العاجزين عن الدفع والنابهين ليتمكنوا من تحصيل العلم اللازم للتنمية، وهو ما تتطلبه المجتمعات الحديثة ولو في حدودها الدنيا".
هذه فقط نماذج قصيرة مما كُتب عن الراحل الكبير، الذي ودَّعته اليمن بدموع غزيرة، وهو نموذج نقي لرجل الأعمال المستنير الذي جعل من ماله أداة للمساهمة في عملية التحول في المجتمع، وعاش كل حياته لتحقيق أهداف نبيلة وأخلاقية كبيرة.