مقالات
استنارة المُحلوِي (2-2)
أما الصدمات الثلاث، التي تلقاها العزِّي صالح السنيدار من الأستاذ محمد عبدالله المُحلوِي، فيوجزها الأول بالآتي:
الصدمة الأولى: وقد كانت في أول تجوال لهما خارج سُور المدينة القديمة، التي صادفت عودة الإمام يحيى من احتفال بيوم الولاية (يوم الغدير)، وفيها شاهد الطبيب لطف حمزة، وهو بأبهى حلله، ينتحي بالمُحلوِي في حديث طويل، فقال له المُحلوِي بعد تركه للطبيب: هل تعرف لماذا ملابس الطبيب أحسن من تلك التي يلبسها في الأعياد؟
وحين لم يجبه، قال له إن الطبيب يبغض بيت حميد الدين، وإذا حدثت لهم مصيبة يفرح، لأنه يعتقد أن الإمام وأولاده ظلمة، وأنهم وبال على اليمن. يقول السنيدار: "وافترقنا وفكري مضطرب، لم أدرِ علامَ أحمله؟ ولكني كتمت أمري".
الصدمة الثانية: حدثت بعد خمسة أيام من الصدمة الأولى، بعد أن حدّثه عن الرجال الأذكياء، والفرق بينهم وبين أولئك المغفلين والجامدين، وقال السنيدار إن المُحلوِي قال له وبكل هدوء: "إذا أردت أن تعرف الرجل العارف الذكي فيمكن أن تعرفه بمسألة واحدة، فقلت: وما هي؟ قال إن قال لك النبي (صلى الله عليه وسلم) أوصى بالخلافة لعلي فهو مغفّل متعصب، وإن قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ترك الأمر للمسلمي، وإن الأمر شورى فهو الذكي الذي يفهم الأمور بحقائقها، فأحسست أن الأرض تدور بي، فلما نظر إليّ وأنا حائر مبهوت، قال: لا تتأثر، وعليك أن تطالع بعض كتب التاريخ والتفسير، فقال السنيدار: رجعت إلى نفسي، وإلى ما قد قرأته، وطالعت وسمعت؛ قرأت في 'شرح الأزهار' وما للإمامة من مكانة، وكذلك قرأت الثلاثين المسألة و'نهج البلاغة' و'مقاتل الطالبيين' وغيرها، وتذكرت بعض المشايخ، الذين كانوا يفسِّرون لنا بعض الآيات والأحاديث على غير حقيقتها، وإلى ما قد علق بذهني من القصص والكرامات التي للأئمة والشيعة وأشياء لا يقبلها العقل، بل قبلتها بالتقديس، ولا تسأل عمّا كان يجري عليّ من أحوال مهولة واضطراب".
ويقول السنيدار عن ارتدادات هذه الصدمة في وعيه: "فكرت حتى سهرت منامي، فأول ما طالعته هو تاريخ ابن الأمير، ثم فتح القدير للشوكاني، والروض النضير للسياغي، فعدلت فكري، ومن هنا رأى مني الإقبال والقبول لحديثه والإصغاء إلى كلامه، وكل ما حدثني به كنت أحدث به عبدالله الثور"(1).
الصدمة الثالثة، التي يتحدث عنها العزِّي صالح السنيدار، وقعت بعد الثانية بفترة، يقول عنها:
"فتح (المحلوي) لي الكلام عن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وقال: أنشدك الله هل أعمال الإمام يحيى مثل أعمال الإمام عل؟ فقلت: لا. وبعد حديث طويل قال إذا أردت الحقيقة فالإمام يحيى هو عدو الشعب وسيفقره ويهلكه".
ويقول السنيدار بعد سماعه هذا الكلام: "صدمني بهذا صدمة كبيرة، ولم يمهلني إلى اليوم الثاني - كما كان يصنع معي عادة- بل وصل إليّ بعد الظهر، وقال: سأقيّل عندك (سأتناول القات بمعيتك بعد الظهر)، فجلست معه ومعنا علي هاجر {عامل بدكان العزي السنيدار}، فأشبع فكري، وسلمت له بكل ما قاله، فما خرج من عندي إلاًّ وهو مسرور ومستريح، وكأنه فتح بلداً".
ويقول السنيدار: "في اليوم الثاني استعار كتاباً اسمه 'خواطر في الإسلام' لعبد العزيز جاويش (2)، فقرأته وخرجت مرتاح الضمير. وبعد أن انكشفت لي الحقائق، ظننت أني سأهدي الناس وأصلحهم، وقد كنت أتكلم بصراحة، فقال: على مهلك تورّع واصبر حتى أركِّب لك ميزان الفكر، ومتى ركَب ستعرف الحالة، ولا يقدر أحد يضلك، وتعرف كيف تكون الدعاية".
بعد أن استوى السنيدار تماماً عرَّفه المُحلوِي على دائرته المقرَّبه مع المثقفين اليمنيين الذين كانوا من أشد المعارضين للإمام وسياساته ومنهم: الشيخ حسن الدعيس وأحمد المطاع ومحمد زيد مفرح وعبدالله العزب وعلي الشماحي وغيرهم، ولكل واحد من هؤلاء حكاية في كتاب السنيدار. فحسن الدعيس كان الفيلسوف والمجادل الكبير الخائض في قضايا إشكالية كانت تقضّ مضاجع الإمام يحيى وأربابه. لم يستطع الإمام من تطويعه لا باللين ولا بالشدة، فلم يكن أمامه غير تعيينه عاملاً في منطقة "جبل رأس" في شرق "تهامة"، لنفيه من صنعاء، ولم يكن ذلك القرار إلا بعد أن يئس محتسبي الإمام من رميه بتهم متعددة، ومنها" تهمة خيانته للأمانة"، مثل قولهم إنه مدين لخزانة الدولة (بيت المال) بسبعين ألف ريال{ ماريا تريزا}، وحين تحوَّل للمحاسبة نُفيت عنه التهمة. وكان جدله بقضايا التوسل ونفي تلك المتصلة بالخرافة، وتعظيم الإمام وآل البيت، هو السلاح الأمضى الذي استخدمه خصومه لاتهامه بالكفر والزندقة والبدعة، التي اختصرت بقولهم إنه "ناصبي يبغض أمير المؤمنين وأهل البيت".
أحمد المطاع، الضابط المثقف، وأحد مهندسي "هيئة النضال"، التي عدَّها الكثيرون أول اتجاه معارض منظّم يظهر في عاصمة الإمام، وعُرف عن المطاع شغفه بكتابة التاريخ اليمني، وميوله الصحافية والأدبية، فقد عمل محرراً في 'صحيفة الإيمان'، التي أصدرها في صنعاء 1926 الامام يحيي كصحيفة رسمية تعبّر عن وجهة النظر الرسمية، ونشر موضوعاته السياسية عن حال اليمن في 'صحيفة الشورى'، التي كان يصدرها في القاهرة محمد على الطاهر، تم ترأس 'مجلة الحكمة' بعد قتل رئيسها أحمد عبد الوهاب الوريث، واستكمل فيها ما ابتدأه الوريث من نشر موضوعات عن الإصلاح "الديني والسياسي" في حلقات متتابعة، تحت عنوان "في سبيل الإصلاح"، متخذا من موضوع اللغة محورا للمساءلة عن أسباب وعوامل انحطاط وسقوط الفكر.
يقول السنيدار عن السيد محمد بن زيد مفرِّح:
"كان من الرّجال الذين يعدون من نواة الثورة ونشر الفكرة، وكان يضاهي الدعيس والمحلوي في أفكارهم وعقلياتهم، وكان رجلاً حكيماً، ومن حكمته أن لا يستعمل الهجوم بل يرمز رمزاً، وكان يتفرس فيمن له قابلية لقبول الفكرة فيستميله إلى صفه، وقد نشأ في صنعاء وفيها تعلم، وكان كثير المطالعة في كل الفنون، ويميل إلى أهل السنة، وليس متعصباً (3)، وكان زينة المجالس وكله عقل، يسير مع جميع الطبقات، وكان مجلسه من أحسن المجالس {في صنعاء}، يجتمع عنده من العلماء والأدباء ومن التجار ومن السوقة، وكان مع ذلك من الكرماء، وكل الناس يحبون مجالسته ومحادثته، حتى القبائل، وله نوادر لا تحصى، وأجوبة معجبة ومضحكة ومسكتة، ومنها أن أحد الفقهاء المتعصبين دخل مقيل به السيد محمد ونفر من أهل السوق، وبدأ يملي عليهم كتاباً في فضائل أمير المؤمنين عن علي بن أبي طالب، ومن جملة ما حكاه أن الصحابة اغتصبوا الخلافة عليه، وحرموه حقوقه، فصاح: أنت كذاب وصاحب الكتاب كذاب.. علي بن أبي طالب منزّه عن هذا، وهو جدي، صوَّرته صورة رجل جبان ذليل طماع، وهو الذي طلق الدّنيا وسفهها.. حتى قلب الحاضرين إلى صفه حتى فرّ الفقيه من المجلس" (4).
من أفكار المُحلوِي، التي بقيت نشطة في أذهان تلامذته، أنه سئل ذات مرة، وهو يمر بالقُرب من مجلس الإمام اليومي لمواجهة الناس: هل البلاء جوهر أو عرض؟ وقبل أن يجيب على السائل، طلب من الذين كانوا يسيرون معه، فأجمعوا أن البلاء عرض؛ أما هو فعارض الجميع، وقال إن البلاء جوهر، فقالوا: ما دليلك؟ وأين هو؟ فأشار إلى الإمام بيده، وقال: ذاك هو البلاء، ولو مثل البلاء لكان شخصه.
في العام 1935م، اقتيد المُحلوِي إلى سجن القلعة مع خمسة من رفاقه: "العزي السنيدار، أحمد المطاع، محمد المطاع، عبدالله العزب، وعلي عبد الوهاب الشماحي"، بتهم عديدة، منها: بغضهم لأمير المؤمنين وأهل البيت، واختصارهم للقرآن، وأنهم درادعة (فرقة يهودية)، وموالين للنصارى، ويحبذون احتلال البلاد من الانجليز. وبعد مراجعات طويلة ومضنية من قِبل شخصيات سياسية واجتماعية استمرت لأشهر، تم الإفراج عنهم تباعاً، إلاَّ محمد المُحلوِي الذي أقسم الإمام يميناً مغلظة أنه لن يطلقه إلاَّ إذا خرج من صنعاء، فرفض المُحلوِي ووصل إليه أحدهم يراجعه بأن يخرج حتى إلى 'الروضة'، ليبر بقسم الإمام، فرفض، وبعد ذلك أطلقه الإمام {بعد أن اشتد عليه المرض في السجن، وخاف أن يموت فيه}، لكنه مات في منزله بعد خروجه.
مات فقيراً، لكنه بعد أن غرس في طين الوعي فسيل استنارة، ستصير مع الأيام شجرة يستظل بها كل صاحب فكرة.
__________________________
(1) مؤرخ وباحث يمني معروف له كتاب مطبوع عنوانه "هذي هي اليمن – الأرض والإنسان والتاريخ".
(2) مثقف وكاتب وصحافي مصري برز في مطلع القرن العشرين، كان من أشد المدافعين عن الخلافة العثمانية.
(3) لديّ إحساس أن 'إعادة تحرير السيرة' بقلم الأستاذ علي عبدالله الواسعي قد أضفى على بعض سرديات السنيدار حمولة إيديولوجية ذات صبغة سياسية تسبق عصر السنيدار ورؤيته البسيطة للأمور.
(4) الطريق إلى الحرية- مذكرات العزي صالح السنيدار ط 2/ 1998م - ص 28/29.