مقالات
إسكندر ثابت مطرب وشاعر الوطنية والوجدان المنسي!!
أما قبل:
كان من المفترض أن استكمل هنا ما كتبته كحلقة أخيرة عن "الكتابة الساخرة ودفاتر الأيام"، غير أن حلول يوم الأغنية اليمنية- الأول من تموز/ يوليو - بالتوقيت ذاته جعلني أرتّب أولوية النشر، وفضلَّت فيها هذه المادة الجديدة بالمناسبة، وهي عن المطرب والشاعر الرائد والمنسي إسكندر ثابت كتحية يتوجّب أن توجّه لتاريخه وإرثه، وتأجيل نشر الحلقة الأخيرة إلى الأسبوع القادم.
_______________
في العام 1938م، وصل القاهرة الشاب المتوقد إسكندر ثابت صالح والحرب العالمية الثانية تطرق أبواب أوروبا والعالم.. وصل ضمن ثلة من الطلاب المتفوقين من مدارس عدن الأهلية والحكومية، فالتحق مع زملائه بثانوية حلوان القديمة كأول بعثة تعليمية يمنية بمفهومها الحرفي إلى مصر. وحين تخرج من المدرسة في العام 1942م التحق بجامعة فؤاد الأول في تخصص اللغة الإنجليزية، ولم يعد إلى عدن، فقد فضّل الالتحاق بمدرسته الأم (مدرسة حلوان) كمعلِّم هذه المرة، فكان أول يمني يدرِّس اللغة الإنجليزية في المدارس المصرية، ولم نسمع بأحد غيره زاول المهنة بالتخصص ذاته هناك.
هنا يتوجّب الوقوف أمام بعض المؤشرات الصغيرة التي ارتبطت بسيرة الرجل، التي شكلت وعيه المبكر باللغة الإنجليزية والطرب، وتالياً بفكرة الوطنية ببعدها السياسي والثقافي.
أما وصوله إلى القاهرة في العام 1938م، فله دلالته الخاصة، فهو العام ذاته الذي تواجد به في القاهرة مجموعة الشبان اليمنيين (من الشمال والجنوب)، الذين سيكون لهم شأن كبير في الحياة السياسية اليمنية لاحقاً، حينما كانوا يتحسسون طريقهم الأول في هذا العالم من خلال "عصبة" ثقافية تشير إلى انتمائهم لليمن السعيد.
وأقصد بهذه المجموعة الشبان أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري ومحمد علي الجفري ويحيى أحمد زبارة وعلي محمد لقمان محمد صالح المسمري، وباستثناء الأستاذ النعمان، وربما علي لقمان، كان البقية واقعين تحت تأثير خطاب جماعة الإخوان المسلمين الطاغي، خصوصاً بعد أن عقدت مؤتمرها الصاخب في القاهرة، واستطاعت إنتاج قاعدتها الجماهيرية العريضة كحزب جديد صاعد يخاطب مشاعر العامة والمتدينين، بعد أن بدأ الوهن يدب في بُنى الأحزاب التقليدية المدنية، وبقي هذا التأثير حاضراً في وعي هذه الأسماء حين عادت إلى اليمن.
بكل تأكيد هذا "التعريض" ليس له علاقة مباشرة بحالة الشاب إسكندر ثابت ولا بتشكله السياسي وقتها، وإنما الإشارة إلى الحالة العامة التي تشكل في ثناياها الوعي السياسي لأسماء سيكون لهم تأثير واضح في حياة اليمنيين لاحقاً، وسيصير ثلاثة من هذه الزعامات السياسية من رعاة الفنان وداعميه في وقت لاحق، من وجوده في مصر (1)
عن تخصصه في اللغة الإنجليزية وتحوله إلى معلِّم لها في مدرسة حلوان، فلها هي الأخرى تأسيساتها المهمة في حياته الباكرة، حين تتلمذ على يد جده لأمه الشيخ صالح حسن التركي (2) في عدن في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، الذي كان صاحب مكتب لتعليمها وتعليم الموسيقى أيضاً.
عاد إسكندر ثابت إلى عدن مطلع الستينات ليستقر مع زوجته المصرية في منزل جده التركي في الشيخ عثمان، بعد اثنتين وعشرين سنة قضاها في مصر معلماً، وتالياً مطرباً معروفاً، بعد أن تأسس موسيقياً على يد جده التركي أيضاً مع أخيه سعيد ثابت – والد الفنان نجيب سعيد ثابت.
في فترة إقامته القاهرية الطويلة، صقل مواهبه الموسيقية في التلحين والغناء وكتابة النصوص أيضاً، وحينما صارت العاصمة العربية المؤثرة والكبيرة ملاذاً للسياسيين والطلاب اليمنيين في حقبة الخمسينات، بدأ يبرز كفنان بثت أول أغانيه الوطنية إذاعة "صوت العرب"، ابتداء من العام 1954م، وعلى وجه التحديد "نشيد اليمن"(3):
"بلادي وأرض أبي والجدودِ.. وعزي ومجدي ولحن خلودي/ ثراكِ سأقطره بدمي.. وأسكب في مسمعيك نشيدي/..... سأمضي أسابق ركب الزمن.. أنادي بحريتي والوطن/ وأطلقها صيحة كالرعود.. مدوية في سماء اليمن"
بعدها بأشهر قليلة بثت الإذاعة نفسها أغنيته "يا ظالم"، التي كتب كلماتها عبدالله هادي سبيت، التي صارت أيقونة ذلك الوقت من كثرة ترديدها في الإذاعة، ويقال إن الإمام أحمد طالب الرئيس جمال عبد الناصر بتسليمه المطرب، وحين خاب مسعاه أصدر أحد قضاته حكماً بإعدامه غيابياً:
"يا ظالم ليش الظلم ذا كله.. كم نائم في العالم صحى عقله/ يا ظالم لابد يوم ما تندم با تعلم أن الكل بك يعلم"
في تلك المرحلة تقوت العلاقة الفنية بين سبيت وثابت، فانتجا العديد من النصوص الغنائية، ومنها قصيدة يا مسافر، التي نسبتها موسوعة الغناء اليمني(4) لإسكندر ثابت، وهو الرأي ذاته الذي يعززه الفنان نجيب ثابت، وعلى غير ما يراه أستاذ النظريات الموسيقية، الباحث عبد القادر قائد، الذي ينسب هذا النص إلى الشاعر سبيت(5)، وهي قصيدة كتبت في الغالب للسلطان المتنور علي عبد الكريم العبدلي الذي عزله الإنجليز ونفوه في العام 1958م:
"يا مسافر من ضفاف النيل لا وادي تبن/ بلِّغ الأشواق للحوطة ومن فيها سكن/ شل سلامي، بلِّغ الفادي بروحه للوطن/ وأخبره عني وقول له: كيف به قلبي اقتتن".
استمر التعاون الفني بين الاثنين وأنتجا العديد من الأغاني الرائدة مثل: "من بعد نظرة عين" ، "بهجرك"، "يا هاجر وناسيني"، وقصيدته الذائعة "هويته وحبيته":
"هوته وحبيته في القلب خبيته/ هويته ويا ليته تجمل معي ليته/ هويته ومن أجله تحملت جور الناس/ وكم يمنعوه أهله وكم كثروا الحراس/ مع الطير غنيته مع الزهر شميته/ وبالآه ناغيته وبالصبر ربيته".
في تتبعي لتأسيسات اللون الغنائي التعزي بخصوصيته الحُجَريَّة (6) وجدت أن الفنان إسكندر ثابت كان أحد الأعمدة اللحنية والغنائية للنصوص الباكرة لهذا اللون، التي كتب نصوصها الشعراء عبدالله سلام ناجي وعبده عثمان محمد فقد غنّى إسكندر ثابت، قصيدة عبدالله سلام ناجي "بين السبول"(7)، التي تقول بعض كلماتها: “بين السبول رأيتُ قبول/ مثل القمر بين الغمام/ والزهر يضحك والبتول/ غنى بألحان الغرام/ تمشي كما يمشي الغمام/ والورد في صحن الخدود/ والثغر بلون المدام/ ينضح بألوان الورود».
ولحَّن وأدىَّ كلمات عبده عثمان “يا بدر يا عديني” التي تضاف إلى أغاني الصباح الأثيرة عند اليمنيين:
“يا بدر يا عديني، جننتني وشليت شليت نوم عيني/ من الصباح لونك والسحر في جفونك مكتوب على الجفونِ/ فجري معك أسرته والليل أنا سهرته وحدي مع شجوني”.
القصائد الغنائية الي كتبها إسكندر متعددة، توزعت بين الوطني والوجداني ومنها:
"بحبك أنت وبك راضي.. ولا بهتم بقول الناس/ كلام الناس ذا فاضي.. ويجرح كل ذي إحساس/ يقولوا إن لك ماضي.. كلام حُسَّاد ما لوش أساس".
وأغنية "يا طالعين جبل صبر بلغوا مني السلام/ على الحبيب حينما يمر حلوه عيونه والقوام/ واندهوا له وابصروا عسى يكون منه كلام".
_________________________
(1) يرد في محاضرة (إسكندر ثابت صوت الوطن الصدَّاح) لنجيب سعيد ثابت في منتدى الجاوي الثقافي 2014م أن هناك زعامات سياسية كبيرة كانت ترعى وتدعم الفنان إسكندر ثابت في الفترة التي عاشها في مصر بين 1938-1960م مثل أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري، وعلي محمد الجفري، ومحمد علي عثمان، والسلطان علي عبد الكريم وبعض أمراء لحج
(2) جد الفنان إسكندر ثابت من أمه صالح حسن، الذي تلقّب بالتركي، ويقال إنه كان يربي الديك الرومي في حوش منزله ويبيعه للإنجليز بعد أن كان يقوم بالمهنة ذاتها أيام تواجد الجيش التركي - وقد قدم غالباً مطلع القرن العشرين من إحدى مناطق اليمن الداخلية - وهذا الرجل كان له الفضل الكبير في تعليم العشرات من الطلاب اللغة الإنجليزية والموسيقى في مكتبه في الشيخ عثمان، وصار بعضهم أعلاماً كبارا في تاريخ اليمن، أمثال المرشدي ومحمد سعيد مسواط وإدريس حنبلة ومحمد أحمد يابلي (والد الصحافي الراحل نجيب يابلي)، بالإضافة إلى حفيده الفنان إسكندر وشقيقه سعيد ثابت والد الفنان نجيب سعيد ثابت. انظر مقال الكاتب بلاد تلبسنا مثل جلد فنهرب منها إليها – موقع قناة بلقيس
(3) يقول الفنان نجيب سعيد ثابت - ابن شقيق الراحل- عن هذا النشيد أن عمه كتبه حينما كان طالباً في الصف الثاني الثانوي بمدرسة حلوان القديمة، وقدمه للجنة النصوص التي كان يرأسها الشاعر الكبير أحمد رامي، وكان أحد أعضائها محمود حسن إسماعيل وكان تقييم اللجنة لهذا النشيد بدرجة جيد جداً، وبعد ذلك تم تسجيله للإذاعة المصرية- إذاعة صوت العرب في 1954م.
(4) موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين – الجزء الثاني ط 2005 ص 181
(5) ينظر المقالة المنشورة في صحيفة الأيام https://www.alayyam.info/news/2ZG0YYO0-UOI832 بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل الشاعر والفنان والتربوي المناضل عبد الله هادي سبيت
(6) منصة خيوط https://www.khuyut.com/blog/tiazi-song
(7) هذه القصيدة تذهب كل الترجيحات إلى أن ابن سلام هو من كتبها حينما كان طالبًا في القاهرة، وقت كان ثابت مقيمًا فيها أواخر الخمسينيات، وهناك من يظن أن الشاعر عبده عثمان محمد هو صاحبها. أما الفنان نجيب سعيد ثابت ينسبها للمطرب نفسه (عمه إسكندر ثابت)، لكنها تبقى واحدة من القصائد الخالدة المؤسسة لهذا اللون.