مقالات
الأندية في مدينة عدن ودورها الثقافي والسياسي في مجابهة الاستبداد والاستعمار (3-3)
لم يتوقّف حدود نشاط الأندية الثقافية في عدن، واهتمام القائمين عليها بأبناء المستعمرة، وأوضاع المنطقة القابعة تحت قبضة الاستعمار، بل كان اهتمامها بجميع اليمنيين. كما أن تأثيرها امتد إلى بقية المناطق في تعز ولحج والمكلا، وأثرّت على قطاعات شعبية واسعة من العمّال والحِرفيين والتجّار الصغار، القادِمين من القرى في شمال اليمن للعمل داخل المدينة.
لقد دفع احتكاك العمّال بمثقفي المدينة إلى محاكاتهم في إنشاء الأندية القروية، بحيث يمكن القول "إن أروع الأعمال وأقوى التأثيرات هي محاكاة أبناء الشمال الأميين للمثقفين من الشباب في عدن في تأسيس النوادي، ومجاراتهم في القيام بهذا النوع من المؤسسات الحضارية في عدن، ونقلها إلى قراهم" [علي محمد عبده، "لمحات من تاريخ حركة الأحرار اليمنيين"، ص 113 ج1].
فأسسوا أندية ذات أهداف ومضامين اجتماعية، واقتفوا أثر أندية عدن في الجانب التعليمي، لدعم العملية التعليمية، وبناء المدارس في القرى، والتكفل بدفع رواتب المعلّمين، ومساعدة العاطلين عن العمل.
فقام نادي 'الاتحاد الأغبري'، الذي تأسس في مدينة عدن، ببناء مدرسة في منطقة 'الأغابرة'، كما "عيّن مدرِّسين لبعض المدارس، وبنى مدرسة في قرية العصرية من طابقين، الطابق الأعلى منها للطلبة المبرَّزين، كما بنى جناحاً خاصاً ليكون إدارة للمدرسة وقرر النادي راتباً شهرياً لكل مدرِّس، سواء كان النادي الذي عيّنه أو عيّنته الحكومة اليمنية"- [قائد طربوش، 'أفكار أولية عن ثلاث مدارس في الحجرية"]، ومثله قام نادي 'الأعبوس' ببناء مدرسة في 'بني علي' بالأعبوس.
كما لعبت الأندية القروية في مدينة عدن، التي تم تأسيسها بتأثير من الأندية الثقافية، دوراً مهماً في احتضان الأحرار بعد فرارهم من بطش الإمام يحيى، وتهديدات ولي عهده في منتصف الأربعينات، و"في دعم نشاط حركة الأحرار اليمنيين، وعززت نشاط الحركة الوطنية اليمنية، وتصدّت لمخططات الاستعمار التي استهدفت عزل عدن عن سائر المناطق اليمنية، وفضحت أساليب الاستبداد والقهر التي مارسها الحُكام في شمال الوطن وجنوبه" [علوي عبدالله طاهر، "الهيئات الشعبية اليمنية وأثرها في الحياة الثقافية والسياسية"، ص175، "مجلة الإكليل"، عدد 1، السنة السادسة، 1986].
تشير الرسائل المتبادلة بين رؤساء الأندية الأدبية في مدينة عدن، والزعيم الثعالبي، على رؤيتهم ونظرتهم، إلى اليمن باعتبارها كياناً واحداً، وتؤكّد الأدوار التي قاموا بها على حقيقة ذلك. فقد كان لسياسات الإمام العقيمة أكبر التأثيرات السلبية على الأوضاع في جنوب الوطن، الخاضع حينها للاستعمار البريطاني، الأمر الذي دفع روّاد التنوير في مدينة عدن إلى محاولات إصلاح الأوضاع في الشمال، من أجل التغيير في جنوب اليمن، وتهيئة الأوضاع لطرد الاحتلال.
تتطرّق إحدى رسائل لقمان للثعالبي إلى الانعكاسات السلبية لسياسات الإمام الخاطئة في التفاوض مع الانكليز، على الأوضاع القائمة في الجنوب، بحيث استغل الاستعمار الاتفاقية، الموقَّعة مع الإمام عام 1934م، في ترسيخ مواقعه داخل المحميّات. حيث جاء في رسالة لقمان، بتأريخ 13 أبريل 1935م: "اليمن يا مولاي ضاعت تقريباً كلها، فإن المحميات أصبحت الآن بعد اعتراف الإمام بتنازله عنها جزءاً من الإمبراطورية الحمراء (بريطانيا). وقد شرعت حكومة عدن تعمل بهمة ونشاط لتأسيس المخافر وميادين الطيران والمطارات ومحطات اللاسلكي وغير ذلك من وسائل سلب الحرية"، [عبدالعزيز الثعالبي، "الرحلة اليمنية"، ص237 ]. لقد كانت نظرتهم الواحدة لليمن، وارتباط مصير كل شطر بما يجري في الشطر الآخر، هو المحرك للروّاد الأوائل في مدينة عدن للاهتمام بتوحيد جهودهم، وتكثيفها للعمل على تغيير الوضع في الشمال، لكي يسهل طرد المستعمر، وإقامة دولة اتحادية تضم شمال اليمن، والمحميّات في جنوبه، كما عبّر عن ذلك مشروع الثعالبي، الذي حمله إلى الإمام يحيى عام 1924، وكان نصيبه الفشل بسبب رؤية الإمام القروسطية حول الدولة والحكم.
كان المستنيرون الأوائل في اليمن متأثرين بأطروحات دُعاة النهضة العربية، تلك التي ترى أن النهضة الثقافية هي مقدّمة التغيير داخل المجتمعات، وأن التغيير السياسي ما هو إلا ثمرة من ثمار النهضة الفِكرية، والعلمية، وأن مواجهة الاستعمار ومقارعته تبدأ في ميدان الثقافة، وأن الحفاظ على الهُوية الوطنية هو القاعدة الراسخة التي يستطيع الشعب الانطلاق منها بكل ثبات لقيادة النضال، ومقارعة الاستعمار في ميادين الحرب والقتال، وبدون ذلك يكون المجتمع مكشوفاً أمام قوى الاحتلال، وتكون المعركة محسومة سلفاً لصالح الأخير.
ومن هذا المنطلق، بادرت الأندية الثقافية في مدينة عدن إلى الاهتمام بالتعليم، وبادر رجال التنوير الأوائل في اليمن إلى السعي نحو تحقيق نهضة تعليمية في البلد، كما يتجلّى ذلك في الدور الذي لعبه الأستاذان أحمد النعمان، وأحمد محمد الأصنج، في تطوير التعليم في اليمن شمالاً وجنوباً، من خلال ابتعاث الطلاب اليمنيين للدراسة في القاهرة، حيث كانوا ينتمون إلى كل المناطق اليمنية، ولم يكن الاهتمام حكراً على أبناء مدينة محددة، وذلك لأن الهدف لروّاد الحركة الوطنية هو النهوض باليمن شمالاً وجنوباً.
وتؤكد البعثة التعليمية لنادي الإصلاح العربي الإسلامي، التي أُرسلت للدراسة في القاهرة عام 1938م، على تلك الحقيقة، بحيث ضمّت طلاباً من شمال اليمن، وجنوبه، تتكون من: "محمد سالم البيحاني من شبوة، وعلي محمد الهتار من أبناء عدن، وعلوي محمد حسن باهارون من أبناء عدن الحضارم، وسلَّام فارع من أبناء الحُجَرِيَّة في شمال اليمن"، [صادق الصفواني، "تأسيس البعثات الطلابية اليمنية في مصر في ثلاثينات القرن العشرين"].
وقد تم تكليف النّعمان من قِبل النادي، وتعيينه مشرفاً ومراقباً على البعثة العدنية.
رغم كل الأدوار التي قامت بها الأندية الثقافية في مدينة عدن، من اجتماعية، وسياسية، وفكرية، وتعليمية، بداية النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه وللأسف يتم تجاوز ذلك الدور الذي لعبته في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية، ويتم القفز عليه، وتسليط الضوء على مواقف تيارات، وجمعيات، وأندية كان حدود اهتمامها لا يتجاوز حدود القرية، أو المنطقة التي ينتمي إليها أصحابها، بينما كانت تلك الأندية الثقافية، هي صانعة الحراك الأدبي، والثقافي، وكانت هي الحاضنة الأولى، والممهدة لولادة الأحزاب، والجماعات السياسية، والمدرسة التي اكتسبت فيها التنظيمات السياسية، بداية خبرتها في الشأن العام، وممارسة العمل الوطني المنظّم.
وللأسف، فإذا كان الاستعمار قد سعى جاهداً لتدمير تلك الأندية، ومحاربتها، وتقسيمها، وتمزيقها، وفرض الإقامة الجبرية على بعض قادتها، ونفي بعضهم الآخر خشية الأدوار التي قاموا بها في مواجهته، وخصوصاً قبل الحرب العالمية الثانية، فإن التشويه الذي طال قيادات تلك الأندية بعد الاستقلال، وتجاهل الأدوار التي لعبتها الأندية، يجعل من تاريخ الحركة الوطنية مبتوراً، ويحول دون استفادة الأجيال الجديدة من تجربة وطنية رائدة، كان لها ذات يوم دور عظيم في مواجهة الاستبداد، ومقارعة الاستعمار.