مقالات
التحية الواجبة للعراق العظيم وأبنائه الذين تعلمنا منهم!!
كُنا في بداية الطريق شبَّاناً مفعمين بالحيوية والمثابرة، كُنا نلتهم الكُتب التهاماً، وخصوصاً الرواية وكُتب الشعر الجديدة، وكُنا حينما نكتب نتبارى كثيراً في صياغة السياقات بكثير من التصنُّع التصويري، اعتماداً على مراكمات القراءات العجولة، وفي كتاباتنا ومتابعاتنا الصحافية نعمل على الاحتفاء بكل ما هو جديد من الإصدارات والأخبار والمواقف الجدلية، التي تتفاعل في عواصم المراكز القاهرية.
كُنا نعرف عن شعر الستينات العراقي، وشعر السبعينات المصري، وتاريخ مجموعة شعر البيروتية، أكثر من تاريخ التحولات الثقافية في البلاد. كُنا نُعرف بين أقراننا بالحداثيين مقطوعي الجذور. نكتب بلا تحفّظ وبلا أبوّة وأصنام.
كانت السنوات الممتدة من أواخر الثمانينات إلى ثلث التسعينات الأول - قبل الانفجار الكبير- مرحلة التكوين الخصبة لجيلنا الذي كان عنواناً للانتقال بين مرحلتين شديدتي الحساسية؛ هذا الجيل تفجّر ليس داخل الكتابة الأدبية (من شعر وسرد ونقد) وحدها، وإنما تفجّر في ثنايا المنجز الفني والبصري والصحافي.
كان للتحولات السياسية الكبيرة دور واضح في هذا الحراك.
فقد كان الكثير من أبناء جيلي لهم خياراتهم السياسية التي ساعدت العلنية - بعد سنوات طويلة من السرية في العمل السياسي- على إبرازها بدون تحفّظات أو توارٍ..
صحيح أن مرحلة ما بعد صيف 1994م، كانت قاسية جداً، أسماء عديدة من المحسوبين على الطرف المنكسر عسكرياً، أو بمعنى أدقّ المحسوبين على اليسار، وقادت بعضهم إلى انهدامات نفسية واعتلالات صاحبتهم إلى قبورهم، غير أن تعافي أسماء أخرى بفعل الكتابة ذاتها هو الذي جعل من التركيم الحداثي ممكناً، والذي صار معروفاً بالمنجز التسعيني شعراً وسرداً وتشكيلاً وصحافة جديدة.
كان لوجود العديد من الأسماء الأدبية اللامعة، القادمة إلى اليمن من العراق بسبب وضعه الأمني والاقتصادي الصعب وقتها بسبب نتائج كارثة غزو الكويت وما تلا ذلك من عملية حصار وتجريف للبلد الحضاري واشتغال هذه الأسماء في الجامعات والثانويات اليمنية، أثره الكبير في تمتين منجز هذا الجيل، فقد ساعد هذا الحضور كثيراً في عملية التعافي للمشهد الثقافي بشكل عام، والمشهد الأدبي على وجه الخصوص، بسبب النسج العالي للصداقات في الوسط الثقافي، وذوبانهم السريع في مراتب الألفة.
لسنوات عديدة، بقي هؤلاء الأساتذة المرموقون والمحبون سنداً حقيقياً للمثقفين والأدباء اليمنيين، وقبل ذلك لطلابهم في كليات اللغات والإعلام والآداب في جامعات صنعاء وحضرموت وعدن وتعز وإب والحديدة، وثانويات المدن الكبرى.
فمن يمكن أن يتنكّر من المثقفين والطلاب اليمنيين لأدوار الدكتور حاتم الصكر، والدكتور علي جعفر العلاق، والدكتور شاكر خصباك، والدكتور عبد الرضا علي، والدكتور علي حداد، والدكتور وجدان الصائغ، والدكتور صبري مسلم، والدكتور مجبل المالكي، والدكتور سعد التميمي، والدكتور جبار اللامي، ومن هذا الذي لم سيتوقف أمام تأثير الشاعر والمترجم سهيل نجم، والشاعر عبد الرزاق الربيعي، والقاص زيد الشهيد، والكاتب الأديب جمال كريم، والإعلامي أسعد الهلالي، والروائي عائد خصباك، وغيرهم من الأسماء الرائدة، وعشرات الأسماء، التي شكّلت التراكم الحي لتجارب أساتذة عراقيين كبار، مروا من عدن في ذروة التنكيل الصدامي بخصوم البعث السياسيين، فكانت عدن الملاذ المهم لعشرات الأسماء من المثقفين والمفكّرين والفنانين العراقيين، ومنهم الشاعر المجدد الكبير سعدي يوسف، والفنان جعفر حسن، ورشيد الخيون، والفنان حميد البصري، ونمير العامي، والمثقف والأكاديمي المغدور توفيق رشدي.
استذكر سنوات التكوين تلك لتوجيه التحية لهؤلاء الذين كانوا فيه سنداً قوياً لليمنيين، وهم اليوم مشتتون في الأقصاء، ومع الوقت صاروا عنواناً خاصاً للشتات اسمه "الشتات العراقي"، بكل طوائفه وأعراقه وإثنياته.
شتات حمل معه جراح العراق وآلامه العظيمة التي صنعها الحكام، ابتداء من الحرب العراقية - الإيرانية التي حصدت أكثر من مليوني عراقي من خيرة أبناء البلد، وأعادته سنوات طويلة إلى الخلف، ثم مأساة غزو واحتلال الكويت، التي استجلب تدميراً وحصاراً مميتا لهذا الشعب المقهور، وحين وصلت مرحلة ربيع 2003 كان العراق بيد محتل جديد اسمه "الاحتلال الأمريكي"، الذي أجهز على كل ما تبقّى من روح العراق العظيم، إذ أيقظ كل أراضه الطائفية والإثنية والقومية، وتركه ساحة للاقتتال الطائفي، ومركز تمدد وتنفيس لجارتها إيران، التي صارت العراق اليوم هي مكباً لمشاريعها التفكيكية بنوازعها الطائفية، ليس فقط في سياق بنيتين متعارضتين (شعية/ سنية)، وإنما أيضاً داخل البنية التي تتحالف معها، والسبب في ذلك هو إبقاء العراق ضعيفاً مفككاً، لا تحكمه دولة تستلهم روح التعدد فيه، وتوظّف موارده الكبيرة لخدمة أبنائه، وإنما تريده بلدا خاضعا لسلاح المليشيات المرتبطة بها، ليسهل عليها التحايل على قرارات الحصار الدولية، وتجريف الموارد دون أن يستطيع أحد الوقوف بوجهها.
العراق بإرثه الحضاري، وحضوره الممتد طويلاً في رحلة التحولات الكبيرة في المنطقة من حقه أن يعيش منعماً بأرضه وثرواته التي تُنهب وتُجرف، ومن حقه أن تديره دولة قوية تعبَّر عن روح التعدد فيه، ومن حق أبنائه -من المبدعين والمفكرين والعلماء والمهنيين- أن يعودوا إلى وطنهم ليساهموا في بنائه ونهضته من جديد، فليس هناك من شعب يحنّ لأرضه وينوح عليها، فيما يكتب ويصوّر ويغني، مثل العراقيين.
أتذكر ناقداً كبيراً - وهو الدكتور حاتم الصكر- بقي يستقبل لسنوات طويلة في إقامته باليمن عشرات الكُتب من مجاميع شعرية وقصصية ودراسات نقدية من كُتاب ومثقفين عراقيين، فأنجز لاحقاً كتاباً ذا قيمة عالية أسماه "بريد بغداد"، الذي لم يكن كتاباً للتفاتات نقدية وتزجية تحيات لمن يعيشون قهر الداخل فقط من الشعراء، وإنما حنيناً جارفاً لأرض بقي، وعشرات أسماء أعرفهم، قابضين على جمراتها الملتاعة في أفئدتهم.
خطاهم هناك، وروحهم معلّقة ببغداد، ومدن العراق من أخواتها في الشقاء، والأمل والحلم، كما قال.
الخطوات البعيدة في المنافي، لكنها الروح معلّقة هناك في بلاد العراق العظيم.