مقالات
التربوي المباشر والوعي المأزوم!!
منذ أشهر الحرب الأولى، بقي "مقهى الدملؤة" في جولة كنتاكي بصنعاء هو المكان الذي نلوذ به كمجموعة من الأصدقاء متنوّعي الانتماءات السياسية والانصرافات المهنية.
وبقي الصديق والرفيق عبد الكريم الخطيب - مالك المقهى - جدارنا الساند في وضع صعب للغاية على الجميع، انقطعت فيه المرتّبات وكُممت الأفواه، وأقفلت الصحف والمنتديات، ومقرات النقابات والأحزاب.
كنا نشعر -ولم نزل حتى اليوم- بأن هذا المكان هو الملاذ الطبيعي الذي نرمم فيه ذواتنا المتشققة وأرواحنا المتصدّعة، بسبب قسوة سنوات البارود والدّم. لهذا صار المقهى، لبعض من تبقّى في صنعاء من الأصدقاء عنواناً صباحياً للقاءات الصحبة.
عشرات الصور جمعتنا بمن نحب من الناس، وأعدنا اكتشاف قاع المجتمع، الذي ننتمي إليه حقيقة وبدون تصنّع.
عانينا طويلاً من جنون الحرب وتأثيراتها وارتداداتها السياسية والاقتصادية، غير أننا بقينا في السنوات الثماني نقاوم كل بطريقته حتى لا تهدمه الأوضاع الصعبة، وكنا نتعلم من تجارب بعضنا، في كيف نصمد وننهض بعد كل كبوة.. شخصياً مدتني هذه التجربة بكثير من المعارف عن الأصدقاء وغير الأصدقاء وأوجاعهم التي نتشارك بها تقريباً.
الأستاذ أحمد عبده سيف العريقي واحد من الأصدقاء الاستثنائيين في مجتمع المقهى وأكثرنا صلابة، على الرغم من أنه أكثرنا معاناة بسبب ظرفه الصحي وظروف أسرته الصعبة.
فقبل عامين، فقد أحد أبنائه في صنعاء، وقبلها كان مرافقاً لابن ثان في رحلة علاجية طويلة في مصر، لم يزل يعاني من بعض آثارها، في وقت تعثر سفر ابنه الثالث إلى الجزائر للدراسة بسبب فترة الإغلاق الطويلة التي شهدها العالم بسبب تفشي وباء كورونا في العام 2020، فعلق في السودان لأشهر قبل أن يعود إلى صنعاء.
مع كل هذه الأوجاع -إن لم نقل المصائب- لم ينهدم بل قاوم بكثير من صلابة رعيل السياسيين الكبار؛ قاوم بالكتابة وبالبحث العلمي في مجال تخصصه التربوي (تاريخ التربية)، فقد كان أحد أعمدة مشروع "دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية"، الذي تبنّاه مطلع 2020 الراحل الكبير علوان الشيباني، بواسطة مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية، التي كان يرأسها. أنجز أحمد عبد سيف واحدة من أهم الدراسات المتصلة بأثر المهاجرين اليمنيين في التعليم في اليمن، وانطلق فيها من إيمانه بقوّة التغيير في مجتمع مغلق، فلولا اشتداد المعاناة والبؤس لما تولّدت الرغبة بالاغتراب والهجرة لدى ملايين اليمنيين، ولولا الهجرة والاغتراب لما تحوّلت مخاطر وأشكال المعاناة إلى فرص، ولولا الفرص التي أتيحت بسبب الغربة لما تحسنت ظروف المهاجرين والمغتربين، وتميّز بينهم الكثير من النابهين الذين أدركوا تلك الفرص وسعوا بكل ضميرهم الوطني النقي إلى استغلالها تعزيزاً لثقافة المقاومة. ولولا أولئك الروّاد لما تمكنت المعارضة اليمنية في الداخل من البقاء والصمود، ومن توحيد الصف، وإنتاج أدوات نضالهم ممثلة بحزب الأحرار، فالجمعية اليمنية، فالاتحاد اليمني، وصولاً إلى لحظة استعادة الإرادة وتفجير الثورة في صنعاء ثم في عدن.
ولولا نجاح الثورة لما أمكن تغيير النظام، ولولا تغيير النظام لما تحدّث التعليم (على تشوّهه الحالي)، ولولا تحديث التعليم - وإن لم يكن محكوماً بالفلسفة الوطنية المنشودة - لما أمكن إعادة تشكيل ثقافة المجتمع كما نرى، وإن ثلمت، بل إن تعثرها اليوم يعد دليلاً على ما نالها من تغيير، وإن تعثرت قدرة الجماعات والأفراد، ولم تنجح في التغير الإيجابي بالقدر الذي يمكّن الثقافة من الاستقرار والتمكين، عبر خلق وتوسيع حاضنتها المجتمعية".
بهذا الوعي النابه والقناعة الأخلاقية الكبيرة أنجز دراسته المهمة التي عنونها بـ"التأثير المتبادل للمهاجرين والمغتربين على التعليم".
وبعد أن قام الحوثييون بتجريف مناهج التعليم الأساسي لحسابات سياسية وأيديولوجية، عكف على إنجاز دراسة تحليلية للمناهج الدراسية، التي أقرّتها وزارتهم في صنعاء مطلع العام الدراسي، وقام بنشر الجزء الأول منها في منصة "خيوط الإعلامية" تحت عنوان "تجريف المناهج بدواعٍ سياسية ومذهبية - جريمة تحول دون توطين المعرفة وإنتاجها"، رأى فيها أن هذا الفعل لا يخدم التعليم، وتحاول الجماعة توظيفه خدمة لمشاريعها العصبوية.
وقال في خلاصة هذا الجزء
"إنّ تغيير المناهج وانتهاك حقوق العاملين وعمليات الإحلال غير الموضوعية وغيرها من التعسفات، لن تجدي نفعاً على مدى المستقبل، وعليهم أن يفهموا بأنّ إصرارهم على ذلك وعلى استغلال وسائط الإعلام ومنابر الجوامع لن تنتج رضا مجتمعيًّا عنهم، ولن يستطيعوا مذهبة المجتمع كما يشاؤُون أو يحلمون، وأنّهم بكل ذلك لن يوقفوا التغيير التحديثي المطلوب، مهما استمرّت محاولتهم لإعاقته، وأنّهم سيضاعفون فقط التكلفة على المجتمع وقتًا وإمكانات ليس إلَّا، فهل يرعوون؟! وليذكروا بأنّهم سيبقون جزءا من مجتمع أكبر، يفترض لبقائه الوئام، وأنّ ما يكرِّسونه لا يقود إلى تهيئة الظروف لمثل ذلك".
أحمد عبده سيف تربوي كبير، إن لم نقل خبير تعليم مهم؛خبر الحالة العامة منذ انخراطه في سلك التربية والتعليم قبل خمس وأربعين سنة - بعد تخرّجه مباشرة من جامعة عين شمس في العام 1977م، وهو إلى جانب ذلك واحد من أبناء الحركة الوطنية اليمنية منذ انخراطه في لجان المقاومة الشعبية للدفاع عن صنعاء في أواخر العام 1967م، وهو في منتصف العشرينات من العمر، ثم انخراطه في صفوف الحركة القومية (الناصرية).. بدأ حياته الوظيفية في تأسيس معهد معلمي ذمار، ثم عمله مديراً لمدرسة الثورة بالراهدة، قبل أن يتم فصله تعسفياً في العام 1981م بوصمه بتهمة التخريب - تهمة كانت تلصق بالمنتمين للجبهة الوطنية الديمقراطية- وحتى العام 1989م عمل بمهن خاصة، قبل أن يعود من جديد إلى مهنته التي عشقها بعد جهد مضن، فانتقل إلى مدرسة هائل سعيد في صنعاء، التي لم تطل إقامته فيها بسبب مضايقات سياسية، فانتقل لقطاع التدريب، وحط به الرحال بعد ذلك أستاذاً في معهد الشوكاني التابع لكلية التربية بصنعاء، قبل أن يحال إلى التقاعد القسري، دون أن يسوَّى وضعه المالي.
مع انفجار الحرب هرب كل القادة الحزبيين تقريباً، ولم يلتفتوا إلى منتسبي الأحزاب التي يقودونها، ومعاناتهم في الداخل، ولم يكتفوا بذلك بل اختطفوا قرارات الاحزاب وراحوا يتاجرون بمواقفها ليتكسبوا منها دون الرجوع لقواعدها، ومع الوقت صار القادة جزءل من بنية الاستنفاع التي تستديم الحرب ولا يريدونها أن تنتهي، وحين تنقد وتُعرَّى مثل هذه التصرفات الفاسدة يسلط القادة على متبنّيها ذبابهم الرخيص، واتهامهم بالرضوخ والاستكانة للانقلابيين، وما إلى ذلك من التُهم المبتذلة.
لم يسلم منها صديقنا أحمد، إما بالاستبطان أو التصريح لمجرد تسجيله مثل هذه المواقف الشجاعة في أكثر من مناسبة ووسيلة.
وحين تصعّبت عليه الأمور أكثر ولم يعد يجد ما يقيت به أسرته لم يتنازل لأحد، ولم يخضع لإغراءات الاستقطاب لأي من جهة مموّلي ورعاة الحرب، واختار الطريق الأخلاقي الأصوب بأن عمل في المقهى الذي التذنا به في سنوات الجمر، ولم نزل.. عمل مباشراً (نادلاً) ومشرفاً على العمّال، ولم يرَ في ذلك عيباً، كما يراه الوعي المأزوم المريض.. منذ عامين يصل إلى المقهى قبل السادسة، ويغادره قبيل الظهر بعد أن يكون قد أنجز عملاً بطاقة شاب، وضمير إنسان كبير، وهو يزاول هذا العمل أنجز دراستيه المهمتين -اللتين أشرنا إليهما- ولم يزل مهموماً حتى قاع رأسه بقضايا المجتمع المتهتّك.
تحية لهذا الرجل الكبير الذي يرى في العمل الهامشي - المستنكف في الوعي الحزبي والقبلي المريض- موقفاً أخلاقياً قبل أن يكون بوابة للقمة العيش.