مقالات
التيه الاجتماعي
تصل المجتمعات إلى حالة من الضياع والحيرة القاتلة وانعدام الاستقرار الذاتي والمجتمعي نتيجة المعصية الجماعية، والمعصية الجماعية هي التي تُرتكب تحت رعاية الدولة (المعصية المُرسَّمة أو المُقنَّنة)، أو المعصية التي تُرتكب من مجموعة من الأفراد ولا يوجد من يردعهم.
وحالة التيه يُصاب بها الأفراد والمجتمعات، فتيه الأفراد نتيجة تقصير فردي، وتيه المجتمع نتيجة تقصير جماعي كما بيّنا سابقاً.
فالتيه الفردي هو أن يفقد الفرد البوصلة في حياته، وإن امتلك مالاً أو جاهاً، فهو يمضي بلا رشد ولا توفيق، يسير بلا هدى، وحالة التيه الفردي تنتهي في حالتين؛ إحداهما: قبول التوبة الصادقة من الله، وتنزّل رحماته على الفرد ويهديه إلى طريق الرشد. والأخرى: أن ينتهي بموت الفرد فيمضي إلى ربه بما ارتكب من المعاصي، ويكون في كنف الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له.
وأما التيه الجماعي وهو الأخطر، إذ إنه يجرف في طريقه كل شيء، فتصبح الأوطان نهباً للأطماع من كل صنف وكل جنس.
وفي هذه المقالة نبيِّن حالة التيه وعلاماتها التي تُصيب المجتمعات، ومدى تحققها في المجتمع اليمني، والسبيل إلى الخروج منه.
-ملامح التِّيه
لا يصعب إدراك ملامح التِّيه في المجتمعات، ويمكن لأي شخص امتلك قليلاً من المعرفة إدراك ذلك، ومن أهم تلك الملامح أو العلامات ما يلي:
1- تمزَّق المجتمع
تحوّله إلى مجموعات (كانتونات)، كل مجموعة تعتقد الصواب وتظن أنها تمتلك الحقيقة، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تقدِّم شيئاً للمجتمع، إما بفعل داخلي (تقاعس وانعدام بصيرة) أو بقيد خارجي، فتمتلك السلطة ولا تمتلك القدرة، أو تستثمر السلطة في طريق غير صائب أو تستثمرها في طريق الباطل.
2- الاختلاط المجتمعي
ولا نعني الاختلاط بين الذكور والإناث، وإنما نعني الاختلاط الذِّهني؛ فلا يتمكّن الفرد العادي من التمييز بين أهل الصواب وأهل الخطأ، أو لا يستطيع أن يُميِّز بين الحق والباطل، فالكل عنده سواء.
3- انقسام النّخبة
فتكون من حيث المكنة المادية: نخبة تمتلك المادة وتمتلك السلطة، ولكنها لا تمتلك القرار ولا تمتلك الإخلاص، فتتحول إلى نخبة أنانية لا رُشد لها. وهي في هذه الحالة لا تستطيع أن تتخذ قراراً، وإن اتخذت قراراً لا تستطيع تنفيذه؛ لأن تنفيذه يهدد مصالحها؛ ولهذا تكتفي بالكلام وتكتفي بالحركة الروتينية التي لا قيمة لها على أرض الواقع، وتتباهى بالمكانة، وتبالغ في تقدير الذات وصناعة المكانة المجتمعية، وتنفق المال على الرَّفاه بشكل غير طبيعي يظهر عليه انعدام الرّشد، وتتبنّى القضايا الهامشية، وينعدم لديها التفكير الإستراتيجي.
وتكون شخوص هذا القسم من النّخبة أشبه بالأشكال الكرتونية، وهذه الفئة تقنع نفسها بأنها تؤدي دورها المجتمعي على أكمل وجه، وتحسب أنها قد صنعت شيئاً ذا قيمة: "يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً".
أما القسم الثاني من النُّخبة، فهو لا يملك المادة، ولا يملك السلطة، وفي الغالب يكون هذا القسم من أصحاب الفكر أو ما يُطلق عليهم "أرباب القلم وأصحاب الخبرة". وهذا القسم يُستبعد من دائرة صنع القرار ويحترق بعيداً عن الأضواء، ويتراجع تأثير دوره إلى دائرة الصّفر.
4- تغوّل الفقر وتضييق مصادر الدّخل
تصبح أغلب مصادر الدّخل بيد حفنة من أصحاب الذِّمم الخربة، وأصحاب الضمائر المنعدمة، فتتسع فجوة الفقر وتتسع دائرة الفقراء، وتتسع معها دوائر المفاسد المجتمعية مثل: السرقة وانتشار الفواحش، وتنتشر ظاهرة التجارة بالقيم: "يبيع دينه بعرض من الدّنيا زائل".
5- إلهاء المجتمع بالهامشيات
في ظل التِّيه المجتمعي تظهر طفليات، إما بطريقة منظمة أو بطريقة غير منظمة، تهدف إلى اختراع مجموعة من القضايا الهامشية تُشغل المجتمع بها وتقوده إلى مربَّعات غير ذات جدوى، وتُشكك في أي مبادرة، وتَعتَرض - لمجرد الاعتراض - على كل شيء.
ففي أي مصلحة تعترض عليها وتُقدّم نقداً لمن يقوم بها، فلو بادرت مجموعة لتنظيف الشوارع -مثلاً- وهذا الفعل لا يختلف على صوابه اثنان، فمجموعة الطفيليات ستُقدّم نقداً لتلك المجموعة وتَصرِف الناس عن تقديم الخدمة المجتمعية.
وإذا طُرح موضوع للنقاش تتدخل تلك المجموعات وتُخرج النقاش عن موضوعه، وفي النهاية لا يخرج المناقشون بنتيجة ولا يصلون إلى حل.
6- العجز عن تقديم الخدمات
في ظل التِّيه الاجتماعي تضعف الدّولة وتختفي أو تعجز عن تقديم الخدمات، بقصد أو بغير قصد. فيتصدّر مشهد الخدمات شخصيات غير قادرة وليس لديها إحساس بالمسؤولية، ويتسنّم مناصب الخدمات شخصيات غير كفؤة مؤلَّهها التطبيل، وشعارها اللامبالاة.
-وأخيراً
هذه الملامح موجودة في المجتمع اليمني، ولا سبيل للخروج منها إلا بانتهاء الجيل الموجود، ووجود جيل لا يعرف الحسابات السياسية؛ لا الإقليمية ولا المحلية.