مقالات
الحرب التي لا تُرى على حقيقتها!!
لم تعد مقولة الصحافي والسياسي اللبناني الراحل غسان جبران تويني (حروب الآخرين على أرضنا)، التي أشار إليها الكاتب المرموق حازم صاغية في مقاله ("في أن الخارج أشد احتمالاً من الخارج" – الشرق الأوسط العدد 15779)، تنطبق على لبنان واللبنانيين فقط، فقد صارت تعني العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن، وغيرها من البلدان الغارقة في أتون الحروب والأزمات.
واليمن هو المعني بهذه الملامسة، لأن الحرب على أرضه، وتحصد من أرواح فقرائه الألوف، صارت منسية، وصار المنتفعون منها بعيداً عن أعين الخارج، الذي طالما تم التعويل عليه للاصطفاف مع الداخل المنتهك، ومساندته ضد مشعلي الحرب وأمرائها، والمتاجرين بدم ضحاياها المدنيين.
الخارج، الذي نعنيه، ليس المؤسسات الرسمية ودبلوماسية الانتفاع والابتزاز للدول المؤثرة، بل الرأي العام الشعبي فيها، والقادر على إرغام حكوماته المتورّطة في هذه الحرب على العمل على إيقافها، ودعم جهود السلام بين أطرافها، لأن السنوات السبع الماضية لم تخلق في الأفق أي بادرة لإنهائها بانتصار طرف، أو بمسعى الذهاب إلى سلام مستديم بين الأطراف المتحاربة، التي تُدار بنادقها من غرف العمليات السرية في "طهران والرياض وابو ظبي"، والتي هي الأخرى تُدار من غرف أكثر سرية في "موسكو وواشنطن ولندن وتل أبيب"، حيث تتقرر مصالح الدول على هذه الأرض.
هذه الدول ربطت ملفات معقّدة وكبيرة في المنطقة والعالم بحروب طويلة هنا وهناك في دول فقيرة ومنسية كاليمن.
فلو أحسّ الرأي العام هذه الدول، ماذا يعني أن تنقطع مرتبات ثلثي موظفي الدولة منذ ستة أعوام، فلا يجد الموظفون ماذا يطعمون به أسرهم؟ وماذا يعني أن تحكمك مليشيات لا ترى في الوطن غير مورد جباية، ولم يوقفها ضمير في تحويل كل ما يرتبط بمعيشة السكان من سلع وخدمات ضرورية، هي من واجبات الدولة، إلى سوق سوداء تُدار بأدواتهم الفاسدة، وتدرُّ على سلطتهم مليارات الريالات التي تكفي لصرف المرتبات لأشهر طويلة؟ وماذا يعني تقطيع أوصال البلاد، وإغلاق الطرقات والمنافذ الحيوية بين المدن والأرياف، فيتكبد المواطنون من جرائها الشقاء المميت لعبور طرقات جبلية وعرة في ساعات طويلة، لم يكن يستغرق قطعها غير دقائق معدودات قبل الحرب؟
وماذا يعني فساد الموظفين الأمميين ووكلائهم في المنظمات المحلية التي صارت تتاجر بأقوات النازحين والمشرّدين وإطعامهم أغذية منتهية الصلاحية حُسبت على الجهات المانحة (في الفواتير) بأسعار مضاعفة عن أسعارها الحقيقية؟- كلنا يتذكر تسريب بعض الفواتير التي حسبت سعر العلبة الفول بألف ومائتي ريال، ولم يكن سعرها في المحلات الصغيرة سوى بمئتي ريال.
وماذا يعني تحويل المدارس إلى ثكنات عسكرية وأماكن لتحشيد المقاتلين الصغار إلى جبهات مفتوحة على الموت دون غيره؟ وماذا يعني اختطاف قرار الرئاسة والحكومة وتحويل أعضائها ورئيسها إلى أدوات مبتذلة لتبرير الاستباحة، وتفكيك التراب، وتدمير البنية التحتية؟ وماذا يعني أن تتحول قيادات الأحزاب المدنية إلى تابعين رخيصين يتسقطون حسنات أمراء الحرب وعطاياهم في كشوف اللجنة الخاصة ودواوين المشيخ والأمراء في دول البترودولار؟ وماذا يعني تحويل الوظيفة العامة إلى احتكار سلالي مقيت لبيوت وعائلات تعتقد أنها مخوّلة بحكم اليمنيين بمشيئة إلهية؟
وماذا يعني تفشّي المجاعة في قرى اليمن الفقيرة، وسقوط الأبرياء في حقول الألغام التي تسيَّج مناطق التماس؟ وماذا تعني الحملات الممنهجة لتأجيج الصراع المناطقي والطائفي والجهوي في البلاد؟ وماذا يعني تخريب التعليم واستبدال المناهج التعليمية المؤلَّفة قبل سنوات الحرب الرسمية بأخرى طائفية، لتمجيد رموز إشكالية في تاريخ اليمن؟ وماذا تعني حالة النزوح والتشرّد للأسر من مناطق التنازع إلى مخيمات في أطراف المدن والتجمعات السكانية تفتقر إلى أبسط شروط الحياة، ومع ذلك لا تسلم، هذه المخيّمات، من الصواريخ والمقذوفات التي تحصد أرواح ساكنيها العُزّل؟ وماذا تعني تفشّي ظاهرة التسوّل في المدن، أبطالها نساء وشبان وشيوخ وأطفال، تحيل توسلاتهم الباكية، في الأرصفة وأمام المحلات التجارية، إلى لهجات معظم جهات اليمن، التي وصلتها مدافع المتحاربين أو سياطهم؟ وماذا يعني انقسام النّخب السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد التي يعوَّل عليها الكثير في إيقاف تروس الحرب، والبحث عن مشتركات وجوامع بين فئات المجتمع؟
لكان الأمر اختلف تماماً، وتحررت البلاد من قبضة مختطفيها بقوّة السلاح.
لهذا الحرب ستطول لسنوات مادامت ملفات المنطقة لم تغلقْ، وعلى رأسها ملف إيران النووي، وستطول أكثر ما دام الطلب على سلاح الشركات الكبرى مرتفعاً، وما دام قرار الوكلاء المحليين ليس بأيديهم، وما دامت الحرب تدِّر على قيادات المتحاربين الأموال الطائلة والامتيازات الكثيرة، وستطول أكثر وأكثر ما دام رعاتها ومموّلوها حصروها في المناطق الثانوية لإلهاء اليمنيين بأخبارها البائسة، بعد أن صارت المناطق الحيوية في البلاد (مناطق الثروة والممرات المائية والجزر الإستراتيجية) بيد دول التحالف وإيران، فالأولى مسيطرة عملياً على حضرموت وشبوة والمهرة ومأرب وسقطرى وعدن وباب المندب؛ أما إيران فلم تزل تقبض على الساحل التهامي والعاصمة ومناطق الكثافة السكانية في اليمن الأوسط، حيث المخزون البشري الهائل القادر على تغطية سنوات إضافية للحرب، وحيث مناجم الجباية التي لا تنضب التي خلقت، في السنوات المنقضية، من سلطة الأمر الواقع والعائلات التي ينتسبون إليها، طبقة جديدة تتكسب من دم اليمنيين وكدّهم الطويل.