مقالات
الحوثيون وسؤال ما بعد الحرب؟!
أكثر ما يشغل بال اليمنيين هو هذا السؤال: في حال توقفت الحرب هل سيقوم الحوثيون بصرف مرتّبات الموظفين، ويرخون قبضتهم الأمنية، ويتعاملون مع الناس على قاعدة المواطنة المتساوية، إذا ما مُكّنوا من حكم اليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية سابقا)، الذي يسيطرون على معظمه بقوة السلاح، وبرغبة إقليمية؟
الكثير من الشواهد تقول: لا!! ليس فقط من عدم اليقين بتوقّف الحرب في المدى المنظور، وإنّما أيضاً من القياس على اختبارات سلطتهم في السنوات الست الماضية على ردود أفعال الناس تجاه سلوكهم الاستحواذي، التي تُؤشر إلى أنها ستجعلهم يتمادون أكثر، إن تمكّنوا من الحكم في سياق تفاهمات دولية تعترف بهم كطرف شرعي!
في ظل إعادة تقاسم المصالح في البلد المتهتك بين رعاة الحرب الرئيسين (إيران والسعودية والإمارات وقطر)،
فليس هناك حركة احتجاج تشكّلت من القاعدة الجماهيرية ضد قطع المرتّبات، وتسليع الخدمات الأساسية، التي هي حق أصيل من حقوق المواطنين، ولا ضد إنشاء اقتصاد موازٍ عماده فوائض السوق السوداء والاتجار بالعملة، الذي قامت وتقوم به الجماعة في المناطق التي تسيطر عليها.
تطبيع الأوضاع في المستقبل، من وجهة النظر الحوثية، سيقوم على قاعدة إسقاط كل حقوق الموظفين العموميين، إلاَّ أولئك المرتبطين بالجماعة ومصالحها، فقد صار معظم الموظّفين يزاولون أعمالهم في الوزارات والمؤسسات والجهات الحكومية بأوضاع أقرب إلى السُّخرة. فمن فرْط وشدة التهديد والوعيد، الذي يُمارس على الموظفين المعدمين المتغيبين، بالفصل والاستبدال، يضطر أكثرهم إلى الدوام في الجهات دون أن يتحصّلوا على عوائد مالية تقيهم شرور الحاجة، وإن صُرفت للبعض منهم تحت مسمى "بدل مواصلات وحوافز" فتصرف بتمايز، وعلى قاعدة "المن والصدقة"، التي يتفنن مسؤولو الجهات بفرضها على مشاعر الموظفين.
العوائد الضخمة، التي تجتبيها المؤسسات الإيرادية (الضرائب والجمارك) والصناديق السيادية وهيئة الزكاة وهيئة الأوقاف، يمكن للقليل منها تغطية المرتبات، وما في حكمها، للموظفين الذين يعملون في الجهات التي تسيطر عليها الجماعة، لكنها لا تريد ذلك، فهذه العوائد الكبيرة توظّف لتقوية القبضة الأمنية للجماعة، ودعم محاربيها، وإثراء قياداتها.
وبنظرة سريعة على تشكّل دولة الإمامة تحت مسمّى "المملكة المتوكلية اليمنية"، بعد خروج العثمانيين منها في العام 1918م، يمكن لقارئ الموضوعات التاريخية، في تاريخ اليمن المعاصر، أن يعثر على تشابهات عديدة بين توجّهات الجماعة الحوثية، بما اختطه الإمام يحيى وحلفاؤه الأقربون من بيت الوزير، لتقوية سلطتهم الوليدة وقتذاك.
فقد اعتبر الإمام يحيى كل مخلّفات الدولة العثمانية من أسلحة وعتاد وآليات ومنشآت ومخازن ملكاً شخصياً له، وتملّك ذلك كله كتعويض خاص باسمه وليس باسم الدولة اليمنية المستقلة (التي نسبها بالاسم إلى لقبه المتوكل على الله)، لهذا كان يرى في الإنفاق من ذلك تفضلاً منه على اليمنيين، وعلى قاعدة [إنما نطعمكم لوجه الله]؛ قطَع الإمام الجديد مرتبات الموظفين العموميين على ندرتها وقلّتها، وأبقى القليل جداً منها لخاصته من الموظفين الكبار، الذين كانوا يتسلمونها كهبات وعطايا، وعلى أبنائه السيوف، وأحفاده الأمراء؛ أما العسكر الذين كان يصرف لهم القليل من المال والحبوب والأكسية في المواسم، فقد كانوا يُطلقون على الرَّعية، ويعتاشون من التنافيذ الدائمة التي يتّبعها الحكام (القضاة والولاة)، بسبب إثارتهم النزاعات بين المواطنين، حتى يجدون معاً (الحُكَّام والعسكر) منافذ متعددة للحصول على الأموال من التنازعات التي لا تنتهي، وبغطاء دِيني من سلطة الإمام.
بعد أن دخل الحوثيون صنعاء، وتسلمهم معسكرات الجيش بتواطؤ من علي عبدالله صالح، وبعض أطراف السلطة الانتقالية في خريف 2014م، شاهدنا كيف قاموا بنقل محتويات المعسكرات من الأسلحة والعتاد والذخائر، على قاطرات ضخمة، إلى معقلهم الرئيس في محافظة صعدة شمال البلاد، وكيف قاموا بإفراغ خزائن البنك المركزي والبنوك التجارية الأخرى، التي كانت تحتفظ بودائع مدّخريها في خزائن المركزي اليمني، ونقلها هي الأخرى إلى مخازن سريّة في المعقل ذاته.
بعد أشهر قليلة، رأينا كميّة السلاح بين أيدي مقاتليها العصبويين، الذين سمّتهم "اللجان الشعبية"، يتقدّمهم في جميع المحافظات اليمنية لإخضاعها بالقوّة، ولم يكن الأمر مقتصراً على الحاضنة الشعبية للجماعة، في محافظات الشمال، بل في اليمن الأوسط، والسهل التهامي، وصولاً إلى مدينة عدن ومجاوراتها وشبوة، عدا مأرب.
ورأينا كيف سال المال في شركات الصرافة والمضاربين الماليين القريبين من الجماعة، الذين تحوّلوا إلى أقلية تتحكم بالقطاعين المصرفي والمالي.. وعلى أيديهم انعكست الآية، فصارت البنوك تستلف أمولاً من الصرافين، أو تستبدل احتياطاتها القليلة من العملة الأجنبية (التي بقيت تحتفظ بها بعيداً عن أعين المركزي)، بعملة محلية من الصيارفة أنفسهم في ذروة أزمة السيولة النقدية، حتى تغطي احتياجاتها من السيولة.
بعد أشهر من استباحتها العاصمة والمدن الرئيسة، بدأت بالتلكؤ بصرف المرتّبات، ثم تنصيصها بين أشهر متباعدة، وصولاً إلى قطعها نهائياً عن عموم الموظفين، مع إبقائها بالطبع على قيادات الجماعة والمتنفذين فيها والموالين القريبين لها.
وصار كل من يطالب بحقه ومستحقاته من المرتّبات متهماً بموالاته "دول العدوان"، ويعمل مرشداً لضرباتها الجوية واعتداءاتها، وإن المئات من الموظفين الذين ارتفع صوتهم المطالب بحقوقهم صاروا نزلاء الزنازين في السجون والأقبية السريّة، أكثرهم قد لُبِّسوا تهماً كبيرة، هي بمقاييس القضاء التابع للجماعة "جرائم خيانة" تستوجب الموت.
أتوقّع إذا ما تسلّموا الحكم بشكل متوافق عليه في المستقبل، أنهم سيمضون على قاعدة "الدولة ليست جهة رعاية اجتماعية"، وبالتالي فهي غير معنية بصرف إعاشة لأحد لا يخدمها، بوصفها تنظيماً قاهراً، وإن الخدمات التي يفترض أن تقدّمها للناس مجاناً بحكم مسؤوليتها ستصير سلعة تتحكّم بها شبكات نافذة داخل الجماعة، كما هو حاصل اليوم بتسليع خدمات التعليم، والتطبيب، والماء، والكهرباء، وتسليع إعانات الغذاء التي تتفضّل بها المنظّمات.