مقالات

الخيط المتين بين المُلحدين والمتطرّفين!

21/08/2024, 06:58:04

قبل عدّة أشهر، تناولت منصات التواصل تقريرا غامضاً منسوبا لمركز بحثي مجهول في أوروبا، قدَّم نسبة مئوية للمُلحِدين في البلدان العربية، مرتبة تسلسلياً.

هنا دخلت الفكرة في إطار استخدام خارجي منظَّم، لا يريد أن يرى مجتمعاتنا إلا في قاع الهوان: إما جموع مُذلة مُهانة من مستبدين داخليين وجماعات دينية متطرفة وطائفية، أو لا يراها إلا مجتمعات تتنكر لدينها، يختزلها في مجموعة أسماء تحدث ضجيجا عبر منصات التواصل كي تقدم قضايا زائفة، تشوِّش على القضايا الحقيقية، وتحاول إثارة الغُبار حولها.

المُلحد الفيسبوكي هو أحد تجليات التفاهة. انتهازيون أو مشوّشون وجدوا أنفسهم مقيمين في عواصم غربية، أو أفراد فقدوا توازنهم في بلاد منهارة ولم يعودوا قادرين على اختيار طريق في مواجهة الخراب سوى ممارسة زعيق عدمي عشوائي، يرجم إحباطه فوق الدِّين حينا، أو يتنكَّر لانتمائه العربي وهُويته اليمنية حينا آخر.

بإمكان من يقيم في مدينة أوروبية أن يُلحد كما يشاء، أو يفعل ما يشاء، لكن بدون أن يحول إلحاده إلى عقيدة يبشِّر بها في مجتمع مسلم.

المُلحد اليمني في أوروبا يشبه المثلي الأوروبي الذي يريد تحويل "مثليَّته" إلى عقيدة يروِّج لها في المدارس والفضاء المجتمعي في بلاده.

المُلحد الحداثي، الذي يقدّم إلحاده أيديولوجية يستخدمها كخطاب عام في مجتمع مسلم، هو أفضل نصير لجماعات التطرف الدِّيني؛ لأنه يخلق معركة "دونكشوتية" مع السماء.

المُلحد، الذي يسخر من معتقدات الناس ويستخف بما يؤمنون به، لا يواجه التطرّف الدِّيني بطريقته هذه، وإنما يعضده ويسانده.

في الوقت الذي سقطت فيه تماما التيارات الدينية المتأسلمة أمام المجتمع؛ بسبب سُوء ممارساتها وانسداد أفق مشاريعها وتعري تكالبها على المال والسلطة ونشرها للكراهية وتمزيقها للنسيج الاجتماعي، تأتي صبيانية المُلحدين الفجّة لتمنح هذه التيارات مناسبة تمكِّنها من إعادة إنتاج نفسها.

في الوقت الذي تحترق فيه الجماعات المتطرِّفة أمام الشعوب، يأتي المُلحدون الجُدد ليمنحوها طوق نجاة.

السؤال الصحيح هو ذاك الذي يبحث في أزمة مجتمعاتنا مع جماعات مصالح شوَّهت الإسلام وأساءت له، أزمتنا مع هؤلاء وليست مع الله والقرآن والإسلام. مشكلتنا هي جماعات مصالح تستخدم الدِّين وتحرِّف مضامينه؛ ليكون أداتها في الصراع الدّنيوي.

مجتمعاتنا مكبَّلة باستبدادات متنوّعة، وجماعات إسلامية سياسية. خصومة مجتمعاتنا هي مع من يستخدم الدِّين للتسلَّط عليها، وليست مع الله ولا مع الإسلام، الذي يمثل بالنسبة لها دينها وملاذها الأخلاقي.

من يريد أن يكافح من أجل دولة مدنية حديثة تحكم بالقانون والمشروعية الدستورية الحديثة، وحاكمية الشعب صاحب السلطة ومصدرها فعليه أن يحترم ثقافة شعبه، وأن يميِّز بين الإسلام كدين وثقافة عامة لشعب يدين به، ونخب الإسلام السياسي وجماعاته وشيوخه وكهنته.

- تناقض زائف

هل المواجهة في بلداتنا بين فسطاطي المؤمنين والكافرين، أم بين مستبدين وجماعات دينية سياسية من جهة، والمجتمع من الجهة الأخرى؟

هل الصراعات السياسية، وما تلاها من ثورات شعبية وحروب أهلية، كانت حول قضايا دنيوية لها علاقة بالدولة والثروة والمصالح الاجتماعية والظلم والاستبداد والتطرف، أم أنها صراعات دينية؟

التيارات الدينية، على تناقضها، تصوّر نفسها حامية الإسلام وممثله الصحيح، ومفهومها للخلاف مع الآخر يقوم على شيطنته وإلغائه باعتباره خارجا عن الإسلام الصحيح، أكان فردا أو حزباً، منطقة أو مذهبا، لمجرد أنه لا يُقر لها باحتكار السلطة السياسية والاجتماعية.

المُلحدون الجدد، الظاهرة التي بدأ ضجيجها الفارغ يرتفع في السنوات الأخيرة عبر أصوات في مدن وعواصم غربية، هم الوجه الآخر للخطاب السلفي المتطرِّف ووعاضه.
إنهم يزيِّفون الحقيقة، إذْ يقدمون السؤال الخطأ، وكأن مجتمعاتنا تطالب بحُرية الإلحاد، وليس بحقها في الانعتاق من تسلّط استبدادات وجماعات دينية تستخدم الدِّين لتحقيق مصالحها السياسية والهيمنة على الدولة والمجتمع وفرض استبدادها وأفكارها عليه.

المُلحدون الجدد في عصر الترندات والفضاء المفتوح يقومون بإرهاب مجتمعاتنا، التي يخيِّرونها ما بين الإلحاد ورفض الإسلام، أو الخضوع لجماعات الإسلام السياسي والتسليم بأفكارها!

- الإصلاح الدِّيني

العقيدة الإلحادية الديماغوجية الآخذة في البروز ربما تفوِّت على مجتمعاتنا فرصة تاريخية للإصلاح الدٍِيني الذي طال انتظاره؛ إصلاح ديني لاحت ضرورته مع وصول استخدام الدِّين إلى ذروة تدميرية على أيدي جماعات دينية أضرت بالدِّين وبمجتمعاتنا في العقود الأربعة الأخيرة.

الجماعات المتطرِّفة تبني رؤاها وتسوقها للناس على أساس أنها حامي الحمى الذي يتصدَّى للمُلحدين والكفار.

يقدِّمون في خطابهم الديماغوجي الدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان والانتخابات والدساتير وحكم القانون باعتبارها أدوات الغرب المناهض للإسلام، الذي يستهدف وجود الأمة ودِينها وتاريخها.

ما يحتاجه الناس في مواجهة هذا التطرّف هو خطاب يبيِّن لهم أن من يستغلون الدِّين لمصالحهم السياسية يكذبون. إن هؤلاء يمثلون الاستبداد المرتدي لبُوس الدِّين، لا الإسلام ومعتقدات الأمة وتاريخها.

نريد دولة يختارها الناس وفق الدستور والقانون، الذي يساوي بين الناس ولا يفرِّق بينهم بسبب المذهب والمعتقد والعرق والمنطقة والقبيلة.
قضيتنا هي الدولة والمواطنة وإقرار أنَّ من يحكمنا نختاره نحن، ونحاسبه نحن، ونعزله نحن كشعب بموجب الآليات القانونية المتفق عليها.

أما الأديان والمذاهب فهي أزلية وباقية ما بقيت الحياة. لا علاقة للصراع السياسي بمهام من قبيل إقرار تمثيل جماعات سياسية لدين خلاصي تحتكره جماعة وتحكم باسمه، وليس من مهامها أيضا تبنِّي عقيدة إلحادية تتخذ لنفسها رؤية تؤمن بنفي الأديان والعمل لتقويضها ونسفها بجدالات يومية وسجالات ديماغوجية هي الوجه الآخر للمتطرِّفين اللابسين لبُوس الدِّين.

- العِلم والإيمان

المثقف الذي يعتنق العقيدة الإلحادية يكشف عن جهله باستخدام مجتزأ وسطحي للعِلم، ويقدّمه كعقيدة جامدة قابلة للسِّجال اليومي في مواجهة مجتمع مسلم يتنمَّر عليه. كأنَّ إيمان الناس يتحدد بفيديو رقمي يثغثغ بما لصق في ذهن معدِّه من قراءات سطحية مجتزأة، يوظفها في معارك عدمية ترسم لنفسها أهدافا تلغي وجود الله والأديان، وتتناقض معها ابتداءً.

تطور العِلم ليتجاوز الصيغة الجامدة للعِلم الكلاسيكي الميكانيكي الذي ساد قرنين مع المنظور النيوتوني، ليتخلَّق الآن عِلم حيوي يتجاوز المذهب الميكانيكي ليرى الكون ككل متصل ببعض، ويرى المادة نفسها كحالة طاقية متذبذبة بين وجودها الجُسيمي ووجودها الموجي، ويرى أن اليقينيات المُطلقة لا وجود لها حتى في العِلم الذي يتناول المادة وعالمها الكمومي.

وبالمقابل، تتطوّر الرؤى الرَّوحانية للوجود والمُطلق لتفسح المجال لرؤى تتخلَّق داخل الفلسفة، ونظرية المعرفة، لا تقل في تطوِّرها وتجاوزها للعقل الأداتي عن مضمون الرؤى الدِّينية، التي عرفتها البشرية -كرؤى دينية لا كبنيات سلطوية- وتحديدا الرؤى التصوفية التي عرفتها كل الأديان.

يحدث ذلك بينما يُراد لنا أن نعيد إنتاج سجالات فارغة ومدمِّرة في داخل الصراع الموضوعي حول السلطة والدولة، وصراع الفئات المجتمعية، الصراع الذي يحتاج إلى إرساء قواعده وأسسه العادلة وفق ما تقرره الإرادة الشعبية، لا تشويشه بالسجالات الديماغوجية بين المتطرِّفين الدِّينيين من جهة ومعتنقي العقيدة الإلحادية البازغة من الجهة المقابلة.

- الله يصنع قوَّتي..

اكفروا بصناع مأساتكم، وهم من البشر وليسوا آلهة، ولا تحاولوا أن تنتزعوا من الناس إيمانهم وملاذهم الكبير ومصدر قوتهم: الله، خالقهم وخالق الكون.

لم يعشْ الشاعر الفرنسي آرثر رامبو مأساة كهذه التي يغرق فيها الناس في اليمن، غير أنه تذكر قوَّة الله في لحظة تعبِه في عدن العشرينات، وكتب يقول:

"لم تعد هذه وعود أطفال على الإطلاق.
ولا رجاء النّجاة من الشيخوخة والموت.
الله يصنع قوَّتي... أُمّجِدْ اللّه"

الله هو قوة الإنسان، هذه حقيقة تتجاوز تجار الدِّين وتُجار السياسة.

هو ما يصفه هنري ميللر بقوله:

"هذا الإله الذي هو قوَّة الإنسان ليس إلهاً مسيحياً، ولا إلهاً يهودياً، ولا إلهاً وثنياً؛ إنه إله يستطيع بلوغه كل جنس، وطائفة، وثقافة، إله يمكن أن يوجد في كل مكان، وفي كل زمان، بدون حاجة إلى الوساطة؛ إنه الخلق نفسه، وسيظل موجوداً، سواءً آمن الإنسان أم لم يؤمن به".

اسمعوا سيوران يقول لكم:

"من الممكن كبت كل شيء في الإنسان باستثناء حاجته إلى المطلق (حاجته إلى الله)، وهي حاجة لا تنهار بانهيار المعابد، بل هي قادرة على البقاء حتى بعد اندثار الأديان".

دعوا للناس مُحبهم المطلق: الله.

اقرأوا هنري برجسون -أعظم فلاسفة القرن العشرين- وهو يحدثكم عن الله، الذي يُحب جميع خلقه:

"الحب الذي يستحوذ على المتصوفين الكبار ليس هو حب الإنسان لله فحسب، بل هو حب الله لجميع البشر. المسألة هنا ليست مسألة أخوة نبني فكرتها بناء، ونجعل منها مثلاً أعلى، ولا هي تقوية تعاطف فطري يعطف الإنسان على الإنسان.
ليس هذا الحب امتداد غريزة، ولا هو مشتق من فكرة. ليس هو من الحس ولا من العقل، بل هو هما معاً على نحو ضمني، وهو أكثر منهما بالفعل. ذلك أن هذا الحب هو أصل العاطفة، وأصل العقل، وأصل سائر الأشياء، وهو متحد بحب الله لخلقه، هذا الحب الذي خلق كل شيء، ولذلك فإنه يسلم سر الخلق إلى كل من يستطيع أن يسأله".

مقالات

ترامب ونتنياهو وصفقة القرن

ربما كانَ من الأنسب أن يكون عنوانَ هذا المقال «نتنياهو وترامب وصفقة القرن». فنتنياهو مؤلف كتاب «مكان بين الأمم»، والذي تُرجِمَ إلى «مكان تحت الشمس» هو الأساس. فـ«صفقة القرن»، وما تشربه ترامب منها، وصرّح به هي المبادئ الأساسية لـ«السلام من أجل الازدهار»؛ فمصدرها كتاب «مكان تحت الشمس»، وفي 28 يناير أعلن الرئيس الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، نص الصفقة.

مقالات

حلفاء أم محتلون؟

الأوضاع الاقتصادية الكارثية، التي نعاني منها اليوم، ليست سوى انعكاس أكثر بؤسًا وكارثية لوضع سياسي مخجل.

مقالات

أبو الروتي (8)

بعد أن وصلتني رسالة جدتي الغاضبة، التي تطلب مني فيها أن أخرج من المعهد العلمي الإسلامي وأدخل مدرسة النصارى، بقيت حائراً لا أدري كيف أتصرف!! ولا ماذا أفعل!!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.