مقالات
الرؤى الفلسفية للسيرة الذاتية عند البردوني!!
عندما بدأ البردوني بإملاء سيرته الذاتية، استدعته الذاكرة المتقدة نشرها في صحيفة "26 سبتمبر" تحت توقيع المواطن عبد الله البردوني، وهي إشارة إلى عظمة المواطنة في بلاد نكبته المشيخات والقبيلة والفوضى، وأثناء إملائه مذكراته كان كُّتَّابُه يُبقون سطوراً مناسبة -حسب طلبه- بين كل سطر وسطر، وكانت الصحيفة تقوم بدور الرقيب الأول، وبالوقت نفسه تنشر ما تراه مناسباً لسياستها، أو للسياسة عامة آنذاك، وللهامش المسموح -حسب اعتقادهم. وكانت هذه المخطوطات تعود إلى البردوني كما هي، فكانت تُبقى المذكرات كما كانت أثناء كتابتها الأولى كمسودات، وهذي تضمنتها طبعة تركيا لكتاب "تَبَرُّج الخفايا"، بينما قام الدكتور حيدر غيلان بجمع مادة المذكرات، التي نشرتها صحيفة "26 سبتمبر" من البداية حتى آخر حلقة قبل موته، ولم يتمها بداعي الموت، ونشرها في كتاب؛ قامت وزارة الثقافة في صنعاء لاحقاً بمصادرته وحجزه في مخازنها. إذن الآن لدينا نسختان: نسخة صحيفة 26 ونسخة تركيا، نسخة الصحيفة كما ارتضاها المخبرون عليها، والنسخة التركية كما كتبها البردوني في مسوداتها الأولى، التي كانت تعاد إليه من الصحيفة، ولا أحد يعلم كيف تسرَّبت نسخة تركيا. والسوأل هنا: أين المذكرات الكاملة؟
الجواب: كل المسودات التي كتبها البردوني للصحيفة ثم عادت إليه، وقد تم نسخ صور عنها، قام البردوني بإضافات كثيرة بين تلك السطور المتباعدة، فبدت مذكرات أضعاف المذكرات، وأضعاف مذكرات الصحيفة، وتلك المسودات المحفوظة حتى الآن في أيدٍ أمينة، وبناء على ذلك تكون تلك هي مذكرات البردوني الكاملة كما ارتضاها، ونحن بانتظار طباعتها. وأعتقد أن من قام بتسريب طبعة تركيا، فاتهم زيادات البردوني للمسودات التي كانت تعاد إليه من الصحيفة.
بالنسبة للفوارق بين طبعة دار عناوين بالقاهرة، التي هي بالأصل طبعة حيدر غيلان عن وزارة ثقافة صنعاء، التي صادرتها، ظهرت باهتة ومليئة بالأخطاء الفادحة التي تسيء للبردوني، وكان يمكن أن تكون طبعة أي شخص آخر. فأنا -مثلاً- لدي كل أعداد وحلقات المواطن البردوني من الصحيفة ذاتها، ولكنني لم أجازف -وبين طبعة تركيا هناك فوارق من حيث الكم ومن حيث الكيف، وهناك فوارق مع الطبعة، التي صودرتْ لأسباب كثيرة. وعندما نتصفح نسخة تركيا نجدها النسخة القريبة من التمام. وكنا نتمنى وصول نسخة تركيا بكُتب ورقية لنتعرَّف على قرن كامل من المذكرات السياسية والأدبية، التي كتبها البردوني بأسلوب رشيق وساحر وجذاب، كما كان أسلوبه قد ازداد جاذبية وإشراقاً في السنوات الأخيرة.
طبعة القاهرة صدرت بورق سميك، وبنط عريض، أشبه ما تكون بالكتب المدرسية ب697 صفحة، بينما طبعة تركيا صدرت ببنط صغير (بي دي إف)، وعدد صفحاتها في حدود 1150 صفحة.
واطلعنا على غلاف تركيا، الذي ظهر بعدد كبير من المنارات وأطياف متفرِّقة لبيوت صنعاء القديمة، فبدا كأن الكتاب لكاتب إسلامي، وليس للبردوني الذي انجذب لليسار إلى حد ما، وظل في صف الشعب حتى وفاته. ورغم تشابه عناوين فصول المذكرات إلا أن المضمون الداخلي يتميَّز بالكثافة والكمال في طبعة تركيا، ويقل في طبعة دار عناوين، وأهم ما يميز طبعة تركيا هو هذا التفلسف حول السير الذاتية، وتأصيل البردوني للسير والمذكرات ،وماذا أراد من تذكراته.
"فليست تذكُّراتي المسلسلة أسبوعياً اعترافات جان جاك روسو، الذي هتك الأقنعة عن وجوه الكرادلة الكنسيَّة، وليست حربية كمذكرات الشاعر الفارس أسامة بن منقذ الذي شارك في قتال الصليبيين في القرن الخامس وأول السادس الهجري، ومات على إثرها تاركاً ديواناً من الشعر، وكتاباً في تاريخ العرب قبل الإسلام وفي ضُحاه ،ومذكراته الشخصية ، وليست هذه المذكرات دعوة سياسية إلى تثبيت سياسة واكتشاف إمكان سياسة أفضل، كمذكرات "تشرشل" رئيس حزب المحافظين، ورئيس وزراء بريطانيا زمن الحرب العالمية الثانية، أيام كانت لا تغرب عنها الشمس ،وليست هذه المذكرات تربوية، ككتاب "الأيام" لطه حسين، وكتاب "تربية سلامة موسى" لسلامة موسى.. وليست تاريخاً سياسياً في العصور الوسطى لدول شمال أفريقيا والأندلس كيوميات ابن خلدون، وليست مقارنة بين الحضارات المعاصرة في زمن الاقتتال بين الحضارة والرأسمالية وحضارة الأنظمة الاشتراكية كما في كتاب "حكاية عمر" لميخائيل نعيمة، لهذا تختلف هذه المذكرات عن غيرها، مستفيدة منها، ومرافقة الفن الجامع الذي يطبع فن السيرة الذاتية، فهي على كل وجهة جزءٌ من فن التاريخ، ومن أهم عناصر الرواية الواقعية، ومن وجهة السير الشعبية التي تبحث عن مُخَلِّص في أبطال الماضي كسيرة عنترة، وسيرة الأميرة ذات الهمَّة، وسيف بن ذي يزن.
فتوجَّب أن تقول السيرة الذاتية ما لا يقول المؤرخ الرسمي، وأن تقبل اتساع أغراض الرواية، فتملك حِيَلاً تُبدي ما تُخفيه المقالة والكتاب الاجتماعي.وقد لاحظَ بعضُ القراء المشافهة وكتابة أمور غير متفقين عليها ، فرأى البعض عدم الحاجة إلى التفاصيل الصغيرة، ورأى البعض ضرورة اجتناب مكامن الحساسية عند البعض.. وأنا لا أقول شيئا إلا ما اتفقت عليه المجاميع الثقافية التي قررت أن لا أحد يعرف طريقة كتابته غير الكاتب نفسه، وهو المسؤول عن عمله وحده، وهذه المسألة تتكرّر على عدة وجوه، قرَّر الدكتور نسيم مجلي في مطلع التسعينيات أن يؤلف كتاباً عن لويس عوض وخصوماته الأدبية، فقال لويس: وهل هناك خصومة بيني وبين أي مثقف من درجتي تعليماً وثقافةً؟!
قال الدكتور غالي شكري: ليس التساوي بين الخصمين كتابياً يشكِّل سبباً للموازنة.
وقال الدكتور أحمد إبراهيم: لا يمكن أن نرى ما كتبه محمود شاكر فناً جدلياً، وإنما هو نوع من السِّباب، وهو لا يوازن أحداً في هذا. وقال الدكتور عبدالقادر القط: أنت يادكتور نسيم الأعرف بموضوعك، ولا أحد مسؤول معك أو عنك.
وكان هذا آخر مثاقفة عن فن السيرة الذاتية، لأن سيرة لويس عوض (أوراق العمر) هي التي شبَّت الإثارات، وبالأخص ما كشف الدكتور لويس من خفايا عائلته الوقور، حتى تكاثر المعجبون بصراحته، والمستقبحون ذلك الكشف الفاضح،قال أحد الذين ناقشوني: لماذا لا تجتنب مسألتين:الأولى: المرأة حميدة ،والثانية: العجز الجنسي الذي عاناه عبدالله حمران ليلة زفافه؟
فقلت: إن حميدة وقعت في موقع و دِّي من المذكرات، ولا يمكن السكوت عن عمل إنساني من جارة أو جار. أما عجز حمران في أول ليلة فهو من أحاديث الأعراس يومياً ، وقد ذكر السيد أحمد الشامي في الجزء الأول من يومياته رياح التغيير رفض زوجته إياه، ومُعالنتِّها كراهيته، فحرمته من حقه الشرعي مدى عامين، وكانت نفس الزوجة هي صاحبة الفعل وشاهدة تسجيله عليها، وما رأت في هذا بأسا"..
يتبع الحلقة ال3 والأخيرة.