مقالات
السُمُّ تغلغل عميقاً في الجسد!!
متابعة تداعيات عملية إرهابية كبيرة، راح ضحيّتها قرابة ثلاثين جندياً وضابطاً واحداً من الحزام الأمني التابع للمجلس الانتقالي في منطقة "أوص" غرب مدينة أحور الساحلية، صباح الثلاثاء الماضي، وحدها كافية لتقول إن المستنقع اليمني لم يزل طرياً وكثيف اللزاجة، ولم يجف بعد، وأنه قادر على ابتلاع الجميع ما داموا هيأوا ملعبا على ترابهم يتبارى عليه الخصوم الإقليميون بحساباتهم المختلفة، ووجدوا في اليمن ونخبها الأدوات المناسبة والرخيصة لتنفيذ هذه المخططات.
المنطقة، التي شهدت هذه العملية، ومحيطها القريب، سبق أن شهدت عمليات مماثلة خلال السنوات الماضية، لكنها لم تكن بالحدة ذاتها ولا بكثرة الضحايا الذين سقطوا من طرفي المواجهة، لكنها في القراءة الأخرى تقول إنها أقرب لردة فعل خشنة لتواجد قوات تتبع المجلس الانتقالي الجنوبي، تسلّمت محافظة أبين بعد محافظة شبوة برغبة من السعودية والإمارات، وبضغوط منهما، وأن هناك قوى ذات حضور متجذِّر في الحياة الاجتماهية والقبلية لا يمكنها ابتلاع مثل هذه الصفقة، التي يقال إنها واحدة من الرشى التي قُدِّمت للمجلس الانتقالي (باعتباره طرفاً جنوبياً حاضراً على الأرض ومدعوماً بقوة على حساب أطراف جنوبية أخرى لا تدين بالولاء لدولتي التحالف)، حتى لا ينغص على المشهد الديكوري للمجلس الرئاسي الذي هندسته وسوّقته العربية السعودية كواحد من منجزات السياسة التي يعوّل عليها إنهاء الحرب، كما يحلو لها التصريح به في كل مناسبة.
اللعب على تراكمات السنين الطويلة من ضغائن السياسة وثاراتها، وتفخيخ الأرض بالجماعات المسلحة، وتفتتت قوى المجتمع وحواملها المدنية، من أحزاب وتنظيمات، واحدة هي ملمح التدخل الرئيس لدول الجوار في هذا الصراع الذي تلوّن، على مدى سبع سنوات، بصبغات مناطقة ومذهبية وجهوية شديدة التداخل، وتدفع أكلافها الباهظة شرائح المجتمع التي تبتلع المرارات كل ساعة وحين من القوى المليشاوية المتحكّمة والمستبدة.
ماذا سيستفيد أبناء محافظة أبين وشبوة من سيطرة قوات المجلس الانتقالي على المحافظتين، مادامت الأرض التي يتمدد عليها ملغومة بالخصوم، ليس السياسيين الوافدين -كما يقال- وإنما من أبناء المناطق ذاتها الذين يرون بالمسيطر الجديد وافدا هو الآخر، ومن مناطق ثأرية لم تنطفئ بعد جذوة دمها الحار. وغير ذلك، ماذا سيستفيدون سوى من مضاعفة معاناتهم كمواطنين رازحين تحت وطأة الغلاء وصعوبة المعيشة والانفلات الأمنى والفوضى، وضخ جرعات كبيرة من الشحن الجهوي المقيت في أوساط العامة؟!
بالتأكيد، أنا لا أقصد أن تترك الأرض أيضاً للطرف الآخر، وتحديداً الطرف الوافد بحمولاته الأيديولوجية الثقيلة - طبعاً مع رفضي الشديد للتوصيف ببُعده التجزيئي حين يصير الوافد هو المواطن اليمني البسيط الذي اختار هذه الأماكن للإقامة والمعيش- لكني مع فكرة مصالحة كبرى بين كل المكوّنات المحلية في تموضعاتها القبلية والأيديولوجية، وفي طريق مفتوح لمصالحة أوسع وأشمل على قاعدة سياسية تشاركية تحفظ للجميع حقوقهم كمواطنين.
تتغذّى جماعات العنف والفوضى دائماً على شعارات دينية وجهوية ومناطقية، ويسهل عليها الوصول إلى أتباع ومريدين كثيرين، فتكَ بهم الفقرُ والجهلُ وانسداد الأفق، فحوّلت هذه الجماعات حياة غيرها إلى عذابات لا تنتهي.
ولأن الاستقطابات الكبيرة والكثيرة لم تزل واحدة من أسرع الطرق للوصول إلى أهداف متعيّن بلوغها، في ظروف الحرب والفوضى، ومنها إنتاج سلطة ذرائعية للتحكم والتكسّب ولو في مساحات جغرافية نائية على نحو الإمارات الإسلامية الصغيرة والمربعات الأمنية المغلقة في مناطق الصراع داخل المدن نفسها.
سيقول قائل إن المتحكم على الأرض وحده القادر على بناء حكمه، وعند اتباع المجلس الانتقالي سيستعيد هذا الكيان دولة أبنائه بالمطلق، وتستقيم عندهم هذه القناعة بنظرهم إلى النموذج الحوثي، وإمكانية تمثله كقوى ضاغطة ومتحكمة على أرض شاسعة (70% من أرض الجمهورية العربية اليمنية)؛ غير أن الأمر هنا بحاجة إلى قراءة أعمق وأشمل، وإن البناء على الأنموذج المكتمل به الكثير من الفخاخ، لأن الحوثي بنى سلطة قوية بمستحكمات أمنية شديد القسوة، من أجل الحفاظ على مصالح كبيرة تراكمت في سنوات الحرب - من الجبايات والاقتصاديات السوداء الموازية والتبييض- ولم يبن دولة للمواطنين القابعين تحت فوهة بندقه.. (مواطنون مكممون مُفقرون ومستلبون).
مثل هذا النموذج ملغوم تماماً، حتى وإن أطالت بعمره ظروف الحرب ورغبة المستفيدين من استمراره لتعميمه كنموذج في وعي العامة، لتخليق وتكثيف حالة التشظي في البلد المتهتك. فهو الآخر هُندس ليكون أداة حرب تتغذّى من البارود، وأي استحقاق سلام يعرّيه ويكشف زيفه، ولهذا يتحوّل باستمرار إلى ماكينة ضخمة للمراوغة في محطات التفاوض، التي يحضرها كطفل مدلل، ليس لقوته السياسية، وليس لحواضنه الاجتماعية على الأرض التي يتحكم بها، وإنما لكونه مخلبا لقوى إقليمية غارقة في أزماتها، وتعرف، منذ أكثر من أربعين عاماً، كيف تسربها إلى خارج جغرافيتها؛ فحين تجد نفسها مضغوطة ومكتومة تتنفس بقليل من الصواريخ البدائية والمسيّرات التي تطلقها أذرعها هنا وهناك لإرباك حسابات خصومها في العراق ولبنان واليمن.
وهو اليوم يُراعى بكثير من التدليل حتى لا تُفسد لعُبه من الصواريخ والمسيّرات والألغام البحرية إمدادات الطاقة إلى دول كثيرة تعيش تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية في مساراتها الاقتصادية.