مقالات
السواحل ودورها في ترجيح كفة القوة في الداخل
في اليمن هنالك استقلالية حدّ التوحّش، وفي المقابل تواجهها نظرة إلى الآخر كـــحليف، وتحديدا في الصراعات السياسية، ويعتمد نجاح التدخل في كيفية إدارته، وأهم عامل هو ألا يجد اليمنيون الحليف الأجنبي مهيمنا ومتنفذا على إرادتهم، وقراره فوق قرار القوى الداخلية..
أدركت بريطانيا طبيعة المناطق اليمنية في جنوب البلاد سابقا، وحساسية التدخل المباشر في إدارة شؤون السلطنات، والمشيخات، آنذاك، فحرصت على عدم تجاوز سلطات الحُكام في مناطقهم. ورغم توقيعها معاهدات صداقة وحماية، منذ احتلالها لليمن عام 1839م، فإنها لم تتجرأ على التدخل المباشر في شؤون المحميات الداخلية إلا بعد مائة سنة، وتحديدا عام 1937، وذلك إدراكا منها لحساسية الأمر لدى اليمنيين، وقد جاء ذلك بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، ورغم كل ذلك فقد قاوم هذه السياسة ورفضها حُكام المناطق، ومن أمثلة ذلك: موقف السلطان صالح بن عبدالله الفضلي، والذي لم يكن مناوئا للسلطة البريطانية، لكنه لم يكن يقبل الانتقاص من سلطته.
ظلت السواحل اليمنية على الدوام تمنح اليمن ثقلها وحضورها وألقها في العالم الخارجي، وفي إقامة علاقات صداقة وتعاون مع بقية دول العالم، وفي الوقت نفسه فإنها مثًّلت نقطة الضعف في خاصرة الدولة اليمنية، والثغرة التي نفذت منها القوى الأجنبية الطامعة، أيضاً فإنه على المستوى الداخلي، يرجّح كفة القوة المحلية المسيطرة على الساحلين "الغربي" و"الجنوبي" على بقية القوى المحلية، ويمنحها الامتياز والتفوق على جميع الكيانات المنافسة في الداخل اليمني، فقد كان أحد أهم العوامل في انتصار الحِميريين على "سبأ"، وحضرموت، في القرن الثالث الميلادي، هو خضوع الموانئ، مثل: موْزع، وعدن، لحكَّام قصر "ذي ريدان" في "ظفار" بالقرب من مدينة "يريم"، كما أن تأخر النصر على حضرموت كان سببه امتلاك الأخيرة ميناء "قنا" على البحر العربي، الأمر الذي حُرمت منه حكومة "سبأ"، بعد قيام الدولة الحِميرية، فحسم النصر لصالح الأخيرة. أيضاً من الملاحظ أن الدول، التي خضعت السواحل اليمنية لنفوذها، وذلك منذ عهد الحِميريين، كانت تسعى لإدخال كافة البلاد تحت حُكمها، وقد تكرر ذلك مع الأيوبيين، والرسوليين من بعدهم، والطاهريين ثم العثمانيين.
غير أن الوضع تغيّر منذ الدولة "القاسمية" الأولى، بحيث بدأ السعي لإخضاع المناطق من أعالي الشمال، وصولاً إلى تحقيق الوحدة اليمنية، والسبب في ذلك هو أن الداخل كان الحصن، وقاعدة الانطلاق لمواجهة الوجود العثماني، ومن هناك بدأت تصفية نفوذ الأتراك، وورث القاسميون حينها السلطة، وسدوا فراغ رحيل الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن الأمر عائدا إلى إمكانيات الداخل الجبلي في ضم اليمن بكاملها، في عهد الدولة "القاسمية"، والذي استمر عقودا قليلة ثم عاد البلد إلى التفكك بسبب نظام الحُكم.
ومن المعلوم تاريخياً أن ازدهار السواحل والموانئ، سواء الغربية أو الجنوبية، مرتبط بوجودها تحت ظل الدولة اليمنية الواحدة، فبعد "انفصال عدن عن السلطة المركزية، في مطلع القرن الثامن عشر، وتبعيتها لسلطان لحج، بدأ الخراب يحل في المدينة تدريجياً" [سلطان أحمد عمر من المنافذ البحرية لصنعاء عدن عبر التاريخ ص188، مجلة الإكليل – العددان 2+3]، هذا ما يعلمنا التاريخ وتنطق به الجغرافيا، كما أن خروج الساحل من يد النظام، يحول الداخل إلى إقطاعية تضج بالفرسان المتناحرين على الزعامة. فحين فقدت الدولة "القاسمية" ميناء عدن، وأعقب ذلك احتلال محمد علي باشا الساحل الغربي وموانئه، وأهمها آنذاك ميناء "المخاء"، فإن ذلك عجَّل في تهاوي الدولة، وأغرى العديد من الطامحين والطامعين في الداخل أن يتمرّدوا ويسعوا للوثوب على السلطة، والسيطرة على كرسي الحكم، حيث عرفت مدينة صنعاء حينها وجود أربعة أئمة في وقت واحد.