مقالات
العودة إلى حسين مرُوَّة (2-3)
النصوص الملمومة في كتاب "تراثنا كيف نعرفه – طبعة 1985" في معظمها نتاج لمرحلة سنوات الخمسينات بكل صخبها، التي تشكّلت في ثناياها الأحلام الكبيرة، بما فيها عملية الانتباه إلى المهمل والمغيّب في التاريخ العربي البعيد، وليس الاكتفاء فقط، بمواكبة الخطاب السياسي الآني وسقف طموحه العالي المتلازم بتحولات مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، التي شهدت ارتخاء قبضة المستعمرين التي مهّدت للعديد من بلدان المنطقة نيل استقلالها، وتكوين سلطاتها وحكوماتها من أبناء الأقطار ذاتها.
من هذه الزاوية، رأى حسين مرُوَّة أن يُنظر إلى قضية إحياء التراث نظرة جديدة وجديّة، ذلك لأن هذه القضية أخذت تبرز علاقتها بقضية توطيد مركزنا الحضاري في عالم اليوم {عالم الخمسينات}، بعد أن أخذت القومية العربية تتخطّى العوائق المصنوعة في طريق تقدّمها نحو أهدافها التحررية الكبرى.
من هنا، ستغدو متاحات القراءة لهذه النصوص ليس أكثر من استعادات ظرفية لتلك المقاربات التي بلغ أقدمها سنّه السبعين، ومع ذلك لم تزل قادرة على أن تقول الكثير والمفيد في سِير الأعلام وقضاياهم وأمثلتهم الجارية في الألسن. وفي الأخيرة -على سبيل المثال- أنتج العرب والمسلمون عبر تاريخهم الطويل الكثير من الرموز الاجتماعية والثقافية، التي صار فعل بعضها يجري في الألسن مضرب الأمثال، حتى وهي تحضر في الوعي الجمعي بتلك الصورة السلبية والهاتكة.
مصلوبون ثلاثة على خشبة التاريخ العربي، قُرن بها ثلاث رذائل، ثم راح يذيعها في الأجيال أمثلة تحيا ولا تموت، كأنّ مشية التاريخ قصدت إلى خلقها وتكوينها قصداً عن تفكير وتدبير، لكي تكون انعكاساً لمجرى الحياة الاجتماعية عند قومنا العرب في هاتيك الأجيال، ولكي تكون أسلوباً رائعاً من أساليب العرض والأداء كما يقول مرُوَّة، الذي لا ينكر إعجابه بحضور هذه الشخصيات وأفعالها، لأنها في الأصل تشير إلى نقائص أخلاق العرب، فجاءت أفعالها السلبية لتجسِّم من تلك القيم وتعظِّمها على نحو: "أبو رغال"، الخائن الواحد الذي أدى إلى هلاك أمّة، ويقال إنه رجل من اليمن قد خان قومه مذ وشى بهم إلى أعدائهم، فأوذي قومه بخياناته.. لقد صلب العرب الأقدمون "أبا رغال" على هذه الخشة الراسخة.
أما فتنة مرُوَّة بهذه الشخصية -كما يرد في النص- "لأنّ فيها وحدها تاريخاً عجيباً، فما ذكرتها مرة ولا سمعتها مرة إلاَّ لمحت وراءها أمة ترى في الخيانة أمراً منكراً". و"عرقوب"، الذي لم يفعل أكثر من أنه وعد أخاه مرة، في الحجاز، أن يعطيه تمراً من نخلة له في المدينة (يثرب) فمطل وعده سنة، ثم مطله سنة أخرى، لكن العرب لم تمهله سنة ثالثة بل عاجلته بالعقوبة، فصلبته على خشبة "أبي رغال"، لأنّها ترى في الوعد دَيناً يجب الوفاء به. و"سنَّمار" الإنسان الموهوب المُبدع الذي أحسن إلى ملك ظالم طاغٍ، فجازاه الأخير على إحسانه أَسوءَ جزاءٍ على ما أبدع له، ولَقَّا شراً مقابل الخير، بنى له قصراً رائعاً فخشي أن يبني لغيره قصراً مشابهاً أو أحسن منه، فرماه من أعلى القصر حتى باحته، فوصل حطاماً وركاماً.
دم سنَّمار صار شعلة ترشد الضالين إلى صون الجميل وحفظ، وليس نكرانه.
يرى حسين مرُوَّة أن الشخصيات الثلاث، التي أبدعها التراث العربي، هي من صميم ذات العرب، ليدل الأجيال إلى فضائلهم الأصيلة، وعلى كراهتهم رذائل الخيانة والمخادعة والطغيان.
تُقرأ محنة عبد الحميد، الكاتب في التاريخ العربي، في سياق رؤية السلطة للمثقف، وتأثيره المباشر في صناعة الرأي، ولو لم يكن للمفكِّر في رأيهم شأن السلطة الفاعلة والمؤثرة، لما اجتهدوا ذلك الاجتهاد في البحث عنه طويلاً، حتى وجدوه، ولمَا أوردوه ذلك المصير الفاجع، الذي انتهى إليه، كما يقول مرُوّة.
فهذا الرجل كان مؤرخاً وكاتباً وصديقاً مقرَّباً لآخر الخلفاء الأمويين، مروان بن محمد، الذي يروى عنه قوله للكاتب أثنا مطاردة العباسيين لهما "انجِ بنفسك يا عبدالحميد، فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي، وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً"، لمعرفته بمكانة الكاتب، وتأذِّي سلطة العباسيين منه.
وما يثيره مرُوَّة في هذا السياق أن طاقات الفكِّر العربي قد ظلت، حتى في أزهى عصور الانتاج العقلي، مكبوتة لا تُعطي كل ما لديها من زخم وقدرة على العطاء، لأنه لم يكن يتيسّر لها دائماً من وسائل الحرية ما يدعها تعمل في ميادينها وفق حركة إبداعها ونشاطها كما تشاء.
بمناسبة بدء الاحتفالات بذكرى الألف الأول لوفاة المعلم الثالث ابن سينا في العام 1952م، أعاد مُروَّة التذكير بهذه الشخصية الفذّة التي أضفت على المعرفة الإنسانية وعلى الفكر العربي لوناً من الابتكار "الشخصي".
شخصية متعددة الجوانب، أو كما يُطلق عليها مُروَّة "مزدوج الشخصية"، فهو طبيب وفيلسوف وموسيقي وفيزيائي وفقيه وشاعر، لهذا هو تجسيد حيٌّ لفكرة تقدميّة رائعة تقول بوحدة الحياة، وكأنَّه قصدَ من الجمع بين كل هذه الألوان من المعرفة قصداً، لكي يرفع عن هذه الألوان تهمة التناقض.
المتنبّي شاعر الجهاد العربي الأكبر هو خلاصة قراءة مُروّة لأبي الطيّب في سياقي التنسيب والنشأة. ففي الأولى، يجتهد في تنسيبه الصريح، بعد أن ذهب خصومه إلى التشكيك بنسبه العربي، والثانية بتحوّله من شخص فقير وبائس إلى صوت معبِّر عن قضية كبرى في وطنه وقومه، بعد أن تفتقت لسانه وهو صبي في إحدى البوادي العربية خارج الكوفة، التي وُلد ونشأ بها. لهذا، فالمتنبّي فتى عربي، وفي قرارة ذاته ثورة، وهو منذ وجدت هذه الثورة مكانها في ذاته يبحث عن ناس من العرب يعينونه على أحداثها، لعلّ فيها خيراً لنفسه ولقومه.
أبو العلاء المعري يتبدّى في صورتين متناقضتين، وليس في الصورة "المنمَّطة" والشائعة التي وضعها فيه معظم دارسيه، واختصروه بالمفكِّر والفيلسوف القلق، الذي أنتج "اللزوميات"، وهو رهين محبسيه (العمى والمنزل)، وأهملوا كثيراً رؤيته للحياة في ديوانه "سقط الزند"، التي أبصرها بإحساس الشاعر، ويعيشها بمباهجها وملذّاتها حينما كان شاباً يحب ويهنئ ويمدح ويهجو ويغلو ويبالغ حتى لا يقصّر عن صاحبه المتنبّي في الغلو والمبالغة.
يختلف حسين مرُوَّة مع القائلين إن كتاب "كليلة ودمنة" مؤلف ترجمه ابن المقفع عن الهندية والفارسية القديمة، دون أن يصبغه بهُويته الجديدة؛ إذ يراه كتاباً من صميم المنتج الثقافي العربي في فترة ازدهار هذه الثقافة، وإن هضمه ثقافياً وإعادة إنتاج عديد فصوله بقوالب تراثية عربية قد أكسبه هذه الصفة. فهذا الكتاب -حسب قراءته- ليس كصلة الأدب الدخيل بالأدب الأصيل، بل هو أقوى من ذلك وأعمق، فهناك فصولٌ بكاملها لم يثبت نقلها من الهندية أو الفارسية، إلى جانب مقدّمة الكتاب ومفتاحه، فقد كتبت مباشرة بالعربية.
أما عبد الله بن المقفع فهو -عند مُروّة- عربي الأدب والثقافة والفكر، وإن رجع في النّسب إلى فارس، ذلك لأن الحياة العربية قد صهرته صهراً، حتى ضعفت صلته إلى فارس، وكادت تذوب في بوتقة الثقافة العربية التي مارسها واندمج كيانه العقلي والشعوري بها اندماجاً تاماً.
بقيت مجموعة "إخوان الصفاء" بتراثها الفكري مقصيَّة من الدرس والتحليل لعهود طويلة، قبل أن يخضع تراثهم المكتوب لشيء من التنقيب والمراجعة، ليصير مع الوقت معلوماً عند الدارسين بـ"رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء"، ومع ذلك تبدو هذه الرسائل -من وجهة نظر مُروّة- أقلّ شأناً من كثير غيرها في "تراث العرب" الفكري من حيث القيمة العلمية المحضة، ولم تضف هذه الرسائل جديداً من الإبداع إلى الثقافة العربية في عصرهم؛ غير أن تحقيقها ونشرها يحمل إلى الأجيال المتعاقبة دلالة الحيوية في اهتمامات المثقفين من أسلافنا بشؤون مجتمعاتهم حدود الاستشهاد.
للجاحظ قلمان شديدا التناقض عند حسين مرُوَّة، الأول ذلك الذي أبحر في الفلسفة وعلم الكلام حتى صار أحد الأئمة الكبار في هذا المضمار، والآخر ساخر يتسقط أخبار الهامش وطبقات المجتمع بكثير من العبث والتلهِّي.
في الأولى، يبرز في كتابته في الاعتزال وصنوف العلوم والفلسفة، وفي الثانية إنفاقه الكثير من الوقت والجهد في شؤون أخرى لا يستشفُّ منها الجد وطلب الحقيقة.