مقالات

العودة إلى حسين مرُوَّة (3-3)

18/11/2021, 17:53:30
المصدر : خاص

على غير كثير من المؤرّخين والمفكّرين، يرى حسين مرُوَّة في أبي حيان التوحيدي وجهاً سلفياً صارماً، وعلاقته بالمعتزلة ضعيفة جداً، وإن كانت ترِد مثل هذه العلاقة الملتبسة عند بعض المؤرِّخين بسبب تأثّره بأسلوب الجاحظ الفني أو "استحسانه لمذهب الجاحظ في الطريقة الإنشائية والأسلوب الكتابي، وجريه في الفن على مذهبه"، وغير ذلك كان أبو حيان التوحيدي على عداء واضح مع المتكلّمين، وكثيراً ما حاول في  بعض مراحله الفكرية أن يثبت أن المتكلّمين أعداء الدّين، على حين كان يتعصّب للفلاسفة  الذين يخالفون طريقة أهل الكلام، ومعلوم أن المعتزلة هم في مقدّمة المتكلّمين. ذلك مضافاً إلى نزعته الصوفية التي رافقته مطلع حياته الفكرية، وعاودته في أخريات العُمر، وواضح أن طريقة المتكلّمين لا تلتقي مع نزعة التصوّف.

قارئاً وفاحصاً رأي بعض الباحثين والنّقاد المتأخرين والمعاصرين الذي يقول إن مدرسة "بديع الزمان الهمذاني" في إنتاج المقامات كانت لضرورة لغوية صرفة، وليس لضرورة فنية تلبّي حاجات روحية وجمالية لجمهور التلقّي في المجتمع وقتها؛ وأن الهمذاني، ومن جرى على طريقته بعد ذلك حتى عهد الحريري والعهود التالية له، لم ينشئوا هذا الطراز من النثر إلاَّ وسيلة لإظهار المقدرة اللغوية، أو لحفظ غريب اللغة في قوالب إنشائية، أو لتكون هذه القوالب نماذج للمتعلّمين  يحفظونها عن ظهر قلب، فيتعلمون بها مفردات وأساليب الإنشاء في وقت معاً، ويتخذونها عدة وأداة جاهزتين.

يرى حسين مرُوَّة أن "نشوء فن من فنون الأدب مهما كان شأنه في عصر معين وفي مجتمع معين، لا بُد أن يكون بين نشوء هذا الفن وبين عصره ومجتمعه صلة أقوى حياة، وأعمق أصولاً من مجرد كونه ظاهرة لغوية، على هذا النحو الميكانيكي الذي يفسّرون به ظاهرة نشوء المقامات"، ص 209.

فن المقامات حين نشأ، وحين مضى يثبت وجوده  في الأدب العربي طوال العصور التي أعقبت عصر البديع، لم يكن محض ظاهرة لغوية، كما يفسّرون الظاهرة، بل كان أولاً، وحتى آخر أيام حياته، إحدى الظاهرات الاجتماعية الفنية المتصلة بسبب أو أكثر من سبب إلى حياة كل عصر ومجتمع، كان له فيهما وجود، حسب مرُوَّة.

تأخّر ظهور التطوّر الجوهري للأدب العباسي إلى ما بعد سنوات طويلة من عملية التحوّل السياسي والثقافي الهائل للدولة التي قامت على أنقاض سالفتها الأمويّة، وتحديداً إلى ما بعد رسوخ التغيّرات الجديدة في كيان الدولة، وفي النظام الاجتماعي، وبعد أن اصبحت التحوّلات الفكرية  جزءاً كيانياً من المجتمع العباسي، يرده مرُوَّة إلى كون الأدب بصفة عامة  عملية عقلية شُعورية ووجدانية معاً، ولهذا لا بُد أن يمرّ زمن على التحولات العامة حتى تتكوّن لدى مبدعي الأدب علاقة شعورية وجدانية بينهم وبين هذه التحولات، بحيث تصبح هذه العلاقة في صميم تفكيرهم ووجداناتهم، فيبدعون أدبهم حينذاك انعكاساً تلقائياً لكل ما يتمثل في عقولهم ومشاعرهم.

يلحظ حسين مرُوَّة في عديد من فلاسفة وعلماء العصر العباسي وجود أكثر من شخصية في تركيبتهم، إذ يصير -في الوقت نفسه- الواحد منهم عقلانياً صرفاً وغيبياً مطلسماً، يُرى الواحد منهم يؤمن بالعقل، ويعتمد التجربة الحسيّة في كشف قوانين الطبيعة، أو يعتمد قانون الجدل العلمي والمنطقي في استخلاص الحقائق الكونية، ويرى بعضهم يتخذ منهجاً علمياً سليماً في الحصول على المعرفة، ويصل بهذا المنهج إلى كشوف رائعة، واستنتاجات قيِّمة، ثم يرى الباحث أن هؤلاء العظماء، رغم ثقتهم بالعقل، ورغم اهتدائهم بهدى التجربة والمناهج العلمية، يستسلمون في جانب آخر من أعمالهم الفكرية إلى المعرفة الغيبية الصرف، وأحياناً يبالغون في الاستسلام إلى حد أنهم يعتمدون الحدس النفسي الخالص البعيد عن منطقة العقل والنّظر العلمي.

ويرد مرُوَّة هذه الظاهرة التي تلبّست (الفارابي والكندي والجاحظ وابن سينا وابن طفيل وجابر بن حيان وغيرهم) ليس إلى إزدواجية في شخصياتهم الفذّة، وإنما لعامل التقيّة هروباً من استبداد السلطة وأدواتها، أو كما يقول:
"ظاهرة التناقض التي نلحظها {عند هؤلاء} ليست دليل (الازدواجية) بقدر ما هي دليل (التقيّة).. أي أنها كانت تعبيراً عن محاولة للتهرّب من اضطهاد الدولة، أو اضطهاد بعض رجالات الدولة ذوي الكلمة النافذة والسيطرة الفعلية"، ص231،
ارتبط مفهوم "الشعوبية" في العصر العباسي بالإشارة إلى غير العرب من سكان الدولة الناهضة، وتحديدا الفرس منهم، حينما اشتد الصراع السياسي بين العرب وسائر العناصر غير العربية. ويقول مرُوَّة: "كلمة الشعوبية منسوبة إلى الشعوب، وقد كانت تشير في البدء إلى أصحاب النزعة القائلة إن الشعوب - كل الشعوب- سواسية في الفضل، أو القابليات العقلية والفضائل الخلقية والاجتماعية.

نزعة الشعوبية، كما يقول، نشأت بمثابة رد فعل لنزعة مقابلة كان شعارها "العرب خير الأمم"، لذلك كان أول شعار رفعته الشعوبية عند أول ظهورها هو القول بأن "العرب ليسوا أفضل الأمم رداً على هذا الشعار". وهي بتنسيبها الأول إلى تسوية جميع الشعوب ليس مما ينكره العقل - حسب مرُوَّة- بل هي قريبة إلى منطق العقل والعلم معاً، فالقول بتسوية جميع الشعوب مبدئياً هو الصحيح من حيث تساويها جميعاً في قابليتها الإنسانية للتطوّر والتقدّم.

تحت عنوان "ظاهرات فنية في شعر أبي نواس"، يرصد حسين مرُوَّة العديد من الظواهر في شعره، ومنها: الصدق الفني، وفيها ينطلق من سؤال قديم جديد، يقول "ترى هل كان أبو نواس صادقاً في شعره؟ أي هل عبَّر به تعبيراً صادقاً عن الطابع السلوكي الذي اتسمت به شخصيّته كما وصفها تاريخنا الأدبي؟
مقياس الصدق الفني في الأدب هو مدى اتصال الأثر الأدبي بوجدان الشاعر أو الكاتب، ومدى تعبيره عن الانفعالات الحقيقية التي تثيرها الحياة الواقعية في وجدان الشاعر أو الكاتب. ويصل في نهاية تحليله إلى نتيجة مفادها بأن أبا نواس كان صادقا في خمرياته وغزلياته، لأنه عبَّر فيها عن طبيعة مسلكه الذي انتهى إليه، والذي كان يحيا به فعلاً بمشاعره وانفعالاته الحقيقية.

الثورات الثلاث، التي أحدثها صاحب "طوق الحمامة" الفقيه والعالم واللغوي "ابن حزم الأندلسي" ورصدها مرُوَّة هي:
-  فقهية، بتنقله بين ثلاثة مذاهب.. في المرة الأولى ترك المذهب المالكي، الذي كان يشكّل المرجع الفقهي الأوحد في عموم الأندلس، إلى المذهب الشافعي، الذي سرعان ما تركه إلى المذهب الظاهري، الذي انتهى إليه ودافع عنه بقية حياته، الذي لم يكن له وجود يُذكر في الأندلس، وهذا المذهب يقف من كل المذاهب موقف المخالفة والمعارضة لأصل أساسي من الأصول، وهو القياس في استنباط الأحكام الشرعية، فقد رفض ابن حزم القول بالعلّة المستنبطة التي يعبَّر عنها بالقياس، ولم يأخذ بغير العلّة المنصوص عليها في الكتاب والسُّنة.

-  عقلية، بانفتاحه على سائر العلوم في الفلسفة والمنطق وعلوم الطبيعة، وكان يدعو غيره إلى الانفتاح عليها، وتسلّح في وجه التيار المحافظ بطريقته الجدلية القائمة على المنهج العقلي، وحمل على المخاصمين للعلوم العقلية حملات عنيفة ووصمهم بالجهل أو بسُوء الفهم، أو بفساد العقول والأهواء.

- كتابية، وعلى الرغم من كونه من أعلام رجال الدِّين والشريعة في عصره، ورغم الظروف السياسية التي أحاطته إلا أنه قام بتأليف كتابه الأشهر "طوق الحمامة - في الألفة والآلاف"، الذي يصنّف كواحد من أشهر كُتب الحبّ في تاريخ الأدب العربي.

مقالات

السلام مع ذيل الكلب!

منذ سنوات طويلة، ونحن نقرأ أو نسمع عن السلام في اليمن، وعن تسوية سياسية، وعن حوار عبثي، وعن رحلات مكوكية، بين العواصم التي تخوض معاركها على الأرض اليمنية، والضحايا هم اليمنيون فقط.

مقالات

عن الأحكام التي تسبق الجريمة

أظن أن النفس البشرية، حتى في أشد حالات نزوعها نحو الشر والجريمة، تبحث في الغالب عن مبررات لأفعالها، ومنها تلك الأحكام الذاتية التي يطلقها الإنسان على غيره، قبل أن يرتكب في حقهم جرما معينا، وهذه الأحكام غالباً لا تمت للقيم الإنسانية بصِلة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.