مقالات
الكاميرا في مواجهة القصف..!
كل الحروب، التي دوّنها التاريخ في بطون الكُتب والمجلدات، من حسن حظ الإنسان القديم والجديد أنه يتصورها في خياله، ويمنحها الصورة والطريقة التي يسمح بها الخيال الإنساني، وهذا يختلف من شخص إلى آخر حسب الفوارق الفردية، ولهذا حاول الإنسان المعاصر -مع توفّر تكنولوجيا الصورة والحركة- تصوير أشهر وأكبر وأكثر المعارك دموية في التاريخ على مر العصور، وبالطبع كان الغربيون السباقين لنقل كل ذلك بواسطة فن السينما، التي توفرت لها الإمكانيات الضخمة من عقليات تاريخية وكتَّاب عظماء ومخرجين وممثلين وكومبارس بأعداد ضخمة، وحاولوا نقل أحداث لم يكن العقل الإنساني قادرا على تصورها، وسبر بشاعتها ودمويّتها.
وإذا حاولنا ضرب أمثلة لأشهر معارك التاريخ فلن نستطيع حصرها، ولعلّ الحرب العالمية الأولى والثانية أكبر مثال على ذلك، حيث تم محاولة تصويرها بالكاميرا بعشرات الأفلام إن لم تكن بالمئات، لكن الشيء المؤسف في كل ذلك أنه كان ينقل المعارك، ويصورها من وجهة نظر المنتصر، أو حسب المشابهات الأيديولوجية.
وبدأت مشاهدة المعارك صوتاً ثم صورا توثيقية حقيقية من حرب الخليج الثانية، ثم كانت الحرب على العراق ضد أكثر من ثلاثين دولة، وشاهدنا بشاعة القصف وبغداد تتحول إلى كتلة نار عظيمة بغعل أكبر منظومة أسلحة في العالم، ووقف العرب والمسلمون مسمّرين أمام الشاشات لمشاهدة أبشع حروب الدول العظمى ضد دول حاولت التحرر والخروج من عباءة التبعية للغرب.
وتطوّرت الصورة والكاميرات، وقفزت قفزات لا يتصورها العقل، وها نحن نتابع حرباً من أبشع حروب التاريخ في غزة، صوتا وصورة وأشلاء وأطفالا ونساء وشُهداء بالآلاف، وتدميرا واسعا وتحويل المدن إلى أثر بعد عين وإلى أطلال، ورغم أن كل العالم يُشاهد ذلك لحظة بلحظة إلا أنه لم يرمش له جفن، ولم تطرف له عين.
لقد مات الضمير العالمي والإسلامي والعربي، ومات القانون الدولي وحقوق الإنسان، وماتت الأمم جميعاً سواءً كان اسمها مجازاً "المتحدة" أو "غير المتحدة".
إن بشاعة الحرب على غزة ستكون لعنة على العالم، الذي يدّعي أنه عالم متحضر، ولعنة على الكاميرات ومن اخترعها، كان هدف الكاميرات كشف الحقائق للعالم، ولكن ما نراه في غزة اليوم هو صور كبيرة جداً لإرهاب العالم والإقليم، والشرق الأوسط، والعرب والمسلمين، وغيرهم.
لقد غطَّت الحرب الظالمة على غزة على الحرب في أوكرانيا بكل بساطة، وعلى كل مشاكل العالم، وعلى وجه الخصوص على الحرب في اليمن، وما يعانيه اليمنيون منذ عشر سنوات، من الموت، والدمار، والجوع، والتشرّد، والقتل، والإخفاء القسري، وحصار المدن، والعدوان الداخلي الأبشع من العدوان الخارجي.
نحن في اليمن لسنا أفضل حالاً من غزة وفلسطين، لكننا كشعب يمني أصيل نسينا بشاعة ما نحن فيه، وطارت قلوبنا إلى غزة، وبشاعة ما يحدث فيها منذ أكثر من شهر، إن أوجاعنا كيمنيين -خلال عشر سنوات- لا تقل عن أوجاع الفلسطينيين منذ 75 عاماً وأكثر، لكن قلوبنا مع غزة ومع فلسطين، ومع عدالة السماء الغائبة.
وفي هذا العالم القاسي والحقير، ستظل الحروب العبثية سواء تم نقلها صوتا وصورة -كما يحدث في غزة- أو بدون صوت وصورة -كما يحدث في اليمن وسوريا- مثلاً " أماً" يتجاهله الجميع بكل أسف.
ها هو يمضي الشهر الأول من أبشع حرب وأبشع قصف، وتدمير وزلزلة الأرض على سكانها على مرأى ومسمع العالم، وغزة تنزف الشهداء أطفالاً ونساءً ومواطنين، والحياة تكاد تتوقف، والمستشفيات عاجزة عن إنقاذ أبسط الحالات، لكن الملفت للنظر أن العالم يرى شعباً عظيماً، يرى شعب الجبَّارين -كما كان يصفهم ياسر عرفات- وهم يواجهون أبشع آلات الموت والخراب والدمار بقوة ليس لها مثيل في التاريخ، وهذه هي أكبر ما يمكن أن تقدمه الكاميرات للأجيال القادمة من الفلسطينيين، الذين سيتحولون إلى محاربين، وإلى أشباح، يروِّعون أعتى الدول، وأكثرها تسليحاً وظلماً وعدواناً.