مقالات
المرشدي.. الفنان والمثقف الملتزم!! (2-2)
الإهداء للصديق "جمال العمدة"، أحد حُراس تراث المرشدي المجهولين، فقد كان لمكتبته، وبعض معلوماته الثريّة، الفضل في أن ترى هذه المادّة بتفاصيلها النور.
(**)
في عام 2013م، أصدرت مؤسسة السعيد الثقافية كتاباً عن أيوب طارش عبسي، تحت عنوان "لسان الوطن والحب"، ضمَّنه المؤلِّف كل النصوص الغنائية التي لحّنها وأدّاها منذ بداية مشواره؛ سرد الأستاذ أيوب حكايات بعض الأغاني التي ارتبطت به في مسعى توثيقي مُهم للعلاقة بين الفنان والشاعر، ويحيل، في الوقت ذاته، إلى بعضٍ من سيرة الفنان التي لم تدوَّن بشكل رسمي حتى الآن، إلاًّ ما سرَّ ببعضها في أحاديثه ومقابلاته المتعددة، غير أن الفنان والمثقف الكبير محمد مرشد ناجي تعامل مع مثل هذه الحالة في ثلاثة إصدارات على الأقل؛ فقد نشر كتيِّباً صغيراً في العام 1998م، تحت عنوان "غنائيات المرشدي"، وكتاب "صفحات من الذكريات" عام 2000م، وكتاب "أغنيات وحكايات" عام 2001م، استوعبت جميعها كل ما يمكن أن يصير سيرةً للرجل بأوجه متعددة.
كتاب غنائيات المرشدي ضمَّنه خمسين نصاً لكلمات بعض أغانيه الرائجة، ابتدأ من قصيدة "وقفة"، التي لحّنها وأدّاها في أواخر العام 1951م، وهي التي قدّمته للجمهور وهو شاب صغير تجاوز العشرين بقليل، هذه القصيدة من كلمات الشاعر محمد سعيد جرادة، وتقول بعض كلماتها:
"هي وقفة لي لست أنسى ذكرها أنا والحبيب/ في ليلة رقصت من الأضواء في ثوب قشيب/ لما التقينا والجوانح لا تكف عن الوجيب/ فهززته وهو الرقيق كنسمة الفجر الرطيب/ وغمرته وهو لنداء قلبي يستجيب/ بعواطفي المتكبره/ ومشاعري المتفجره/ وشرود وجداني الكئيب"
عن قصة ولادة لحن الأغنية، أن الشاعر الجرادة كان من أشد أعضاء "نادي الشباب الثقافي" في الشيخ عثمان حماسة لتجريب الفنان المرشدي للتلحين، بعد أن كان يؤدي أغنيات غيره من المطربين بصوته المميّز، وبعد حديث بين الاثنين ناوله قصيدة "وقفة"؛ يقول المرشدي:
"التلحين بالشعر الفصيح له صعوبته البالغة، ولكن إعجابي بالقصيدة هزم التهيّب في نفسي، وحملتها معي إلى أبين {وقت كان يعمل سكرتيراً لنائب السلطنة}، وهناك في الليالي الهادئة الجميلة، ظللت أياماً أعيش مطلع القصيدة إلى أن تسلل مفتاح اللحن، وأمضيت بعده شهراً حتى أتممتها. وفي إجازة قصيرة إلى عدن أسمعتها الإخوان في النادي، فاستحسنوها، وفي مقدمتهم الصديق الشاعر محمد سعيد جرادة، وحملت اللحن إلى الندوة {ندوة الموسيقى العدنية بكريتر}، ونال التشجيع." – كتاب "صفحات من الذكريات" ص39.
بقي المرشدي، في كل جهوده التنظيرية اللاحقة، يشدد على أهمية أن يمارس الفنانون الشبان عملية التلحين والتجديد، لا أن يعتمدوا على الألحان الجاهزة والمعلّبة، والأهم أن تبقى هذه الألحان مرتبطة بالتراث الغنائي اليمني وخصوصيته الثقافية، حتى إن هذا الموضوع صار المشغّل الفاعل في كتابه "أغانينا الشعبية"، فقد كان يرى، فيما سُمي بالأغنية العدنية، وقتها ليس أكثر من تماهٍ ساذج مع ألحان أغاني الأفلام المصرية، قبل أن تصير الأغنية العدنية الجديدة على أيدي خليل محمد خليل، ويحيى مكي، وسالم بامدهف، وأحمد قاسم لوناً أصيلاً، بتخلصها من التأثيرات السطحية لأغاني الأفلام، ولتجتذب بعدها عشرات الفنانات والفنانين الشبان إلى حلبتها.
قبل موجة التجديد للأغنية العدنية، كان هناك مجموعة كبيرة من المغنيين، وقلة قليلة منهم كانت مرتبطة بالتراث الموسيقي اليمني بألوانه اليافعية واللحجية والصنعانية والحضرمية، يقول المرشدي في كتاب "أغانينا الشعبية 1959":
"في يمننا الكبير، جنوبه وشماله، لا نعرف شيئاً غير الألحان المتعددة الألوان، وهي: اللحجية، الصنعانية، الحضرمية، اليافعية وغيرها، ولم تترك لنا الأيام الخوالي آثاراً تدل على وجود أغنية عدنية متميّزة بطابعها الخاص، وإذا نحن استثنينا المحاولات الغنائية الأخيرة التي بدأت في عدن ، والتي تعتبر في الأصل تطويراً لأغانينا اليمنية، وإذا نحن استثنينا ذلك، أمكن القول دون تحرُّج بأن اللحن العدني منعدم. ثم أن الأغنية الحديثة ذات الطابع العدني - لا المقلدة للأغنية المصرية بدقة- بأنها ليست غير امتداد تطور للألحان اليمنية كلها التي تترنم بها الجماهير في أرضنا من الحان لحج وصنعاء وحضرموت ويافع"، ص 31-32.
أما أول أغنية قام بتلحينها باللهجة العامية المختلطة، فقد كانت للشاعر الجرادة أيضاً وعنوانها "شبابك ندي ريان"، وظهرت في العام 1952، ويقول إن الجرادة كتبها بعد جهد مضنٍ، بذله المرشدي معه، من أجل كتابتها، فلم يسبق للجرادة قبل ذلك أن كتب بالعامية، ومن أبياتها:
" شبابك ندي ريان وحسنك بهي فتان/ وفي طرفك النعسان بريق الصبا النشوان/ تعطَّف على مضناك وواصل فتى يهواك/ فقد بات من ذكراك شريد النهى حيران/ تجننت في حبك وشفت المُنى قربك/ وقاسيت من سِبَّك صروف الأسى الوان".
(**)
مع أواخر الأربعينات، بدأت تبرز على السطح كيانات سياسية للتعبير عن حالة التمزّق في الجنوب، فمقابل الجمعية العدنية (1948)، التي كانت تطالب بعدنية عدن للمولودين بها دون غيرهم، ظهر حزب رابطة أبناء الجنوب (1951)، كحزب أكثر شمولاً لفكرة الجنوبية، فكان أن اجتذب عشرات المثقفين الذين رأوا فيه حالة لتجاوز انعزالية الجمعية العدنية وعنصريتها.. اعتبر الكثيرون، ومنهم المرشدي، أن نشوء "الندوة الموسيقية العدنية" كان إحدى تجليات النزعة العدنية، لهذا حينما ظهرت الرابطة بدأ الحديث عن ألوان الفن الجنوبي المتعدد.. يقول المرشدي: مع كُثر حماس أصدقائي في نادي الشباب الثقافي لتوجّهات حزب الرابطة بدأت البحث والقراءة في الفنون الجنوبية، وتحمست للتلحين في اللونين اللحجي واليافعي، وبالفعل لحنت قصدتين غنائتين من اللون اللحجي، الأولى للقمندان بعنوان "البدرية":
"طلعت بدرية بين الحسان.. بعيون سود/ فتكت في القلب طعناً بسنان.. لحظها المحدود/ غن (يا هادي) نشيد أهل الوطن.. غن صوت الدان/ ما علينا من غناء صنعاء اليمن.. غصن من عيقان"
والأخرى لعبد الله هادي سبيت بعنوان "لا وين أنا لا وين":
"ذا هندي الأجفان طلياني البنيان.. أمريكي النهدين/ ذا وردي الأوجان مفّلج الأسنان.. موَّرد الخدين/ لا قد خطر- يا بوي- يدق في قلبي/ ون قد وقف- يا بوي- ماشي معي قلبين".
في منتصف الخمسينات، برزت إلى الحياة السياسية "الجبهة الوطنية المتحدة" مع شروع سلطات الاحتلال الإنجليزي في إصدار قانون جديد لانتخابات المجلس التشريعي في 1955، فارضة أربعة مقاعد فقط للتنافس الانتخابي بين مواطني ومولّدي المدينة، دون غيرهم من أبناء اليمن والمحميات، كما كان يُسمى، وتشكلت الجبهة من مجموع النقابات المهنية، وعلى الرغم من أن خمسة من قيادة الجبهة الوطنية كانوا يشغلون أمناء نقابات "الطيران والملح والقوات المسلحة والمينا والمواصلات"، لم يشملهم هذا الاستبعاد، كونهم مواطنين عدنيين، إلاَّ أنهم عملوا على توجيه وتحريض أعضاء نقاباتهم على مقاطعة الانتخابات، التي نجحت في إفشال الانتخابات؛ وحين غدا للجبهة الوطنية المتحدة قاعدتها الجماهيرية من منتسبي اليمن الطبيعية الذين ينتمون للنقابات عملت السلطات الاستعمارية على تصنيفها كجهة سياسية معادِية، خصوصا بعد ما بدأت بطرح شعار "عدن يمنية".
في هذا الجو، بدأ وعي الفنان الشاب بالتشكّل والالتزام، فصار ينظر بشكل أشمل إلى التنوّع الموسيقي في اليمن الكبير، متتبعاً مدارسه ومذاهبه وألوانه، وانتقل بمغامراته التلحينية إلى اللون الصنعاني، ومنها تلحينه التجديدي لقصيدة القاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي المشهورة: "عن ساكني صنعاء حديثك هات وفوج النسيم/ وخفف المسعى وقف كي يفهم القلب الكليم/ هل عهدنا يُرعى وما يرعى العهود إلاَّ الكريم".
وتلحينه مجموعة من القصائد باللون اليافعي، ومنها قصيدة: "يحيى عمر قال يا طرفي لما تسهر.. وان شفت شيء في طريقك واعجبك شله/ إن كان عادك غريب ما تعرف البندر.. إذا دخلت المدينة قل بسم الله".
في اللون الحضرمي، لحنّ وغنّى المرشدي أكثر من قصيدة للشاعر حسين أبوبكر المحضار، وعلى غير العادة استجاب المحضار لرغبة المرشدي تلحين النصوص، أو التدخل في ألحان المحضار ذاته، ويقال إن المحضار كان يقول عن قصائده، التي لحّنها وغنّاها المرشدي، ولقيت رواجاً كبيراً أن "المرشدي مرشدها"، أي سكب عليها من روحه، ومن هذه القصائد رائعته "دار الفلك دار":
"قريب بابدل بداري دار.. معموره وديره غير ذي الديره/ لكن قلبي ما رضي يختار غير (الشحر) لا وليته الخيره/ دار الفلك دار وعزمت السفر".
في اللون التهامي، أنجز المرشدي العديد من ألحان القصائد الذائعة، ومنها قصيدة الشاعر العنسي:
"شابوك أنا وامرفاق بكره أرض امجبل مانبا أمساحل/ واسيد حيد دي امخطره خطرتها شي وانا جاهل".
وفي اللون البدوي، لحّن وغنّى قصيدة الشاعر الجابري الذائعة: "على أمسيري على أمسيري ألا بسم الله الرحمن/ على أمسيري على أمسيري ولا مؤذي ولا شيطان/ على أمسيري على أمسيري تخطي في درج أهلش/ ألا يا مرحبا بش وباهلش وبالجمل ذي رحلبش".
التأسيسات الباكرة للون الغنائي التعزّي بخصوصيّته الحُجرية بدأت في عدن، وعلى يد المرشدي أواخر الخمسينات، عندما غنىَّ ولحّن قصيدة الشاعر د. سعيد الشيباني ذائعة الصيت:
"يا نجم يا سامر فوق المصلى.. كل من معه محبوب وأنا لي الله/ والخضري من العدين بكَّر.. مشدَّته بيضاء ومشقره أخضر/ فرحي أنا فرح الذره بمبكر.. فرح الشجر ساعة نزول الأمطار".
وألحقها بقصيدة أحمد الجابري: "أخضر جهيش مليان حلا عديني.. بكَّر غبش شفت الصباح بعيني/ يملي الجرار ريق الندى رحيقه.. يروي ظمأ من ضاع عله طريقه".
فاتحاً المجال أمام الفنانين الكبار (فرسان خليفة وأحمد قاسم واسكندر ثابت) لتلحين وأداء العديد من كلمات الأغاني للشيباني، وعبده عثمان، وعبدالله سلام ناجي، والجابري، التي ستصير مع الوقت تأسيساً جديدا للون غنائي متميّز يُضاف إلى سابقيه من الألوان.
(**)
مع انفجار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، صارت أغاني المرشدي وأناشيده واحدة من عناوين الثورة الكبيرة والحاشدة لها، وإن العديد من أغانيه الثورية الداعمة لسبتمبر لحنَّها وغنَّاها في "مبارز قات"، وكان الكورس فيها من أصدقائه، ومنها أغنية "يا طير يا رمادي" لسعيد الشيباني، وأنشودة "أنا الشعب" لعلي عبد العزيز نصر، ويقول عنهما في كتابه (أغنيات وحكايات):
"أول ما سمعت بنبأ ثورة سبتمبر 1962م، قمت أقلب في الدواوين الشعرية فوجدت هذه القصيدة للشاعر علي عبد العزيز نصر، وسهرت ليلتها في تلحينها، وأذكر أنّي سجلتها مع أغنية (يا طير يا رمادي) في المبرز الذي كان يملكه الصديق العزيز محمد عثمان ناصر في الشيخ عثمان، وكان التسجيل على مسجل عادي، والمرددين (الكورس) في الأغنيتين الأصدقاء الذين لا دخل لهم في الغناء، وقمنا بإرسال الشريط على الفور إلى إذاعة صنعاء"، – كتاب "أغنيات وحكايات"، ص 149:
"أنا الشعب زلزلة عاتية/ ستخمد نيرانهم غضبتي/ستخرس أصواتهم صيحتي/ أنا الشعب عاصفة الطاغية".
ومثلما غنَّى لسبتمبر غنّى كثيراً لأكتوبر ونوفمبر العديد من القصائد الهادفة، وغنّى للعروبة قصيدة لطفي جعفر أمان الذائعة:
"يا بلادي كلما أبصرتُ (شمسان) الأبي/ شاهقاً في كبرياء حرَّة لم تغلبِ/ صحتُ: يا للمجد في أسمى معاني الرتبِ/ يا لصنعاء انتفاضات صدى في يثربِ/ يا لردفان الذي فجّرها من لهبِ/ يا لبغداد التي تهفو لنجوى حلب/ يا لأوراس لظى في ليبيا والمغربِ/ يا لأرض القدس يحمي قُدسها ألف نبي/ يا لنهر النيل يروي قلب كل عربي/ فأملاي كاسك من فيض دمائي وأشربي/ يا بلادي.. يا بلادي يا بلاد العربِ".
(**)
في ختام هذه الرحلة العجلى، في إرث الفنان العظيم والمثقف الملتزم محمد مرشد ناجي، سأنقل ما قاله عن نفسه للصحافي والأديب نجيب مقبل، وأوردها الأخير في كتاب "سلطان الطرب":
"أنا رجل سياسي ومثقف لست فناناً مطرباً، ودائماً ما كنت أعبِّر في مناسبات كثيرة بأنني لا أرغب بتصنيفي كفنان، وإنما كرجل سياسي مثقف، وهذا أقرب تعريف يمكن التحدث به عنّي" – "سلطان الطرب" ص130.