مقالات
المشاريع الضيقة وحكم اليمن
حضرت الإمامة إلى اليمن في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري، حاملة معها مشروع لصناعة زعامة أسرية في قبيلة بدوية، بمسوغات ووسائل وأدوات لا تنسجم في بناء دولة، إذ الدول لا تقوم أو تفصل بحسب مقاسات العرق، والنوع والنسب، وسلالة الحاكم.
فالمذهب الزيدي ورؤيته للحكم كما يقول الأستاذ محمد أنعم غالب "صُمم بحيث يناسب الحق الإلهي المدعى لنسل النبي في الحكم" [محمد أنعم غالب نظام الحكم والتخلف الاقتصادي في اليمن صـ123 دار الهنا للطباعة - القاهرة – 1960] ومن هنا فإن النظرية السياسية للزيدية الهادوية التي تحصر الإمامة في البطنين من أولاد فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تعد السند الشرعي في امتلاك السلطة والحكم، قد فُصلت لتناسب مقاس البطنين في الزعامة والرئاسة، في أرض مزدحمة بالزعامات، والقوى المحلية الساعية للحفاظ على استقلالية مناطقها في وجه السلطات القائمة من أموية، وعباسية.
لقد كانت الإمامة التي دخلت حلبة المنافسة للصراع على حكم اليمن، بقدوم الإمام الهادي إلى اليمن 284هجرية، محاولة لتشكيل دولة معتمدة التمركز حول أسرة، لا تمتلك التحالفات أو الحضور والنفوذ، ولا الأسباب التي تمكنها من الاستقرار والثبات داخل الأرض المراد حكمها، فقد كانت دعوة عصبوية قبلية تدعم تسيد أحد أبنائها، أو أفخاذها ممن تجمعهم آصرة القربى والدم، دون أن تمتلك أي عصبية آنذاك، وهي وإن تعززت بالدين، فإنها قد تنجح في المناطق الصحراوية، استناداً إلى نظرية العلامة عبد الرحمن بن خلدون التي صاغها في القرن العاشر الهجري، وطبقها على بيئة الجزيرة العربية، وبلاد البربر، وكلاهما من البيئات الرعوية، وهذه التشكيلة، والبنية الاجتماعية غير قائمة في اليمن، ولذا فقد كان من الصعب أن يكتب النجاح لمنظومة عشائرية أن تحقق السيطرة على الحكم في بلد كاليمن، كما أن ذلك يعد أحد الأسباب الرئيسية، والجوهرية التي طبعت فترات تسلمها للسلطة بعدم الاستقرار، وصبغت تاريخها بالصراعات، وجعل الفشل من نصيبها لقرون عديدة. ويتضح نفور اليمنيين ورفضهم لمشروع الإمامة منذ بداياته الأولى، أن لسان اليمن وباعث مجدها أبو محمد الحسن الهمداني انطلق في محاربتها بوصفها دعوة قبلية عشائرية ضيقة، كما جاء ذلك في شرح الدكتور علي محمد زيد لنظرية الهمداني في السياسة.
لم تكن اليمن عند دخول الإمامة ساحة خالية من القوى، والزعامات المتنافسة على السلطة، بل كانت في تلك الفترة مكانا يضج بالعديد من الشخصيات الساعية للحصول على السيادة، وتسنم سدة الرئاسة، من آل يعفر، والمناخيين والزياديين وغيرهم، وكانت تلك الأسر والعشائر رغم حضورها ونفوذها تدرك هشاشة وضعف عامل العصبية القبلية في استلام السلطة، أو مدّ النفوذ على ارجاء واسعة من البلاد، لذلك فإنها كانت تسعى لرفع المظالم النازلة بالسكان، وتستغل تذمر اليمنيين من جور وظلم ولاة الخلافة، سواء القادمين من دمشق، أو بغداد، لنيل الحضور على الساحة، والقبول من المجتمع في الحصول على القيادة، لا باعتبار ذلك حقاً لها، بل باعتبار ما تقوم به أدوار في مقارعة بطش الولاة.
لقد كانت القيمة الاعتبارية - بحسب تأكيد مؤرخ اليمن الدكتور عبدالرحمن الشجاع - هي التي تقف وراء قيام الدويلات التي عرفتها البلد، ولم تكن العوامل القبلية هي الصانع الأساسي لقيام دول تنتسب إلى أسرة أو عشيرة "فالدولة اليعفرية مثلاً تنتسب إلى يعفر الحوالي ولكنها سعت لتوسيع نفوذها تحت مبدأ آخر لا يمت إلى القبيلة بصلة، فقبل أن تعترف الدولة العباسية بدولة بني يعفر كانت تسعى إلى رفع ما تعتقده من ظلم واقع على الناس أو ضعف أصيبت به القيادة المحلية". [د. عبدالرحمن الشجاع تاريخ اليمن في الإسلام ص 223]
كما أن الزعامات المحلية كانت تسعى نحو الاستقلال الاداري عن الحكم المركزي للخلافة، نظراً لفساد العمال وجورهم، وليس الانفصال عن الدولة الأم، ولذلك كان سلاطين وملوك الدولة اليعفرية على سبيل المثال، تبحث عن سند شرعي من الخليفة للاعتراف لهم بالشرعية، ولما "اعترفت بها الدولة العباسية أصبحت تحكم باسمها... فالسيادة ليست قبلية.. كذلك بقية القوى التي قامت في اليمن مثل بني زياد أو المناخيين أو الهمدانيين أو المراديين. [د. عبدالرحمن الشجاع نفس المصدر]
ويتأكد رفض اليمنيين لمشروع الإمامة، التي تحصر الحكم في أسر معينة، أن الإمام الهادي "يحي بن الحسين" استند في دعوته ومعاركه إلى عناصر وافدة، كالطبريين الذين التحقوا به من طبرستان، والعلويين القادمين من الجزيرة العربية، وفي توجه الإمام الناصر بعد خمسة أشهر من توليه الإمامة كما يقول مسلم اللحجي " إلى الحجاز ليجمع ما يمكن جمعه من العلويين والبدو، و يأتي بهم إلى صعدة كي يساعدوه على إقامة أمر سلطته " [علي محمد زيد المعتزلة ودولة الإمام الهادي]. وفي الوقت ذاته فلقد كان مجيء الهادي إلى الحق بدعوة من بعض قبائل صعدة، ليس حاكماً وإنما محكماً بين بعض الفروع القبلية الصغيرة، بصورة تدعم وتؤكد الصبغة العرفية عند القبائل في حل خلافاتها، ويؤكد حقيقة ذلك أن القبائل التي استدعت الهادي إلى الحق، هي القبائل ذاتها التي حاربت ابنه أحمد الناصر، ووقفت حجر عثرة في تقدم وتحقيق مشروع الإمامة، إلى جانب عوامل عديدة.
وما يلفت الانتباه في توسع وانتشار المذهب الزيدي من الناحية الفكرية، والفقهية، ووصوله إلى صنعاء وذمار وغيرهما، أنه تم في ظل غياب واختفاء القيادة السياسية التي تحمل السيف، لتأكيد حقها في الإمامة، كما ألمح إلى ذلك المؤرخ أحمد محمد الشامي في كتابه تاريخ الفكر اليمني، وهي الفترة التي برز فيها أتباع وطلاب الهادي من خارج الأسر العلوية، والتي لم يكن يعنيها الشأن السياسي، أو الدعوة لإمام، وهو الوقت الذي توهجت فيه أفكار المطرفية بدايات القرن الخامس الهجري، حيث انشأت شبكة من الهجر فوق رقعة واسعة من مناطق نجد اليمن، وقد ساعد على انتشار المذهب تركيز غالبية العلماء على قضايا العدل والتوحيد، والابتعاد عن دعاوى حصر الإمامة في البطنين، وتفنيد مقولات الاصطفاء.
من يتأمل أحوال نشأة الدويلات في اليمن خلال القرون الخالية، يتأكد لديه بأن الدعوات القبلية، والمناطقية المحصورة، وقيام السلطنات والإمارات كانت تترك المناطق التي وجدت عليها بلقعا بلا أثر من عمران، أو تنمية تخدم المجتمع، كما لم تقدم المشاريع المذهبية الضيقة، للبلد ما تفخر به أو تعتز من مآثر حضارية، وكلا هذه الدعوات المتجددة اليوم لا يمكن أن تساعد أصحابها في أحقية امتلاك حكم اليمن، أو جزء منه، بل اقصى ما يمكن لهذه الجماعات، والفئات الحصول عليه هو سلطات لأمراء حرب في جغرافيا مسكونة بالصراعات، ومشروعها الوحيد الذي يكفل بقاءها هو استمرار الحرب، والارتهان للتمويل القادم من بعيد .