مقالات
الوحدة والدعوة إلى الجمهورية (3)
لم تعرف امة من الأمم التواصل المستمر، والحضور الطاغي للوعي بالذات كما عرفته اليمن، ففي مصر والعراق وسوريا، اصبح السكان في تلك المناطق بعد قدوم الإسلام ينظرون إلى ماضيهم بصورة سلبية، بينما سارع شعراء اليمن بوضع الملاحم الشعرية التي تمجد وتحكي سير التبابعة، وقصص الدول اليمنية.
فمنذ بداية العهد الإسلامي ظهر أمثال وهب بن منبه، وعبيد بن شرية يترنمون بعظمة الانجازات التي صنعها اليمنيون، بصورة تؤكد على وجود دولة حققت كل تلك المنجزات.
فقد كان الوعي بالذات حاضرا وبقوة عند اليمنيين، ومرافقا لامتداد ثقافة الإسلام، وتميزت "الشخصية اليمنية منذ البداية على المستوى الثقافي مع ظهور مصطلح أهل اليمن" كما يرى الدكتور رضوان السيد، وهو مصطلح يعبر عن كيان اجتماعي وسياسي. ف "نشأ تاريخهم العلمي بجمع وتدوين وتحرير الأساطير القحطانية بنفس الأسلوب الذي نشأت به كتابة أعمال النبي صلى الله عليه وسلم، وأقواله وجمعها" كما يقول المستشرق الروسي ميخائيل بتروفسكي.
لقد كان اليمنيون ينظرون بكل اعجاب، وكبرياء، وزهو، وفخر لكل ما قدمته دول اليمن القديمة، من سبئية، وقتبانية، وحضرمية، وحميرية، ولم يحصل أي تناقض بين ماضيهم الحضاري، ومستقبلهم الإسلامي.
ويعد لسان اليمن الهمداني أشهر من عبر عن هذا التيار، ومن بعده نشوان بن سعيد الحميري، ولم تسقط هذه الراية إلى اليوم، فمع اوائل نشأة الحركة الوطنية في الثلاثينات من القرن العشرين داخل اليمن، سعى الأحرار وهم في سجونهم لبعث واعادة تحقيق كتب علامة اليمن الهمداني، للتعبير عن حنينهم وتطلعهم وتوقهم لإقامة كيان وطني واحد، يضم كل أجزاء اليمن المبعثرة، وتعبيرا في الوقت ذاته عن حضور الذات اليمنية، وعن حنينهم لقيام دولة تغطي كامل رقعة اليمن الطبيعية، وتزيح الاستبداد والاستعمار اللذين اسهما في تمزيق اليمن وتقسيمه.
فاليمن وإن "شهد مراحل تاريخية من التجزئة والتفكك، لكنه لم يفقد هويته الواحدة، وحتى في عهود الدويلات أو الممالك المتفرقة، ظل الحلم الوحدوي غالباً، والتوق إلى دولة مركزية واحدة، عملاً محركاً للتاريخ وقوى المجتمع.. وكانت الثقافة اليمنية على الدوام، قاعدة وحدوية تواجه تلك المراحل من الاستثناء" [هشام علي بن علي الثقافة والوحدة ودور المثقفين اليمنيين في تحقيق الوحدة ص 557، وثائق ندوة الثورة اليمنية الجزء الثاني]
نعم لقد عاشت اليمن في بعض مراحل التاريخ مجزأة لكن من ناحية السلطة، وتفككت وتناثرت في أوقات عديدة، ومع كل ذلك لم يفقد اليمنيون شعورهم بيمنيتهم، وقد أكد الدكتور عبدالعزيز المقالح هذه الحقيقة بقوله: "ومن حسن حظ هذه البلاد أنه مهما كانت الممارسات والتحولات والمعوقات التي شهدتها تحت الأنظمة التقليدية أو الحديثة نسبياً فإن (اليمن) قد ظل هو الاسم الواحد والرمز التاريخي الذي لن يتغير أو يتبدل، وأن كل مواطن على امتداد هذه الساحة يرى نفسه مواطناً يمنياً ينتمي إلى قطر عربي واحد اسمه (اليمن) ولم يحدث له ما حدث لبعض الأقطار العربية التي تفتت فأصبح لكل جزء اسمه الاقليمي الذي ينتمي إليه مواطنوه كما هو الحال على سبيل المثال في بلاد الشام" [انظر مقدمة كتاب د. سمير العبدلي الوحدة اليمنية والنظام الإقليمي العربي ص8]
لم تتمكن الانقسامات السياسية، وقيام الكيانات القبلية، على انقاض ضعف الحكومة المركزية، من ترسيخ التمزق، وتفتيت الهوية اليمنية، بحيث استطاعت اليمن الاحتفاظ "بوحدتها في كل عهود الانفصال "التشطير"، بفضل الثقافة الوطنية، التي حفظت وحدة الأرض والتاريخ في الوجدان والأذهان، ووقفت في وجه كل محاولة لجعل التشطير حقيقة واقعة" [هشام علي بن علي الثقافة والوحدة ودور المثقفين اليمنيين في تحقيق الوحدة ص 564 ، وثائق ندوة الثورة اليمنية الجزء الثاني]
وتظهر النقوش اليمنية على قيام الرابطة الدينية بين اليمنيين مقام العصبية الضيقة، واستبدال الانتماء الانتماء للقبيلة والعشيرة، بالمكان. كما كانت العلاقات الاقتصادية للإنسان اليمني، وتطور التجارة منذ أقدم العصور، قد جعلته يبحث عن الاندماج في مجتمع اوسع، وأكبر من مجتمع القرية، أو المدينة، والمنطقة، والقبيلة، وهو الأمة والدولة والكيان الأكبر الذي يجمع شمل الجميع.
فاليمنيون "من أكثر الشعوب العربية توقاً إلى تجاوز الحدود الإقليمية وبناء الوحدات السياسية الكبرى. وفي تاريخهم القديم والحديث ما يؤكد ذلك. ولذا فإن رؤية الجزيرة العربية كياناً سياسياً واقتصادياً واحداً هو أقرب إلى نفوس اليمنيين من رؤيتها كيانات صغيرة هزيلة مجزأة" [ د. أحمد قايد الصايدي اليمن الشعب والأرض والحضارة ص49، مجلة دراسات يمنية، عدد 42، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، 1990، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني]
لذلك ظل اليمنيون في مختلف مناطقهم يرون في مسألة الحدود "أن كل ما هو يمين الكعبة يدخل في حدود اليمن وترسبت هذه النظرة الإسلامية التقليدية عندهم طوال التاريخ الإسلامي وتبلورت هذه الفكرة عبر الزمان تغذيها الطبيعة الواحدة التي تجمع أجزاء المنطقة ويتناقلها الحكام" [سيد مصطفى سالم تكوين اليمن الحديث ص283] وسواء كان مركز السلطة في صنعاء، أو عدن، أو زبيد، أو جبلة، أو تعز، أو حضرموت، أو صعدة، فلقد كانت هذه الرؤية حاضرة في ذهن الحكام، والشعب على حد سواء، و"كانت هذه النظرة تتحقق أحياناً من الناحية العملية – وتخرج من النطاق النظري فيستطيع بعض الأئمة الزيديين أو غيرهم من الحكام السنيين الأقوياء الذين تمكنوا من إقامة دول مختلفة متعاقبة – بسط سيادتهم على عسير واليمن ومنطقة المحميات. وكانت هذه الحدود التاريخية في مخيلة الشعب اليمني دائماً وما زالت" [المصدر السابق]
لم يستسلم اليمنيون مطلقا للسياسات ذات النزعات التي تهدف إلى تقسيم البلد، سواء كانت تقف خلفها إمبراطوريات، أو كان أصحابها من الهواة والحواة، ذوي الطموحات الضيقة، التي ترتبط بالهيمنة على منطقة محدودة، بل ظلت اليمن بحدودها المعروفة عبر التاريخ حاضرة في وعيهم، ومحركا لتاريخهم، وقاعدة راسخة لدى كل القوى الوطنية في إقامة الكيان الوطني الذي يغطي حدود اليمن الطبيعية.