مقالات
اليمن: التنوّع في إطار واحد (2)
إنَّ طبيعة اليمن الجغرافية المتمثلة بتضاريسها الوعرة، وبيئتها الصعبة، وتنوّعها بين جبال عالية، وسهول وسيعة، ووديان عميقة، وطقس متنوّع، قد أثرت تأثيرا كبيرا في صياغة الشخصية اليمنية، وانعكس ذلك إيجاباً، من خلال استجابة الإنسان اليمني لتحدِّيات البيئة، بحيث أنتج ثقافة ثرية ومتنوّعة، في شتّى مناحي الحياة الثقافية.
لقد عملت وحدة التحدِّيات، المتمثلة في شحة السماء ووعورة التضاريس، على صياغة وحدة التصوّر للنفسية اليمنية في مواجهة الواقع، الأمر الذي جاءت الاستجابة له واحدة في كافة مناطق اليمن، وكان هذا التحدِّي يتمثل في ندرة المياه، واستصلاح البيئة القاسية، فكانت النتيجة هي في إقامة السدود وقنوات الري، للتغلّب على شحة المياه، في كل أنحاء البلاد، وظهور أسلوب واحد يتمثل في روح المبادرة، والتعاون، في إنجاز الأعمال لاستصلاح الأراضي الزراعية، وتقديم العمل والإنجاز على ما عداه.
لقد كان للطبيعة الجغرافية الدور الفاعل في دفع المجتمع إلى تبنّي أساليب للعمل تعتمد على الشراكة والتعاون، من أجل التغلّب على ظروف البيئة القاسية، وهو ما تتحدّث عنه النقوش في سبأ وحضرموت وقتبان ومعين.
ومن خلال النقوش القديمة التي سجلها السكان، والقادة، والملوك في ربوع اليمن، "تبيّن أن وعي قدماء اليمنيين لوجودهم الإنساني يقوم على العمل والإنتاج والإعمار والبناء، وأن هذه القيمة الحضارية للشيء هي التي تحدد في النهاية علاقة الإنسان بالآلهة وبنفسه وبالآخرين. ولا تكتمل عناصر هذا الوجود الإنساني في تصوراتهم إلا بالامتثال للآلهة والطاعة لعليّة القوم والعيش ضمن نظام إدارة عليا" [عبد الرحمن السقاف "تطور الفكر لدى قدماء اليمنيين"، صـ268 ـ 269، "رسالة ماجستير" غير منشورة، جامعة عدن]
وإذا كان هناك تعدد عبّر عن نفسه في الانتاج الثقافي، أو تنوّع اللهجات، وانتشار المذاهب في اليمن، فإن ذلك لا يشير إلى التناقض، ولا القطيعة، فالشخصية القاعدية الوطنية، التي هي شرط من شروط تحقيق الذات، هي تلك التي تتفاعل بداخلها عدد من المكونات، ويكمن "في تعدد أبعادها وثراء مكوناتها؛ ذلك أن الأمر يتعلق بثراء متبادل وتكامل إيجابي في إطار الوحدة والتجانس" [د.المنصف وناس "الشخصية التونسية محاولة في فهم الشخصية العربية"، ص31].
إن هذا التنوع الثري بمضامينه، والمتعدد، والمنسجم، الذي يعبّر عن نفسه في الثقافات المحلية للمناطق اليمنية، بحيث لا يشعر سكان هذه المنطقة، أو تلك بالاختلاف أو التمايز، يمنح الشخصية اليمنية قاعدة قوية، ودافعا لاحتواء الاختلاف، وهذا التنوّع حاضر داخل الثقافة منذ بداية ظهور الحضارة اليمنية، فإن الدراسة المقارنة "للطقوس القبورية السبئية والقتبانية تقدم لنا حالة مثيرة للاهتمام تتميّز بالتنوع ضمن إطار واحد من الثقافة اليمنية القديمة" [بوركهارد فوكت وكريستيان روبان "الوحدة الثقافية لبلاد اليمن"، ص225، من كتاب "اليمن في بلاد ملكة سبأ"]، ويعد هذا التنوع داخل الثقافة عامل قوة لا ضعف، بحيث ساهم في منح الحضارة اليمنية حضوراً، وازدهاراً، طويلا عبر التاريخ.
وبالرغم من الاختلافات في تسميات الآلهة بين السكان اليمنيين في أنحاء البلاد "إلا أن دلالاته وطقوسه الدينية واحدة في جميع المناطق اليمنية" [د. أسمهان الجرو "الفكر الديني عند عرب جنوب شبه الجزيرة العربية"، ص221، أبحاث اليرموك "سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية"، 1998]، وهذا يؤكد على جوهر الثقافة الواحدة المكونة لأهل اليمن، منذ أقدم العصور، كما يؤكد أن التكامل بين مكوِّنات الثقافة اليمنية هو الأصل، وأنه مهما برزت الاختلافات إلى السطح فإنها مجرد قشور بوسع المجتمع تجاوزها، كما يصعب تحولها إلى عامل باعث على التناقض والصراع.
لقد قامت الحضارة اليمنية على علاقات التكامل بين مكوِّناتها الجغرافية، وهذا ما أعطاها القدرة على البقاء والاستمرار طويلا، وهذا ما تؤكده السيرورة التاريخية.
تشير الأبحاث والدراسات التاريخية الحديثة إلى أن مناطق المرتفعات الجبلية في اليمن عرفت بداية الأنشطة الزراعية منذ الألف الخامس قبل الميلاد، قبل أن تعرفها مناطق الوديان الفسيحة، وأن المعارف الزراعية قد انتقلت من الأولى "نحو الأراضي المنخفضة إلى أن وصلت الوديان الكبيرة في الأراضي السهلية التي تقع على ارتفاع ألف متر من مستوى سطح البحر، وكان وصول فكرة الزراعة إلى تلك الوديان الكبيرة في حوالي نهاية الألف الثالث/بداية الألف الثاني قبل الميلاد." [د. عبده عثمان غالب "نظريات الفجوة الثقافية والاستيطان الحضري في اليمن"، ص10، مجلة "التاريخ والآثار"، ع2، 3، أكتوبر 1993- مارس 1994، صنعاء]، وفي هذا تأكيد آخر على التكامل بين سكان اليمن منذ أقدم العصور، وأن حضارة اليمن لم تزدهر إلا بهذا التكامل القائم بين مكوّناتها الجغرافية، والبشرية.