مقالات
إيران وإعادة هندسة العقل الأمني
تُشير تطورات داخلية متسارعة في طهران إلى تحرك محتمل لإحداث تغيير نوعي في أحد المفاصل الحساسة للدولة الإيرانية، عبر الإعلان من وكالات إيرانية عن تعيين علي لاريجاني أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي، خلفًا للجنرال علي أكبر أحمديان المحسوب على الحرس الثوري. هذا التوجّه لا يعكس مجرد تعديل إداري، بل يدل على محاولة إعادة هندسة التفكير الأمني في النظام الإيراني، في ضوء تصاعد الضربات الخارجية وتزايد التحديات الداخلية والإقليمية.
لفهم خلفيات هذا التحول، لا بُد من الوقوف أمام التركيبة المعقدة للنظام الإيراني، فمنذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، اعتمد النظام على صيغة "الولاية المطلقة للفقيه"، حيث يتركز القرار السيادي في يد المرشد الأعلى (حاليًا علي خامنئي)، ويمتد نفوذه إلى التوجيه العسكري، وتعيين قادة الأجهزة الأمنية، ومفاصل القضاء، والسياسة الخارجية، مع إشراف فعلي على الحرس الثوري والاستخبارات والمجلس الأعلى للأمن القومي.
ورغم وجود مؤسسات منتخبة كالرئاسة والبرلمان، فإنها تخضع لوصاية هيئات غير منتخبة مثل مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام (The Iran Primer, 2023).
في هذا السياق، يُعد المجلس الأعلى للأمن القومي أحد أبرز غرف العمليات الإستراتيجية للنظام، خصوصًا فيما يتعلق بالملف النووي، والسياسة الإقليمية، والتنسيق الأمني الداخلي. ويخضع المجلس فعليًا لمكتب المرشد، ولذلك فإن تعيين أمينه العام يعكس أولويات المرحلة.
علي لاريجاني ليس وجهًا جديدًا على هذا الموقع؛ فقد شغله في مرحلة حساسة بين 2005 و2007، وكان حينها كبير المفاوضين في الملف النووي. ويُصنّف ضمن ما يُعرف بـ"التيار المحافظ البراغماتي"، وهو تيار يتميّز بمرونة نسبية تجاه الغرب، دون أن يتخلى عن أيديولوجية الثورة. بخلاف أحمديان، الذي يمثل الخط الصلب للحرس الثوري وتيار التشدد العسكري – الأمني (BBC Persian, 2023)، فإن لاريجاني يقترب من منطق الدولة المؤسسية، ويسعى إلى تحقيق توازن بين الردع والانفتاح.
هذا التغيير المحتمل يأتي في ظل سلسلة ضربات إسرائيلية وأمريكية استهدفت قلب المشروع الإيراني؛ من اغتيال العالم النووي فخري زاده (2020)، إلى هجمات نطنز (2021)، وعمليات استهداف دقيقة لقيادات "فيلق القدس" والمليشيات الموالية له في سوريا والعراق. كما تسبب تفجير ضخم في دمشق، مطلع 2024، بمقتل عدد من ضباط الحرس البارزين، ما شكل إحراجًا كبيرًا للمنظومة الأمنية الإيرانية (NY Times, 2024).
إلى جانب ذلك، شهدت إيران اختراقات أمنية داخلية متكررة وعمليات تجسس إسرائيلية كشفت ضعف التنسيق بين الأجهزة، وفقدان ما كان يُعرف بـ"الردع المقدّس".
في ضوء هذه التطورات، تصاعدت الخلافات بين أجنحة الدولة العميقة، لا سيما بين الحرس الثوري ووزارة الأمن (الاستخبارات المدنية)، وكذلك بين دُعاة التصعيد العسكري من جهة، والتيار الذي يفضل التهدئة المرحلية وتخفيف العزلة الدولية.
هذه التباينات تتزايد حدّتها مع تدهور الوضع الاقتصادي، وتصاعد الاحتجاجات الداخلية، خاصة خلال أعوام 2022 و2023 (Al Monitor, 2024).
عودة لاريجاني ـ إن أُقرت ـ ستكون محاولة لاستعادة التوازن بين المؤسسات الأمنية والسياسية، عبر شخصية تمتلك خبرة في التفاوض، وتستطيع إدارة الملفات المعقدة ببراغماتية محسوبة. لكنها لن تعني بالضرورة تخلي طهران عن مشروعها الإقليمي، بل قد تعني تحريك الأدوات نفسها بأشكال مختلفة، في العراق وسوريا واليمن ولبنان، خاصة أن وكلاء إيران يواجهون ضغوطًا متزايدة، كما هو حال الحوثيين في البحر الأحمر، وحزب الله في لبنان، والمليشيات في العراق التي أصبحت هدفًا مباشرًا لهجمات جوية أمريكية وإسرائيلية (Brookings Institution, 2023).
وهنا تبرز مسألة محورية: مدى تأثير أي تغيير في القيادة العليا للنظام على سلوك المليشيات التابعة له في المنطقة. فالتجربة تشير إلى أن هذه الجماعات - سواء الحوثيون في اليمن، أو حزب الله في لبنان، أو الحشد الشعبي في العراق - لا تتحرك باستقلال تام، بل تخضع لتنسيق مشترك مع "فيلق القدس"، أحد أذرع الحرس الثوري المكلف بتوسيع النفوذ الإيراني خارجيًا.
أي تغيّر في قيادة المجلس الأعلى للأمن القومي، أو العقيدة الأمنية العليا في طهران، سينعكس بالضرورة على طبيعة التمويل، ومدى الإذن بالتصعيد أو التهدئة.
فعلى سبيل المثال، لو رُجّحت كفة لاريجاني، ومن خلفه التيار البراغماتي، فقد نرى ضبطًا لسلوك الحوثيين عسكريًا في مضيق باب المندب، مقابل تحريكهم سياسيًا في مفاوضات قد تُستأنف برعاية دولية. كذلك، يمكن أن يُعاد ضبط حزب الله ضمن قواعد اشتباك جديدة في جنوب لبنان، لتفادي التصعيد المباشر مع إسرائيل (International Crisis Group, 2024).
أما في العراق، فإن فصائل الحشد الشعبي قد تتلقى توجيهات بـ"خفض الاحتكاك" مع القوات الأمريكية، خاصة في ظل تنامي الضغوط على الحكومة العراقية للحد من الهجمات الصاروخية.
هذا التحول -إن حدث- لن يكون انسحابًا، بل إعادة انتشار إستراتيجية ضمن معادلة "الصبر الإيراني الطويل" التي تُبقي اليد على الزناد، لكن دون إطلاق النار إلا بحسابات دقيقة.
في النهاية، فإن أي تغيير في هذا المستوى لا يتم إلا بإذن مباشر من مكتب المرشد، مما يعني أن النظام يدرك خطورة اللحظة، ويبحث عن إعادة تموضع، لا عن مراجعة إستراتيجية. وبالتالي، فإن تعيين لاريجاني إذا تم سيحمل رسالة مزدوجة: إلى الخارج بأن إيران تستجيب للضغوط بحذر؛ وإلى الداخل بأن العقل الأمني بحاجة إلى تجديد في الأدوات لا في الأهداف.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل هذا التغيير استباق محسوب لمرحلة ما بعد خامنئي؟ أم أنه مجرد تعديل تكتيكي لتهدئة العاصفة قبل استئناف المواجهة؟