مقالات
تعز .. حال الطُرق وسؤال المعيشة!!
لظرف طارئ تمثل بوفاة عمي، شقيق والدي الأوسط، غادرت صنعاء على عجل في الثامن من هذا الشهر لحضور العزاء في القرية.
كنت أعرف مشقّة السفر من أجل الوصول إلى وجهتي بسبب الحصار الجائر الذي تفرضه المليشيا الحوثية، بتواطؤ واضح من خصومها في طرف الشرعية، فيضطر المسافرون إلى سلك دروباً وعرة وشاقّة من أجل الوصول إلى وِجهاتهم في الأرياف، وأيضاً المدينة نفسها.
كان بذهني إن الطُرق ذاتها -التي سلكتها قبل عام من الآن- لم تزل على هيئتها، وأن النقاط الأمنية لم تزل تؤدي وظائفها الخشنة في الإيذاء والابتزاز، وإن معاناة الناس من موجة الغلاء لم تزل في حدود منسوبها المعروف.
الطُرق هي الطُرق على الخارطة وعلى الأرض، لكنها صارت اليوم أشبه بأودية ومجاري مياه يمكن المرور عبرها، فرُقع الإسفلت الصالحة للاستخدام في الخط التقليدي (صنعاء - الحوبان) لا تمثل غير 30% من طول الطريق، أما البقية فهي عبارة عن حُفر ومطبّات ومجارٍ طافحة، ونقاط تفتيش لا يمكن حصرها؛ أعمال الصيانة البائسة -التي تنفذ هنا وهناك- صارت في تفسير الشارع عملية مفضوحة للاستيلاء على مخصصات مالية تحت هذا المبرر.
المسافة التي كانت تُقطع من منطقة الحوبان إلى وسط مدينة تعز لا تتجاوز الدقائق العشر، تتطلب اليوم من أي راغب بالوصول إليها، ومن النقطة ذاتها، الساعات الأربع وبأجور نقل فلكية، ومن طرق ومنافذ شديدة الوعورة، تزداد حالاتها سوءاً يوماً بعد آخر بسبب الأمطار وانعدام الصيانة،
المسافة التي كانت تُقطع من مدينة التربة إلى مدينة تعز الساعة الواحدة قبل سنوات، صارت اليوم تُقطع بساعات ثلاث، بسبب تهالك الطريق، واندثار مساحات الإسفلت تماماً في أغلب المواضع فيها، وليس هناك من يحرّك ساكنا من قيادة المحافظة، رغم الجبايات الكثيرة التي تُفرض على سيارات نقل البضائع، وسيارات نقل الرُّكاب تحت بند صيانة الطريق، الأمر ذاته يحدث مع الطريق الإسفلتي الحديث الذي يربط عُزلة 'بني شيبة' بخط الإسفلت العام، الذي بدأ هو الآخر بالتهالك بسبب الحمولات الزائدة لسيارات النقل التي تمر عبره، محمّلة بمواد البناء (الرمل الناعم) من نواحي لحج والعُزل المجاورة، وكاد الطريق -خلال الشهر الماضي- أن ينقطع بسبب انهيارات التُربة في أحد منعطفات "نقيل تِماح" الخطرة، لولا تدخل رجل الأعمال المعروف علوان الشيباني في الوقت المناسب لإصلاحه، في ظل غياب أي دور يُذكر للسلطة المحلية في عملية الصيانة الطارِئة هذه.
(2)
غادرنا صنعاء قبل الفجر بساعتين، بهدف الوصول إلى وجهتنا بوقت معقول، غير أننا وصلنا بعد اثنتي عشرة ساعة تماماً، بسبب معوّقات عديدة تُضاف إلى معوِّقات الطرق، ومنها نقاط التفتيش الأمنية المتكاثرة كفطر مسموم، غير أن ما استوقفني في هذا الجانب هو الإجابة الواحدة لسائق السيارة في رده على أسئلة جنود ومسلحي النقاط بين صنعاء وإب، الذين يريدون تحديد وجهة سفرنا بالضبط، وكان يقول لهم بعد كل سؤال: مسافرون إلى مدينة إب!! وحينما سألته: لماذا لم تقل لهم إننا مسافرون إلى ريف تعز؟خصوصاً وإن الجهات الأمنية في صنعاء تطلب في العادة من شركات النقل تزويدها بيانات المسافرين على سياراتها ووجهتهم..
ردّ عليَّ بقوله: إن قلت لهم إننا في طريقنا إلى ريف تعز أو المدينة، سيطلبون منا استبدال العملة الجديدة التي بحوزتهم، التي يتحصلون عليها (اعتباطاً) من سائقي الشاحنات التي تصعد من عدن وتعز، بعُملة قديمة نحملها وبالسعر ذاته، ولن نستطيع ساعتها سوى الرضوخ لطلبهم، وإلاَّ أدخلونا في متاهة.
فقلت له: وماذا ستقول "لمتهبشي" النّقاط بعد إب؟ رد عليّ بقوله: سأقول لهم إننا مسافرون فقط إلى الحوبان، وما بعد الحوبان سأقول إننا مسافرون إلى الدِّمنة!! وهي المناطق التي تخضع لسلطة الحوثيين وقسوتهم الأمنية.
(3)
[ ] من أكثر الأسئلة، التي سمعتها من الناس في حواراتهم الجانبية في الريف والمدينة على السواء، هو سؤال: كم سعر الصرف اليوم؟ فخلال أسبوع واحد قضيته بين القرية وتعز، قفزت أسعار السلع بشكل جنوني بسبب انخفاض قيمة العُملة، حتى إن بيوتات تجارية كبيرة ومعروفة كمجموعة "هائل سعيد" صارت تقوم بتسعير السلع التي تنتجها أو تتاجر بها بشكل يومي تقريباً، وكأننا في بُورصة أسهم. قال لي قريب يعمل في تجارة المواد الغذائية إنه يتردد في بيع العديد من السلع الضرورية بسبب هذه التبدلات، أن السعر الذي سيبيع به اليوم سيكون مطالبا في الغد بدفعه مضاعفاً لتاجر الجملة، فقلت له: بعْ لهم بحساب الأمس. فرد عليَّ إنه لن يستطيع تعويض الفوارق من هذه التبدلات، فالكمية التي سيشتريها -إن باع بأسعار أمس- ستصير في الغد النِّصف، وبعد الغد ستصبح نصف النصف (الرُبع)، وهكذا حتى يفلس كما قال.
فقلت له: وما ذنب المواطن الغلبان والفقير؟!!
فرد عليَّ: وأنا ما ذنبي أيضاً؟! وهي الإجابة التي سيقولها بكل بساطة التاجر الكبير فالأكبر، وكأنّ الأخلاق لم تعد تعرِّف معنى التضامن المجتمعي من هذه الزّاوية.
(4)
تعز، التي بدأت تستعيد القليل من عافيتها في تطبّع بعض أوجه الحياة وعودة النازحين إلى مناطق التماس السابقة وانحسار ملحوظ لموجة المسلحين في الشوارع قياساً بما رأيته قبل عام، بدأت تعصف بها، مثل بقية المناطق التي تتبع الشرعية، رياح الغلاء القاتلة، في ظل غياب تام لدور الحكومة وأدواتها ، وكأنها هي التي تعبث بحال المواطن، الذي أتوقّع أن تكون ردة فعله قاسية حيال ما يعيشه، فقد تساوت وتداخلت عنده كل الأمور، ولم يعد لديه ما يخسره، "فاتقوا شرّ الجوعى يا حكام الغفلة".