مقالات
حرب الظلال: من يُمسك بخيوط الشرق الأوسط؟
حين تتداخل المصالح بالهويات، وتتشابك فيه الجغرافيا مع العقيدة، لم يعد الصراع بين إيران و"إسرائيل" مجرد نزاع ثنائي أو مواجهة عسكرية تقليدية، بل تحوّل إلى نموذج مركّب من التنافس على النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط، تتعدد فيه الجبهات، وتتداخل فيه الأبعاد الجيوسياسية، والاقتصادية، والعقائدية، والنفسية، وحتى الإعلامية.
من هنا، تأتي هذه السلسلة التحليلية التي أفتتحها بعنوان:
"حرب الظلال: من يُمسك بخيوط الشرق الأوسط؟"
كمحاولة للاقتراب من عمق هذا الصراع بعيدًا عن التناول الانفعالي أو السرديات الجاهزة، وبمنهج تحليلي متعدد الأبعاد، يربط بين الميدان والسياسة، بين النصوص والتحالفات، وبين الخرائط القديمة والخرائط التي يُعاد رسمها اليوم.
ستتناول هذه السلسلة -على امتداد حلقاتها- أبرز المحاور المفصلية التي تشكّل جوهر هذا الصراع، مثل:
1. البعد الجيوسياسي وإعادة رسم خرائط السيطرة.
2. الصراع على الموارد ومفاتيح الاقتصاد الإقليمي.
3. الأدوات غير التقليدية: الحرب السيبرانية، الفضاء، الإعلام.
4. دور الأطراف الإقليمية والدولية في تغذية أو احتواء النزاع.
5. الأبعاد العقائدية والرمزية التي تمنحه طابعاًوجوديًا.
إن فهم هذا الصراع لا يتطلب فقط الاطلاع على الأخبار اليومية، بل تفكيك البنية العميقة التي تُحرّك الأحداث وتشكّل القرارات، وهو ما سأحاول تقديمه، بكل وضوح وتجرد، عبر هذه السلسلة.
تعدد الأبعاد الكامنة للصراع ..حرب نفوذ شاملة.
الصراع في المشهد الإقليمي اليوم يتجاوز كونه مجرد مواجهة عسكرية على الأرض؛ إنه حرب نفوذ وتأثير عميقة تتجلى في عدة أبعاد متداخلة، تبرز طبيعته الشمولية وغير التقليدية. فهم هذه الأبعاد هو مفتاح تفكيك تعقيدات المنطقة والخروج بتحليل استراتيجي رصين.
أولاً: البعد الجيوسياسي – الهيمنة الإقليمية والسيطرة على مفاتيح الجغرافيا
تقوم الجغرافيا السياسية في هذا السياق على منطق الصراع على النفوذ لا سيما في ظل غياب توازنات مستقرة داخل النظام الإقليمي. وقد سعت إيران منذ عقود إلى بناء ما يمكن تسميته بـ"محيط جيوسياسي موالٍ" يمتد من طهران إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان في محاولة لإحاطة إسرائيل بـ"طوق
مقاوم"، يتجلى في الدعم اللامحدود لحزب الله في لبنان وتثبيت موطئ قدم دائم للحرس الثوري الإيراني وفصائل شيعية في الأراضي السورية وتوسيع نفوذها في العراق عبر الحشد الشعبي، بل وامتد هذا النفوذ ليطال البحر الأحمر من خلال دعم جماعة أنصار الله (الحوثيين) هنا في اليمن بما يعزز قدرة طهران على التأثير في ممرات الملاحة العالمية كباب المندب وربط تهديداتها الأمنية بمصالح القوى الكبرى.
في المقابل ينتهج الكيان إلاsرائيلي سياسة جيوسياسية وقائية هجومية تهدف إلى تقويض هذا التمدد الإيراني على المستوى الإقليمي وتستند في ذلك إلى عدد من المحاور: أولها تنفيذ استراتيجية "المعركة بين الحروب"، التي تقوم على توجيه ضربات
دقيقة ومركّزة لمواقع عسكرية إيرانية أو تابعة لحزب الله داخل الأراضي السورية واللبنانية بهدف كبح جماح التمدد الإيراني. ثانيها توسيع شبكة التحالفات الإقليمية مع عدد من الدول العربية خاصة في الخليج العربي، مستفيدة من التقاء المصالح الأمنية والقلق المشترك من النفوذ الإيراني وهو ما تجسد في اتفاقيات "أبراهام" التي نقلت التحالف الإسرائيلي-العربي من التنسيق السري إلى الإعلان العلني. ثالثها تعزيز الحضور الأمني البحري في البحر الأحمر والخليج ضمن تحالفات دولية
أو إقليمية بهدف تأمين طرق الملاحة وحماية المصالح الإسرائيلية من التهديدات المتزايدة.
أما من حيث التحكم في الفضاء السيبراني والقدرات الفضائية فمن الملاحظ أن الصراع قد تحول إلى مستوى غير تقليدي من المواجهة حيث انخرط الطرفان في حرب سيبرانية متبادلة استهدفت منشآت حساسة للطرفين أبرزها الهجوم الشهير بـ(Stuxnet) الذي عطل جزءاًمن البرنامج النووي الإيراني. كما تسعى إsرائيل إلى تعزيز قدراتها الاستخباراتية عبر الأقمار الصناعية في حين تستثمر إيران في تطوير أدوات مشابهة ما يعكس تصاعد أهمية "الفضاء الجيوسياسي غير المرئي" بوصفه مجالاً استراتيجياً مكمّلاً للسيطرة الإقليمية.
ثانياً: البعد الاقتصادي – العقوبات النفوذ المالي والتحكم بالبنى التحتية
يُعد البعد الاقتصادي أحد أبرز مكونات الصراع بين إيران والكيان إلاsرائيلي وإن كان لا يُدرك في كثير من الأحيان بالحس المباشر إلا أن تأثيراته تتغلغل بعمق في مكونات الصراع.. فمن ناحية تواجه إيران منظومة من العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والتي تستهدف قطاع الطاقة والبنوك وشبكات التمويل فضلاً عن الحصار المفروض على عمليات التصدير والاستيراد. وقد أثّرت هذه العقوبات بعمق على قدرة إيران في تمويل أذرعها الخارجية، مما دفعها إلى البحث عن طرق غير تقليدية، تشمل التهريب والتعامل بالعملات البديلة والاعتماد على شبكات مالية موازية.
في المقابل تمتلك إسرائيل اقتصاداً متقدماً ومرناً وتوظف أدواته لتعزيز نفوذها في الإقليم، من خلال تصدير التكنولوجيا المتقدمة والتعاون الأمني والاستثمار في مشاريع المياه والطاقة وطرح نفسها كشريك( موثوق )في مشاريع البنى التحتية الرقمية والاتصالات... كما تسعى إلى تعزيز أمنها الاقتصادي من خلال تنويع مصادر الطاقة وتطوير حقول الغاز في شرق المتوسط وإقامة شراكات استراتيجية مع أوروبا ومصر وقبرص واليونان في هذا الإطار، بما يمنحها هامشاً أوسع من المناورة في وجه التهديدات الإيرانية أو حلفائها في المنطقة.
أما ممرات الطاقة والتجارة.. فقد تحولت إلى نقاط احتكاك حقيقية بين الطرفين؛ فإيران تمتلك القدرة على تهديد مضيق هرمز الذي يمر عبره حوالي 20% من صادرات النفط العالمية وهو ما يمنحها ورقة ضغط استراتيجية. كما أن تهديدات الحوثيين المتكررة بإغلاق أو استهداف باب المندب تعني تهديداً مباشراً للملاحة الإسرائيلية ما دفع إسرائيل إلى بناء تحالفات بحرية
عسكرية مع الولايات المتحدة وعدد من القوى الإقليمية لحماية طرق الملاحة الحيوية.
بالإضافة إلى ذلك..يتمظهر البعد الاقتصادي في المعركة على البنية التحتية؛ إذ تعتبر إيران أن التحكم في شبكات النقل الإقليمية (كالطرق البرية التي تربط طهران ببيروت مروراً ببغداد ودمشق) هو جزء من استراتيجيتها للتغلغل الاقتصادي والسياسي. بينما يرى الكيان إلاسرائيلي أن تأمين كابلات الإنترنت البحرية وحماية محطات الغاز البحرية وتطوير الموانئ (مثل ميناء حيفا بشراكة إماراتية) يُعدّ جزءاً من أمنها الاقتصادي القومي.
والملاحظ أنه من خلال تحليل البعدين الجيوسياسي والاقتصادي أن الصراع بين إيران وإسs رائيل يتجاوز المفهوم التقليدي للحرب، لينتقل إلى نموذج أكثر تعقيداً من "الصراع الممتد" الذي تتعدد فيه الجبهات والأدوات والمجالات. فإيران تسعى إلى بناء فضاء استراتيجي
عبر شبكات حلفائها وممرات التأثير الإقليمي، بينما توظف إسرائيل تفوقها التكنولوجي وتحالفاتها الدولية لإعادة رسم خرائط النفوذ ويبقى مستقبل هذا الصراع مرهوناً بقدرة الطرفين على حسم معركة السيطرة على مفاتيح الجغرافيا الإقليمية ومراكز القوة الاقتصادية ونقاط الاختناق الحيوية، في ظل نظام دولي متغير ومصالح متشابكة لقوى كبرى تنظر إلى الشرق الأوسط باعتباره ميداناً لاختبار مشاريع الهيمنة والتوازن.
ثالثاً: البعد العقائدي– الأيديولوجي.. توظيف المقدّس لخدمة السياسة
رغم أن المصلحة السياسية والاقتصادية تظل المحرك الجوهري وراء سلوك الدول فإن الخطاب العقائدي والديني يضطلع بدور مركزي في تشكيل البيئة النفسية والثقافية للصراع، بل ويُستخدم بوصفه أداة استراتيجية تُكسب السياسات الواقعية غطاءً أخلاقياً ومعنوياً وتُحول الصراع من مجرد نزاع على المصالح إلى مواجهة "مصيرية" ذات طابع وجودي.
في الحالة الإيرانية.. تستند الجمهورية الإسلامية إلى خطاب أيديولوجي عقائدي يستلهم من الثورة الإسلامية عام 1979 روح "نصرة المستضعفين" و"مواجهة قوى الاستكبار العالمي"، وتقدّم نفسها بوصفها الحامي الأول للمقدسات الإسلامية، وخاصة القدس الشريف، باعتبار ذلك جزءاً من "رسالتها الثورية".. هذا الخطاب- رغم طابعه الديني- يتم توظيفه سياسياً لإضفاء شرعية على تدخلاتها في الدول العربية، سواء من خلال دعم "محور المقاومة" في لبنان وسوريا وفلسطين أو عبر تبني القضية الفلسطينية كقضية مركزية تُستخدم لبناء عمق شعبي في المنطقة.
على الجانب الآخر..يعتمد الكيان الإsرائيلي في خطابه التعبوي على مفردات ذات طابع ديني–وجودي، تتمحور حول فكرة "التهديد الإيراني" بوصفه تهديداً وجودياً لـ"الشغب اليهودي" ولدولة إsرائيل، مع استدعاء متكرر لصور الهولوكوست، والخطر النووي والمظلومية التاريخية..في مخاولة لحشد الدعم الدولي وتبرير السياسات العسكرية الوقائية؛ بل والتوسعية أحياناً، في الضفة الغربية والقدس.. كذلك فإن مصطلحات مثل "أمن إsرائيل الأبدي" أو "الحق في الدفاع المقدس" يتم تصديرها كخطاب موجه للداخل الإسرائيلي، وللرأي العام الغربي خاصة في الولايات المتحدة.
هذه الخطابات في جوهرها، لا تُعبر بالضرورة عن صراع ديني محض..سوى أنها توظف الدين كأداة سياسيه لتحقيق مكاسب استراتيجية.. فالسرديات حول "المقاومة"، و"التحرر"، و"الخطر الوجودي"، ليست مجرد شعارات فارغة فحسب، بل أدوات تعبئة فعّالة تُستخدم في تجييش الشارع وتبرير التورط في الصراعات الإقليمية، سواء في سوريا أو اليمن أو غزة، أو حتى في مشاريع التسلح الاستراتيجي.
والنتيجة ..هي أن الصراع يكتسب طابعا رمزياً ونفسياً مركّباً يجعل من تسويته أمراً معقدًا، إذ لا يقتصر على الملفات السياسية أو الأمنية القابلة للتفاوض بل يمتد إلى مناطق المقدّس والرمز والهوية، مما يُحوّل أي تراجع تكتيكي أو تنازل إلى "خيانة للمقدسات" أو "تنازل عن العقيدة"، ويُعقّد من إمكانية الوصول إلى تسويات براغماتية شاملة.
يُتبع