مقالات
حكاية البنت قَرْطَلَةْ (2-2)
حال وصولهما بيت الحكومة كان البيت يعج بالمتخاصمين من جميع القرى، وعند دخولهما راح الكل يلتفت ناحية البنت قَرطَلة، ويحملق في بطنها المنتفخة، وكان أن لفتت بطنها الشديدة الانتفاخ انتباه حاكم حيفان، القاضي غالب التنكة، الذي توقف عن الحكم بين اثنين من المتخاصمين، وراح يسأل وكيل الشريعة، حمود السلتوم، عمن تكون الفتاة الحامل، وعن قضيتها، وأخبره وكيل الشريعة بأن اسمها قَرْطَلة، وقضيتها هي أنها مارست الفاحشة مع جني وحبلت منه.
وعندها راح الكل ينظر إليها باشمئزاز، وقال القاضي غالب -مخاطبا وكيل الشريعة، حمود السلتوم:
- "وأنت صدقت -يا حمود- أنها حبلت من جني!!".
وراح القاضي غالب يتحدث عن كيد النساء، وعن نساء زنينَ وحَبِلنَ من عشاقهن الإنس، وادعين أنهن حملن من الجن.
وقال يسأل قَرطَلة: - "من هو -يا قرطلة- الذي حَبّلك؟! تكلمي ولا تِسْتَحَي".
قالت قَرطَلة: "حبلني جني -يا قاضي".
لكن القاضي لم يصدّقها، وواصل ضغطه عليها كيما تعترف، وتذكر اسم الشخص الذي حبلها، وكانت تعيد الكلام نفسه، وهو يعيد السؤال نفسه، وفي الأخير تدخَّل وكيل الشريعة، وقال له:
- قَرطَلة -يا قاضي- لها حامل أكثر من سنة، وهذا دليل على أنها حبلت من جني، وليس من إنسي.
وعندئذٍ اقتنع القاضي غالب بأنها حملت من جني، وحكم عليها بالجلد مِئة جلدة.
لكن وكيل الشريعة احتج، وقال للحاكم:
-"كيف هذا -يا قاضي غالب- تحكم عليها بالجلد، وهي زنت مع جني، وحبلت منه!!".
وقال: "إن فتاة مثلها تمارس الفاحشة مع الجن يجب أن يُحكم عليها بالقتل، وليس بالجلد".
قال له القاضي غالب:
- "شريعة ربنا -يا حمود- نطبقها على الإنس وعلى الجن، ولا نفرق بين من زنت مع إنسي ومن زنت مع جني".
وعندما رأى وكيل الشريعة، حمود السلتوم، أن القاضي حكم بجلدها بدلا من أن يحكم بقتلها منح صُرَيْمْ الجلاد خمسة ريالات فضية مكافأة له مقابل أن يجهز عليها، ويجلدها جلدا لا تقوم بعده.
كانت الحدود تقام كل خميس؛ والسبب هو أن يوم الخميس يوم السوق، وكان المحكوم عليهم بالإعدام، أو بالجلد يُقتادُون من الحبس إلى ساحة المحكمة لقطع رؤوسهم أو لجلدهم، وقبل تنفيذ الحكم كان منادي الحكومة، واسمه مِعْصَار، يدور صباح كل خميس في السوق، ويعلن الخبر. وحتى يشهد جلد البنت قَرطَلة طائفة من المؤمنين، راح المنادي ينادي بكل صوته، ويقول إنه "في الساعة الحادية عشرة ظهرا سوف يقوم صُرَيْم الجلاد بتنفيذ العقوبة الشرعية على البنت قَرطَلة"، وطلب من الحاضرين أن ينقلوا الخبر للغائبين.
وبعد أن ذكر أنها زَنَت مع جني، وحَمَلت منه، راح الكل يتحمّس لحضور حفلة جلدها، وكان الحاضر يبلغ الغائب، والذي سمع يبلغ الذي لم يسمع.
ويومها، وقد تناهى خبر جلد قَرطَلة إلى أسماع "شمس الحكومة"، زوجة الحاكم، راحت تسأل زوجها، وتقول له:
- "موذا الخبر اللي أسمعه -يا قاضي؟!".
قال لها القاضي غالب:
- "ما هو الخبر -يا شمس؟".
قالت له شمس الحكومة إن المنادي معصار يطوف في السوق من الصباح الباكر، ويعلن خبر جلد فتاة اسمها قَرطَلة؛ حبلت من جني، وسألته عمن تكون قَرطَلة هذه التي حملت من جني؟!
وبعد أن راح القاضي غالب يحكي لها عن البنت قَرطَلة، التي ارتبكت الفاحشة مع جني، صرخت في وجهه، وقالت له:
-" قلتُ لك -يا قاضي- وحذرتوك لا تحكمش بجلد الزانيات، وإذا نفسك تجلد زانية إجلدني أني شمس الحكومة، اللي زنيتُ مع الكدومة".
قال لها القاضي غالب، وقد أفزعه كلامها، إنه توقف عن الحكم بجلدهن، لكن الأمر يختلف مع قَرطَلة؛ لأنها زنت مع جني.
قالت له شمس الحكومة -بنبرة محتدّة:
- "زنت مع جني وإلا مع إنسي، الحكم لي أني مش لك".
واردفت قائلة له:
- "لو ماتت قَرطَلة وهي حامل شموت ابن الجني، ولو مات ابن الجني أبوه شنتقم من ابنك اللي ببطني".
- وراحت شمس الحكومة تذكّره بأنه عقيم، وأنه لو حدث للجنين الذي في بطنها أي مكروه فلن تجد من يعوضها ويحبلها ثانية. وكانت شمس الحكومة قد حملت من الولد الأهبل عبده الكدومة، الذي عاد إلى قريته بعد موت أبيه قاسم الأهبل في الحبس. وتلك حكاية لوحدها، وسوف نأتي على ذكرها لاحقا.
لكن الجدير بذكره الآن هو أن القاضي غالب خاف بعد كلام "شمس الحكومة"، ولخوفه من انتقام الجني الأب، ومن ردود فعل الجن، أوقف الحكم بالجلد، وراح يسأل زوجته عما يجب عليه فعله، وقال لها:
- وكيف ذلحين -يا شمس- ما هو اللي أقوله لوكيل الشريعة؟!".
قالت له شمس الحكومة:
- "قل له ما دام قَرطَلة حبلت من جني، لا بُد ما يكون الشهود من الجن".
وارتاح القاضي غالب لفكرتها:
وفي الساعة الحادية عشرة كانت ساحة المحكمة تغص بالمتفرجين، الذين حضروا للفُرْجَة، لكنهم وقد لاحظوا أن حفلة الجلد تأخرت عن موعدها، راحوا يحتجون ويصخبون، ويصرخون ويقولون:
- "هيا، أين هي الزانية اللي حبلت من جني، ليش ما تجلدوها، وإلاَّ خايفين من الجن؟!!".
وكان بعضهم قد ترك بضاعته وسط السوق، وجاء ليشهد حفلة الجلد، وعندما قيل لهم إن القاضي غالب رجع عن حكمه، زعلوا وغضبوا، وقالوا بأنه جبان يستقوي فقط على الإنس، ويخاف من الجن، وكان وكيل الشريعة أكثر زعلا منهم، ولم يعد بمقدوره بعد أن رجع الحاكم عن حكمه أن يسترجع ريالاته الخمسة من الجلاد صُرَيْم.
ومن شدة زعله، دخل على القاضي غالب، وراح يسأله عن السبب في تراجعه عن حكمه!
- "ما هو هذا يا قاضي غالب، حكمت بجلد قَرطَلة مئة جلدة، وبعدا أبطلت الحكم من دون ما نعرف السبب".
قال له القاضي غالب: "مادام قَرطَلة -يا حمود- زَنَت مع جني لا بُد ما يكون الشهود من الجن".
قال له وكيل الشريعة، حمود السلتوم:
- "وشهادتي يا قاضي؟!!".
قال له: "أنت إنسي -يا حمود- ولا تجوز شهادتك".
وراح وكيل الشريعة يحتج، ويقول للقاضي غالب، وهو متألم منه:
- "الإنس -يا قاضي- أفضل عند الله من الجن بألف مرة، وشهادة الإنسي بألف شهادة من شهادات الجن".
وزاد فقال له:
- "الاعتراف سيد الأدلة، وقَرطَلة اعترفت أمامك وأمام الجميع بأنها حملت من جني".
لكن القاضي غالب قال له: "إن قَرطَلة امرأة حتى لو هي اعترفت، وشهدت على نفسها، فإن اعترافها باطل، وشهادتها باطلة".
وعندها أدرك وكيل الشريعة أن "شمس الحكومة"، التي حبلت من الولد الأهبل (عبده الكدومة)، ابن قريته هي التي ضغطت عليه، وجعلته يتراجع عن حكمه، ولشدة زعله من شمس الحكومة، وكذا لخوفه من زوجته -إن هو عاد بصحبة قَرطَلة- عاد إلى القرية بدونها.
وعندما سألته امها أُلُوف عنها قال لها:
- "قَرطَلة شلُّوها الجن".
وراحت أُلُوف تبكي، وتُعْوِلُ وتُوَلْوِلُ في سقف بيتها، وتشكو حمود السلتوم لصاحبه الفقيه سعيد، وللعاقل بجاش، ولأهل القرية، لكن وكيل الشريعة قال لهم بعد أن سألوه عن قَرطَلة، وعن سبب عودته بدونها، إن جنيا وجنية اعترضاهما عند "هيجة النسور"، وهما عائدان من بيت الحكومة، وقال إن الجني، الذي كان بصورة شاب، قال له وهو يقف في طريقه:
- "هذي البنت اللي معك -يا حمود- مرتي، والولد اللي ببطنها ابني".
وقالت له الجنية، التي كانت بصورة عجوز، وهي تشير إلى بطن قَرطَلة:
-"الجني اللي ببطن قَرطَلة -يا حمود- ابننا، واني جدته".
واردف وكيل الشريعة قائلا لأهل القرية إن الجنية العجوز مسكت بيد قَرطَلة، وقالت لها:
- "هيا -يا قَرطَلة- يا بنتي".
وبحسب روايته، فإن قَرطَلة خذلته، ومشت خلف الجنية العجوز، وأنه عندما صرخ في وجهها، وقال لها:
- "حرام عليك -يا قَرطَلة- تسيبي أمك، وتسيبي قريتك، وأهلك، وتروحي مع الجن".
قالت له: "الجني زوجي -يا حمود- وأب ابني، والجنية عمتي وجدة ابني".
ولحظتها راح أهل القرية يلعنون قَرطَلة، التي فضَّلت زوجها الجني على امها وأهلها وقريتها.
وقال الفقيه -مخاطبا أم قَرطَلة:
-"حمود -يا أُلُوف- عمل اللي عَلَوْه، وما قصَّر، لكن الغلط من قَرطَلة بنتك".
ويومها صدق أهل القرية رواية وكيل الشريعة باستثناء فازعة والعاقل بجاش، والكافرة شُجُون ناشر، وهند زوجة الفقيه.
وأما امها أُلُوف فبعد أن سمعت رواية وكيل الشريعة انفجرت تبكي قهرا من بنتها، التي فضَّلت الجني عليها، وراحت تلعنها، وتدعو عليها، لكنها هذه المرّة وقد أخذوها الجن، راحت تبتهل إلى السماء، وتدعو الله، والدموع تغسل وجهها، أن يميتها، ويحشرها في نار جهنم.
وفيما هي تدعو على قَرطَلة، قالت لها فازعة:
"حمود قتل بنتك -يا أُلُوف".
لكن أُلُوف، التي كانت قد صدقت رواية وكيل الشريعة، لم تصدقها، وراحت تواصل دعواتها على قَرطَلة.
قالت لها هند زوجة الفقيه سعيد:
-"يا أُلُوف، خلّي النزيلة غُيُوم تنزل للدنيا السفلى تعاين".
وكان رأي هند هو أن النزيلة "المُسَفِّلة" هي التي تستطيع أن تأتي بالخبر اليقين، وهي التي بمقدورها أن تؤكد صحة أو كذب الرواية التي رواها وكيل الشريعة.
وقالت لها إنها – أي المُسَفّلة غُيوم - "إن لم تجد قرطلة في العالم السُّفلي، فمعنى ذلك أنها ذهبت مع الجني، وأن كلام وكيل الشريعة صحيح، أما إن كانت روحها قد وصلت إلى العالم السُّفلي فذلك يعني أنه قتلها، وأن كلام فازعة صحيح".
لكن أُلُوف، وبسبب خوفها من وكيل الشريعة، رفضت تكليف المُسَفِّلة غُيوم عَالِم بالهبوط إلى العالم السُّفلي، وبعد رفضها ظلت قضية قَرطَلة معلَّقة، ولا أحد يدري ما هو مصيرها، هل قتلها وكيل الشريعة، وتخلَّص منها، أم أنها ذهبت مع زوجها الجني ومع أمه الجنية؟!
وذات يوم، وبعد مرور شهر على اختفاء قَرطَلة، وفيما كان مصباح الراعي يرعي الغنم قريبا من هيجة النسور، اختفت واحدة من أغنامه، ونزل يبحث عنها، وهناك في اسفل الهاوية، وفي مكان لا تصل إليه الشمس، أبصر هيكلا عظميا، وبجانبه ملابس فتاة لم تزل كما هي، وتبين له وهو يفحصها أنها نفس الملابس التي لبستها قَرطَلة يوم ذهابها إلى الحكومة.
وعند عودته، قال مصباح الراعي لأهل القرية، وهو يريهم سروال قَرطَلة، وزنَّتَها، ومَقْرمتها، والمَصَر الذي تَصِّرُّ به شعرها:
- "النسور تأكل اللحم وما تأكل الثياب".
لكن وكيل الشريعة المُجرم، وبحكم أنه صاحب القاضي غالب (حاكم حيفان)، فلت من العقاب، وقال الناس يومها:
- "وكيل الشريعة فوق الشريعة".