مقالات
حكاية العصَّادَة حَمَام ناشر (1-2)
كانت حَمَام ناشر أشهر عصَّادة في القرية، وكان الناس يتحدّثون عن عصيدتها ويمدحونها:
- "عصيد حَمَام ناشر عصيد من صِدق مش من جا عَصد، ومن جَتْ عصَدت".
وكثيرا ما كان الرجال يعيِّرون زوجاتهم، ويقولون لهن:
-"مُوْذي العصيد حقكن!! رُوْحَيْن عند حَمَام ناشر تعلمكن كيف تعصِدَيْن!!".
وكانت زوجاتهم يزعلن منهم ويغضبن، ويقلن لهم:
-"روحوا انتم عند حَمَام ناشر تعصد لكم، وخلَّوْ عصيدنا لنا".
وكان بعضهم يمتنع عن الأكل ليُشعِر زوجته بأن عصيدتها لا شمَّ لها ولا طعم. والبعض -من شدة غضبه- يشتم ويصرخ ويلعن، وأحيانا يلطم زوجته، لكن عبد المنان كان شخصا انفعاليا وعصبيا، وبلهجة أهل القرية "حَرِقْ"، وكان رد فعله مختلفا، وغير متوقع، حتى إن أهل القرية تفاجأوا برد فعله.
يومها كان عائدا من الحول (الحقل)، وكانت زوجته سبُولة تعصد في الصُّعْدْ (المطبخ)، وحين انتهت من تجهيز العصيدة أخذتها إلى غرفة الاستقبال، ووضعتها بجانبه، لكن عبد المنان بدلا من أن يقول بسم الله، ويمد يده، ويأكل، قال لها:
-"مو من عصيد هذي يا مرة!! روحي عند حَمَام ناشر تعلمك كيف تعصدي".
قالت له سَبُولَة بحنق، وهي تسحب من أمامه دست العصيدة:
-"خلِّي عصيدي لي -يا عبد المنّان- وانت روح عند حَمَام ناشر تعصد لك".
وعندها انتفض عبد المنان من الغضب، وانتزع العصيدة من أمامها، وهي ساخنة، وراح يصبها فوق رأسها، ومن رأسها سالت العصيدة إلى وجهها ورقبتها، وأخذت شكل القِناع، لكنه قناع حار سَمَط لها الوجه والرقبة. ولم يكتفِ عبد المنان بأنْ سمطها بالعصيدة، وإنما تمادى في غضبه وسخطه، وقال لها:
-"انت الطالق يا سَبُولَة".
ويومها عادت سبُولة إلى بيت أهلها بوجه محروق، وبرقبة محروقة، لكن نساء القرية بدلا من أن يلقين باللوم على زوجها عبد المنان رحن يلقين باللوم على حَمَام ناشر، ويقلن إنها السبب في طلاق واحتراق وجه ورقبة سبولة. ومن حينها اشتدت كراهية النساء لها، ورحن يتهمنها بأنها السبب في معارك العصيدة، التي ما تنفك تنشب بينهن وبين أزواجهن.
وبعد أن طلق عبد المنّان زوجته سبولة، توجّست الأمهات خوفاً، ولشدة خوفهن على بناتهن من غضب أزواجهن رحن يطلبن منهن أن يتعلمن كيف يعصدن لأزواجهن عصيدة ترضيهم، وتنال إعجابهم.
وكانت الأم إذا أبصرت ابنتها ترفض التعلّم تقول لها إنه لا أحد سيتقدم لخطبتها إن هي لم تتعلم صناعة العصيدة على الوجه الصحيح، وبالطريقة الصحيحة.
وتضيف قائلة لها إنه إن حالفها الحظ، وتزوجها أحدهم، وهي تجهل ألف باء العصيدة، فقد يطلقها، ويفعل بها مثل ما فعل عبد المنان بزوجته سبولة.
أيامها كانت العصيدة أهم من الحب، ومن الجمال، وكان الولد إذا طلب من أمه أن تذهب وتخطب له بنتا يحبها أو بنتا اشتهرت بجمالها، لا تذهب إلا إذا كانت متأكدة أن البنت التي يحبها ابنها، ويرغب الزواج بها بنتٌ عصَّادة، تعرف كيف تعصد، وتجهز العصيدة، أما لو أن ابنها يرغب أن تخطبها له؛ لأنه يحبها أو لأنها جميلة، فكانت الأم ترفض، وتعترض، وتقول له:
"مو تشابِهْ وهي لا تعرف تعصد، ولا هي داري مو هي أركان العصيد!!".
وعند ما تزوّج عبده قاسم جُلجُلة بنت سيف القُنْبَلَة طلب منها أن تعصد ثاني يوم العرس ليطعم عصيدتها، لكن أمه حَوْقَلَة اعترضت، وقالت له:
"البنت عروسة يا عبده قاسم".
وكان ذلك تقليدا تعارف عليه أهل القرية، فالعروسة تُعدُّ ضيفة، ولا يُطلب منها أن تعصد إلا في اليوم الرابع.
وفي رابع أيام العُرس، وقد انتهت مدة ضيافتها، طلبت منها أمه حَوْقَلَة أن تعصد، وقالت لها:
"إعصدي -يا جُلجُلة- وخلي زوجك عبده قاسم يطعم عصيدك".
وعصدت جلجلة يومها، وكانت أمه حَوْقلة أول من طَعِمت عصيدتها، وبعد أن طعِمَتها وتذوقتها، امتعضت، وانزعجت، وأبدت استياءها.
وعندما أبصر عبده قاسم امتعاض أمه واستياءها من عصيدة زوجته، خرج يجري، وصَعَد الدَّرج المؤدي إلى السقف، ومن سقف بيته راح يصيح بكل صوته، ويقول لأهل القرية:
"ليش يزوجوا بناتهم وهن ما يعرفينش يعصدين، ولاهن داريات مُوْ هِيْ أركان العصيد!!".
وراح ينادي عمَّه سيف القنبلة، ويطلب منه أن يأتي ويأخذ بنته جُلجُلة:
"يا قنبلة تعال شل بنتك جُلجُلة".
وكانت النساء في سقوف بيوتهن مستغربات ومتعجبات ومذهولات، ومنتظرات ما الذي سوف يحدث، هل سيأتي سيف القنبلة لأخذ بنته جُلجُلة، وماذا لو لم يأتِ؟!!.
وفي سقف بيتها كانت أمه حَوْقلة تبكي، لكنها لم تكن تبكي تعاطفاً مع زوجة ابنها، وإنما تبكي تعاطفا مع ابنها الذي دفع مهرا لبنت غبية وأمية لا تعرف ألف باء العصيد.
ومن شدة ما كانت متألمة، قالت لنساء القرية، وهي تواصل البكاء في سطح بيتها:
"زادوا على ابني، زوَّجُومُو بنت ما تعرفش تعصد".
ومن سطوح بيوتهن، كانت النساء يغلّطنها، ويقلن لها:
-"الغلط منك يا حوقلة كيف تروحي تخطبي جلجلة لابنك وهي ما تعرفش تعصد!!".
وصاحت حَوْقلة: "مو درَّاني -يا نسوان- الغلط مش هو مني، الغلط من امها زكيّة".
وقالت لهن إنها ذهبت تخطب جُلجُلة لابنها عبده قاسم ظناً منها بأنها عصَّادة، وأن أمها علمتها، ولم تكن تعلم بأن أمها زكية سوف تغشها وتكذب عليها، وتزوج بنتها لابنها، وهي لا تفقه شيئا في علم العصيد، ولا تعرف حتى كيف تمسك ب"المَخْدَشْ" (المعصد).
ومن سطح بيتها قالت لها لُوْلْ شاهر:
-"ياحوقلة أني فدا لك خلاص اللي وِقِع وِقِع، إرحمي البنت".
لكن حوقلة قالت إنها لن تسكت إن لم يأتوا ليأخذوا بنتهم، ويردوا لابنها المهر:
"والله ما اسكت لهم يالُوْلْ إلا بعد ما يجو يشلُّوا بنتهم، ويرجِّعوا لابني خسارته".
وبعد كلام أمّه صاح عبده قاسم قائلا بأعلى صوته:
-"لهم مهلة للمغرب، ولو ماجاش سيف القنبلة يشل بنته جُلجُلة والله لا أطلقها".
وبعد أن راح عبده قاسم يهدد بالطلاق، خرجت جُلجُلة من مخبئها، وجثت عند قدمي زوجها، وقالت له وهي تبكي بكل صوتها، وتقبِّل قدميه:
"أني فدا لك يا عبده قاسم لا تطلقنيش، والعصيد شاعصد لك عصيد أحسن من حق اليوم، واخدمك واخدم أمك حَوقَلة".
قال لها عبد قاسم: "كيف شتعصدي لي وانتي ما تعرفيش كم أركان العصيد"!!.
قالت له وهي تواصل البكاء: "شاروح عند حَمَام ناشر تعلمني أركان العصيد".
ومن سقف بيتها، قالت له العصَّادة حمام ناشر:
"أني شاعلمها يا عبده قاسم، ولا عَلَوْكْ".
وعندها سكت عبده قاسم، وقال لها:
"خلاص يا جلجلة ما دام حمام ناشر با تعلمك أركان العصيد اجلسي، لكن أبوك والله ما أسامحه".
وغضبت أمه حَوقَلة، وقالت له:
"لو أنت ابني يا عبده قاسم طلق جلجلة، ولو ما طلقتهاش اليوم لا اعرفك ولا تعرفني، لا اني أمك ولا أنت ابني".
ومن سقف بيتها، راحت حوقلة تصب جام غضبها على سيف القنبلة، وزوجته زكِيِّة، وتتهمهما بأنهما غشا ابنها عبده قاسم، وزوّجاه ابنتهما جلجلة وهي لا نعرف ألف باء العصيد.
ولشدة ما كانت متألمة منهما، صرخت في وجه ابنها، وقالت له:
-"طلق جلجلة -يا عبده قاسم- اسمع كلامي أني امك".
وصاحت جلجلة، وقالت له وهي تُقَّبّل قدميه وتبكي بصوتٍ مريع:
- "سألتك بالله يا عبده قاسم لا تطلقنيش.. حرام تطلقني، أني أحبك".
وبعد أن سمع عبده قاسم زوجته جلجلة تقول له إنها تحبه فرح وانتعش، وشعر بأن الحب أهم من العصيد، وقال لها:
"وأنا أحبك -يا جلجلة- والحب عندي أهم من العصيد".
وفرحت جلجلة بكلامه، وجثت تقبل قدميه، وتقول له:
- "والله يا عبده قاسم لا أعصد لك عصيد ما قاوقعتش".
لكن أمه حين سمعته يقول إن الحب أهم من العصيد، ثارت ثائرتها، وراحت تهدد، وتقول له:
"والله -يا عبده قاسم- لو ما تطلقش جلجلة لا اتعرْطَطْ، واخرج عرطوط".
ولحظتها خاف عبده قاسم من تهديد أمه، ومن قولها إنها سوف تتعرَّى، وتخرج عارية.
ولشدة خوفه من أن تفعلها قال لزوجته جلجلة: "أنت الطالق يا جلجلة".
وجرت جلجلة وهبطت الدرج تجري، وخرجت من بيت العُرس، وهي تُعْوِلُ وتُوَلْوِلُ وتبكي، وبعد خروجها بكى عبده قاسم، واستغربت أمه حين رأته يبكي. وقالت تسأله:
- لمو تبكي يا عبده قاسم؟!".
قال لها: "أحبها يمّا".
قالت له أمه، وهي مستغربة ومتعجبة من رده:
"تحب جلجلة -يا عبده قاسم- وهي ما تعرفش تعصد، والله إنك قليل عقل".
وراحت توبخه، وتقول له إن الرجل لا يبكي على امراة، وإنما المرأة هي التي تبكي، وطلبت منه أن يذهب في الصباح إلى بيت عمه سيف القنبلة، ويسترجع منه المهر:
"بَكِّر الصبح وروح لاعند عمك سيف القُنْبُلة، وقل له يرجع لك المهر، واني أزوجك بنت تعصد لك عصيد أحسن من عصيد حَمَام ناشر".
وكان ابنها عبده قاسم خفيف عقل، وبلا شخصية، ومثلما يقولون "ابن أمه".
وقد ظن أن أمه تتكلم عن خبرة ومعرفة بالأعراف والتقاليد، وأن المهر يرجع برجوع الزوجة إلى بيت أهلها.
وفي صباح اليوم التالي، ذهب إلى بيت عمه ليسترجع المهر، لكن عمه سيف القنبلة انفجر فوقه، وقال له:
"كيف تشانا ارجع لك المهر، يا عبده قاسم، وانت قا فقَعْت بنتي مو تحسبنا أهبل"!!.
ومن بيت عمّه سيف القنبلة عاد عبده قاسم وهو زعلان، لكنه لم يكن زعلانا من عمه، وإنما كان زعلانا من أمه، ومن نفسه؛ لأنه صدقها، وطلق زوجته التي تحبه ويحبها.
وسألته أمه عند عودته عمّا فعله مع عمه، وهل رد له المهر؟!
قال لها عبده قاسم، وهو يكاد يجهش بالبكا ء، إن عمه رفض أن يعيد له المهر، وقال لها:
"قال مو هو اهبل يرجِّع لي المهر وقا فَقَعتُو بنته".
وغضبت حوقلة من كلام سيف القنبلة، وراحت تصيح، وتقول:
-"جلجلة بنت مش هي زُمِّيْطَة (بالون)، ويحمد الله القنبلة أنك فقعت بنته".
وكان معنى كلامها هو أن البنت عندما تُفتَضُّ بكارتها تصير امرأة، وتزداد قيمتها، وبدت زعلانة، وغاضبة من ابنها عبده قاسم؛ لأنه فض بكارة زوجته، وطعَّمها الحُلو، وجعل منها امرأة، فيما هي طعمته عصيدة لا شم لها ولا طعم، وقالت له:
- "أنت طعَّمت بنته الحالي وهِيْ طعَّمتك المر".
لكنها عندما لاحظت أن ابنها عبده قاسم متألم وزعلان منها، وليس من عمه، قالت له تواسيه:
"ولا علوك -يا عبده قاسم- والله لا أبيع البُقْرِي واخطب لك حُورِيَة بنت ناجي شُعلان".
وراحت أمه تحدثه عن حُورِيَة وعن عصيدتها، وعن نهديها الكبيرين، وتقول له إنها عندما تلد وتنجب له سوف يتدفق من ثدييها لبن غزير أغزر من لبن بقرة فازعة، وسيكون بمقدورها أن ترضع طفله، وكل أطفال القرية.
ولحظتها صاح عبده قاسم بكل صوته، وقال لها إنه يريد منها أن تخطب له بنتا، وليس بقرة:
"يما أنا أشتي تخطبي لي بنت مش تخطبي لي بُقْرِي".
وتفاجأت أمه من ردة فعله، وقالت له:
"ناهي -يا عبده قاسم- أنت بس قل لي مني البنت اللي تعجبك واني أخطب لك هي".
قال لها :
- "اخطبي لي العصَّادة حَمَام ناشر".
وما إن سمعته أمه حوقلة يطلب منها أن تخطب له العصَّادة حَمَام ناشر حتى شعرت بالرعب، وقالت له:
- "تشاني اخطب لك حَمَام ناشر.. انت بعقلك يا عبده قاسم، والا تجنّنت!!".
قال لها: "يمَّا حَمَام ناشر عصّادة، عصيدها أحسن من عصيد حُورِيَة، وأحسن من عصيد بنات الحور بالجنة".
قالت له أمه حَوقلة بنبرة محتدّة:
"مو قدّرك لها -يا عبده قاسم- حَمَام ناشر أكبر منك، وأرمل، ومعِهْ سبع شهوات".
قال لها عبده قاسم: "معه سبع شهوات والا سبعين شهوة، اخطبي لي هي".
وعند ما رأت ابنها يصر على حَمَام ناشر، راحت تخوفه منها وتقول له:
"حَمَام ناشر منشار، شتنشرك بسبع سنين، مثلما نشرت رشاد نعمان".
ولم تكن حوقلة وحدها التي تقول عنها ذلك، ولكن غالبية نساء القرية كن يقلن عنها:
"حَمَام ناشر منشار".
وكان قد شاع بين نساء القرية بأنها امرأة شبقة وشهوانية ونهمة للجماع، وأشبه ما تكون بمنشار جنسي، وكن يتهمنها بأنها تسببت بموت زوجها رشاد نعمان، وكانت السبب في تسريع وتعجيل موته، وكان موت زوجها رشاد نعمان وهو في ذروة شبابه، وبعد مرور سبع سنوات على زواجه، قد فاقم من كراهيتهن لها، وكن كلما جئن على ذكرها يرفعن أكفهن إلى السماء، ويدعين عليها:
"ربي يعجِّل بايامك -يا حَمَام ناشر- مثلما عجَّلتِ بموت زوجك رشاد نعمان".
ومن بين نساء القرية، كانت مَلاك زوجة العاقل بجاش امرأة في منتهى الطيبة، ومن طيبتها كانت تستقبل العصَّادة حَمَام ناشر في بيتها، وتفرح بمقدمها، وتقدم لها القهوة والحلوى، وكانت النساء يخوفنها منها، لكنها لم تكن تخافها، وإنما كانت تخاف من العاقل بجاش زوجها؛ ذلك لأن العاقل بجاش كان رجلا مِزواجا مِطلاقا وجاهزا للزواج من أي امرأة مطلقة كانت أو أرملة.
وكانت مَلاك تشعر كلّما حضرت حَمَام ناشر إلى بيتها بأن زوجها العاقل بجاش يفقد عقله بحضورها، وكان أكثر ما يزعجها ويؤلمها هو أنه في الأيام التي تتأخر فيها عن تجهيز العصيد يصعد إلى السقف، ويصيح بكل صوته:
"يا حَمَام ناشر .. يا حَمَام ناشر".
وحين تجيبه العصَّادة حَمَام ناشر من سقف بيتها، يسألها العاقل عن أركان العصيد:
"قولي لي -يا حَمَام- كم أركان العصيد"؟!.
وكانت زوجته مَلاك تعرف قصده من سؤال حَمَام ناشر عن أركان العصيد؛ ذلك لأن حَمَام ناشر كانت تعتبر السرعة ركنا من أركان العصيد، وكان ما يميّز حَمَام ناشر عن غيرها من العصَّادات بالإضافة إلى جودة عصيدتها هو قدرتها على إنجاز وتجهيز العصيدة بسرعة شديدة، وفي أقل وقت.
والسبب في ذلك يرجع إلى مَخْدَشها (مِعصَدها)، الذي تعصد به.
كان لها مَخْدَش (مِعصَد) قوي ومنحوت اقتطعته من شجرٍ خاص ينبت في أسفل الوادي، ونحتته بنفسها، وشكلته بسكينها، وبطريقة تمكنها من أن تعصد بيسر شديد، وبسرعة شديدة.
وكان رجال القرية لا يمتدحونها لكونها تعصد عصيدة رائعة فقط، وإنما لأنها بالإضافة إلى عصيدتها الرائعة والخالية من العيوب كانت تعصد بسرعة فائقة، وكان أولئك الذين يعودون من الحقول وهم في غاية الجوع يتضايقون وينزعجون من زوجاتهم إن هن أبطأن في تجهيز وتقديم العصيد.
وكثيرا ما كان ينشب خلاف شديد بينهم وبينهن، وكانوا يقولون لهن، وهم في حالة غضب:
"حَمَام ناشر مش بس تعرف تعصد لكنِّها تعصد بسرعة، انتن ما تجهِّزين عصيدكن إلا وقامتنا جوع".
وبسبب البطء في تجهيز العصيد طلق وكيل الشريعة حَمُود السلتوم زوجته ظبية بنت الحاج شعلان؛ كان قد عاد من الحكومة وبه جوع شديد، وأول ما دخل البيت أخبر زوجته ظبية بأن الجوع يفتك به، وطلب منها أن تسرع في تجهيز العصيد. ومن شدة جوعه استبطأها وخرج من الديوان، واتجه إلى المطبخ وهو زعلان، وأول ما دلف إلى المطبخ قال لها وهي تضع اللمسات الأخيرة على عصيدتها:
"لو كنتو تزوجتو حَمَام ناشر فا قا كمَّلتو اتغدي، وقدنا مخزن بديوان العاقل بجاش".
ومن شدة ما أوجعها كلامه، كرعت عصيدتها في "الصُّعْد"، وقالت له:
"هيا ذحِّين طلقني، وروح اتزوج حما م ناشر".
وما إن أيصر حَمُود السَّلتوم العصيدة معصودة بالجَمْر، والنَّار والرَّماد اشتعل من الغضب، ووثب فوقها مثل النمر، وراح يضربها، ويوسعها ضربا، وبعد أن أشبع غليله منها قال لها:
"أنت الطالق يا ظبية".
وحتى يوجعها أكثر راح ينادي أمه، ويطلب منها أن تذهب وتخطب له حَمَام ناشر.
وكان طلاق ظبية بنت الحاج شعلان قد وحَّد نساء القرية ضد حَمَام ناشر، ورحن يلقين باللوم عليها، ويقلن إنها سبب كل المصائب التي تحدث في القرية. وكان ما جعلهن يلقين باللوم عليها، هو أن حَمَام ناشر كانت ما تنفك تقول إن من واجب الزوجة أن تسرع في تجهيز وتقديم العصيد لزوجها.
وبالمقابل، فإن من واجب الزوج أن يبطئ في جماع زوجته بدلا من أن يسرع.
ولأن حَمَام ناشر كانت تضع السرعة في حسابها، وتعتبرها ركنا من أركان العصيد راحت نساء القرية يسخرن منها، ويتهكَّمن عليها، ويتهمنها بأنها سرّعت وعجّلت بموت زوجها رشاد نعمان، وكانت السبب في موته باكرا، لكن حَمَام ناشر كانت ترد على اتهامات نساء القرية، وتقول لهن لتبرئ نفسها:
"رشاد هو اللي عجَّل بموتُه".
كان رأيها هو أن البطء في الجماع فضيلة، والسرعة رذيلة، وكثيرا ما كانت تقول إن الرجل العجول والمستعجل في الجماع يموت سريعا، ويموت قبل زوجته، فيما الزوج الذي يبطئ ويجامع زوجته ببطء يتعمَّر ويموت بعد موتها.
وقالت تدافع عن نفسها إن رشاد زوجها كان عجولا ومستعجلا، وكان يجامعها بسرعة شديدة، وعلى عجل، وبحسب تعبيرها:
"رشاد -يا نسوان- كان يعاجل".
وكانت هي تضيق وتنزعج من سرعته وعجلته وقذفه السريع، وتصرخ فيه تعنِّفه، وتقول له:
"لمو تعاجل؟! ربي يعجِّل بايامك".
لكنها أمام اتهامات نساء القرية أنكرت أنها كانت تدعو الله أن يعجل بموته، وقالت إنها كانت تحبه، ومن حبها له كانت تنصحه أن يبطئ في الجماع، ويطوِّل معها حتى يطول عمره.
لكنه -بحسب قولها- كان يكرع ُدهْنَه قبلها، وقبل أن تبلغ نشوتها، وكان ذلك يؤلمها ويوجعها، وقالت إن معظم نساء القرية يعانين من أزواجهن مثلها، لكنهن لا يتجرَّأن أن يعترفن، والسبب أنهن خائفات من أزواجهن، أما هي فلأن زوجها ميت، ولأنهن يتهمنها بأنها السبب في تعجيل موته، قالت ذلك كيما تبرئ نفسها، لكن نساء القرية حتى عندما تقول صدقا وتصدُق في كلامها، لا يصدقنها، وإنما يصدقن أنفسهن، ويصدقن ما يقلنه عنها. وفي الوقت نفسه كان فتيان ورجال القرية يصدقون كلام أمهاتهم وقريباتهم بأن الاقتراب من حَمَام ناشر اقتراب من الموت.
وعندما طلب وكيل الشريعة حَمُود السَّلتوم من أمه أن تخطب له العصَّادة حَمَام ناشر صرخت فيه، وقالت له إنها مستعدة تذهب لتخطبها له إن كان يكره حياته، ويرغب بالموت.
وبعد كلام أمّه راقية، خاف وأحجم وتزوَّج بدلا منها تقوى بنت السيّد عبد القادر، وقال الناس يومها:
"وكيل الشريعة حَمُود السَّلتوم، الذي يخوِّف أهل القرية بالحكومة، خاف يتزوج حَمَام ناشر".
ولم يكن وكيل الشريعة وحده، الذي خاف وأحجم، وإنما كل أولئك الذين يتمنونها ويرغبون الزواج بها، كانوا يحجمون ويتراجعون بعد الذي يسمعونه عنها من أمهاتهم وقريباتهم، وكان لديهم يقين بأنهم لو تزوجوها سوف تلتهمهم بالشراهة نفسها التي التهمت بها زوجها رشاد نعمان، لكن الولد عبده قاسم ظل عند كلامه، ولم يتزحزح قيد أنملة عن رغبته في الزواج بها.
وكان كلما خوفته أمه حوقلة منها ازدادت رغبته بالزواج بها، وحتى يرغمها على أن تذهب إليها وتخطبها له، أقسم بأنه سوف ينتحر إن لم تخطبها له، وقال مهددا:
"والله لو ما تخطبي لي حَمَام ناشر لا ارجم بنفسي لا هيجَة المدَّارِيْن".
ولشدة خوفها من أن يفعلها ويلقي بنفسه في "هيجة المدارين"، ذهبت لتخطبها له رغم كراهيتها لها، وبالرغم من خوفها على ابنها منها، لكن حَمَام ناشر ردتها، ولم تقبل الزواج بابنها عبده قاسم، وقالت لها متهكمة:
"كيف تجي تخطبيني لابنك -يا حوقلة- واني معي سبع شهوات وشهوتي منشار".
وكانت حوقلة أكثر امرأة تُشهِّر بالعصَّادة حَمَام ناشر. كانت تجاهر بعداوتها لها، وتعلن عليها كراهيتها، وتتهمها أمام النسوان بأنها نهمة في الجماع لا تشبع ولا تقنع، وتقول عن شهوتها إنها سكين:
-"شهوة حَمَام ناشر سكين".
ومن بيت حَمَام ناشر خرجت حَوقلة وهي أكثر كراهية لها، وعندما عرف ابنها عبده قاسم بأن حَمَام ناشر رفضته، تألم واكتئب.
وبعد مرور أسبوع، أصبحت القرية على خبر مريع،
وهو أن عبده قاسم ابن حَوقلة ألقى بنفسه في "هيجة المدَّارين"، وكان خبر انتحاره بمثابة القشة التي قصمت
ظهر حَمَام ناشر.
ومن حينها، راح كل من يصادفها في طريقه يشيح بوجهه عنها، ويتحاشاها، وإن هي سلّمت لا أحد يرد السلام، ولو حدث أن طرقت بابا من أبواب بيوت القرية لا أحد يفتح لها باستثناء مَلاك زوجة العاقل بجَّاش.
- للعصَّادة حَمَام ناشر بقية..