مقالات

حياة السُفَّاري التي ملَّحتها الحكايات

22/10/2021, 08:08:36
المصدر : خاص

بقي اسم "السُفَّاري" ملازماً لأذني، منذ كنت طفلاً صغيراً بمعية والدي في دكان الحاج سعيد عمرو غالب بمركزي تعز في سبعينات القرن الماضي، كون الاسم ارتبط بعديد علامات تجارية رائدة في السوق هو صاحبها، حتى إن الأحاديث عن تجارة "محمد سعيد غالب السفاري" الكبيرة، منذ أيام عدن الزاهية، كانت تأتي في سياق حديث أبي وغيره من الأشخاص، الذين عايشوا تلك الفترة، عن رموز التجارة الكبار، مثل: أنتوني بِس، وهائل سعيد.

عملية الاستيلاء على الوكالات الخاصة بالرّجل بما فيها العلامة التجارية الشهيرة "مرسيدس"، التي بقى وكيلها منذ منتصف الستينات في عدن والحديدة وصنعاء من قِبل سلطة صالح، ومنحها لشاهر عبد الحق بطُرق غير قانونية، ووصول الشركة إلى الإفلاس ابتداءً من منتصف التسعينات، بعد موت الأب المؤسس كانت هي الأخرى جزءاً من السماع عندي عندما صرت شاباً.

كان حسين محمد سعيد السفاري هو الشخص البارز في واجهة هذا الوضع، بسبب حضوره في صُلب الحياة السياسية والثقافية، ومعروف في أوساط النُّخبة، باعتباره أحد الأسماء التي ارتبطت بعملية التحديث في يمن ما بعد سبتمبر 1962م،
كنت أراه في عديد من الفعاليات والأنشطة السياسية والثقافية الكبيرة طيلة عقد التسعينات وبداية الألفية، غير أن معرفتي الشخصية به كانت في العام 2002م، حينما تعيَّن مستشاراً لوزارة المغتربين، وكان له مكتب متواضع بالقرب من مكتب وزير المغتربين وقتها (عبده علي قباطي).

صادف وأن ذهبت إلى الوزارة لزيارة الصديق الراحل المثقف ابراهيم عبد الرشيد (وكيل الوزارة وقتها)، وكنت أحمل له نسخة من مجموعتي الأولى (تكييف الخطأ)، فاستحسن أن أهدي نسخة للوزير، وطلب منِّي مرافقته لمكتبه، فمررنا على حسين السفاري، الذي عرفني قبل أن يكمل إبراهيم التعريف بي، بفعل مصادفة قراءة اسمي ومشاهدة صُوري ملصقة بمقالاتي في صُحف تلك الفترة.

بعدها كنت ألتقيه في أوقات متباعدة في البنك اليمني للإنشاء والتعمير، ومن أحاديث عابرة كنت اكتشف ثقافة الرجل وذاكرته الحدِيدِية عن الأشخاص والمكان، وكان كثيراً ما يحدِّثني عن شخصيات أثَّرت حياته من أهل 'بني شيبة' - المنطقة التي انتمي إليها في حجرية تعز- وعلى رأسهم الأستاذ علي عبد الكريم سعد الشيباني، الذي درَّسه في مدرسة 'بازرعة' الخيرية بمدينة عدن مطلع خمسينات القرن الماضي.

حينما صُرت نائباً لمنصور هائل في جريدة 'التجمّع'، في العام 2007م، حمل إلينا ذات مرّة الكثير من الوثائق التي تخص مشكلة التّرِكة مع أخوانه فيما يتعلّق بشركة السفاري ووكالاتها المختلفة، وأحكام القضاء بشأنها، وبحكم معرفته اللصيقة بمنصور، الذي كان يُزامله في وزارة شؤون المغتربين، قام الأخير بنشر مقالين أو ثلاثة عن الحالة، استنفرت أخيه الأصغر (رشيد)، الذي جاء إلى مقر الصحيفة معاتباً، فكان لزاماً عليَّ استجلاء الأمر بشفافية من الطرفين، لاستيعاب رد الأخير حول ما نُشر، وكانت هذه الواقعة بداية معرفتي الحقيقية بحسين، التي امتدت حتى وفاته مساء الأحد 17 أكتوبر 2021م في صنعاء.

في واحدة من زياراتي للبنك اليمني في مقره بقلب ميدان 'التحرير'، لمتابعة موضوع خاص بالجريدة، وجدت بمكتبه الراحل الكبير (العميد) محمد علي الأكوع، الذي كانت تربطهما صداقة عميقة تمتد إلى منتصف خمسينات القرن الماضي، حينما كان الأخير مشرداً في مدينة عدن بُعيد حركة الجيش في تعز ضد الإمام أحمد في العام 1955م، فاقترح السفاري أن يقوم 'منتدى الجاوي' باستضافته في واحدة من فعاليات الأربعاء، التي كان ينظّمها المنتدى في مقرّه في بُرج النُّعمان بشارع 'هائل'، فنقلت المقترح لقيادة المنتدى، التي وافقت على تخصيص يومٍ في البرنامج للفعالية، التي تمّت بحضور عدد كبير من روّاد المنتدى  ومنتسبيه، وكالعادة أثار العميد الكثير من الجدل بشأن العديد من محطات الحركة الوطنية، والاتحاد اليمني، وثورة سبتمبر.

وفي كل لقاء عابر، كان السفاري يأسِرني بأحاديثه عن ملازمته عديدا من رموز الحركة الوطنية، وعلى رأس الجميع الأستاذ النعمان وولده محمد، الذي كان تأثيره على حسين بليغاً.
وكان يُكثر الحديث عن مدينة عدن بشوارعها وأحيائها ورموزها ومعالمها بشغف عاشق دنفٍ.

وتمضي الأيام سريعاً، وحين شرعت بكتابة بعضٍ من ذكريات الصِّبا عن مدينة تعز، كان يتّصل بي ويسترجع معي كثيراً من التفاصيل التي عاشها وهو بالعمر ذاته في دكان والده في ممر 'العَطّارين' بالقرب من مسجد 'أبان' في مدينة عدن (كريتر) منتصف أربعينات القرن الماضي. وبعد موت ولده عادل، منتصف 2020م، كتبت إليه بنوع من المُواساة  والإشارة إلى بعض من متاعبه الصِّحية، وذكرت قليلاً من سِيرته التي كان يروِي لي نِتفاً منها في تواصلنا، ولم أكن مخططا على الإطلاق أن المكتوب عن الرجل وسيرته سيتواصل إلى أكثر من عشرين حلقة، في صفحتي على "الفيس بوك"، وصحيفة "الشارع" الورقية، وستصير هذه الحلقات بصورِها التعبيرية، وصور الرجل في مراحل مختلفة من حياته، كتاباً سيروياً مطبوعاً عنوانه "حياةٌ تُملِّحُها الحكايات - حسين السفاري وأيامه"، فيه الكثير من التفاصيل التي تقرِّب تاريخ اليمن المُهمل من جوانبه (الثقافية والاجتماعية والاقتصادية).

هذا الكتاب كان حصيلة جهد أشهر عديدة "عملت فيها على تحرير سِيرة غنيّة لواحد من الشهود المعاصرين لحال اليمن منذ ثمانين عاماً؛ هو حسين محمد سعيد غالب السُفَّاري (حسين السُفَّاري)؛ أما اليمن، الذي أبصره الراوي، فهو ذلك المتعدد بجغرافيّته وثقافته ومذاهبه وناسه. اليمن بساحله، وسهله، وجبله. الفقير المتشظّي، والمتوحّد، والثائر والمستكين؛ المتخلّف والمغلق في أنحاء متعددة، والمنفتح في مساحة صغيرة، المحاصر بالجبال، والإمامة والعسكر، الذي راهن على الثورة والثوريين، لكنه لم يسلَم من المغامرين، والانتهازيين، والقتلة، وتجار الحروب.

 سيرة تغدو في تجليها السردي أشبه بلقطة سينمائية طويلة، تبحر في الزمن والمكان والوجوه بلا مُجمِّلات.

أما حماسي لكتابة هذه السيرة بتفاصيلها الدّقيقة، هو أن الراوي العليم فيها يسرُد كل ما علق بذاكراته المتوهجّة من أحداث بعفوية وتلقائية، ومن زاوية تعنيه لوحده، وأن زوايا النظر الأخرى للتفاصيل والأحداث  ذاتها تحمل -أيضاً- صوابيتها من وجهة النظر ذاتها؛ واقتصر دوري فيها على إعادة تحريرها بطريقة تزاوج بين المنصوص الحكائي بالمستدرك السردي، واضطرتني طبيعة الكتابة ذاتها إلى الغوص في التفاصيل الصغيرة لتدعيم هذا المنحى، حتى إن الراوي العليم في النّص يستعين بالنّص التاريخي، والمشافهات التي يقترحها المحرِّر، لسد نواقص حكائية يتطلبها المُسرود ذاته". كما قلت في مقدِّمة الكتاب.

مقالات

اغتصاب مدينة!

للمدينة ذاكرة لا تمحو ولا تُمحى؛ ذاكرة المكان والزمان والناس والأشياء والمشاعر والألسنة.

مقالات

الرؤية الرومانسية للمصير...!

"يبدو المجال واسعًا لدراسة الشعر الذي ارتبط بالمصير الإنساني، والتعرف على وجود رومانسيته باعتبار الموت أحياناً يكون ملاذاً آمناً أكثر من الحياة، وهو ما أثبتته الحروب والصراعات والأمراض اليوم، وكما قال المتنبي: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكُنَّ أمانيا".

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.