مقالات
ذاكرة لامعةٌ وصوت مصفَّى (1-2)
لطالما كان اسم عبد القادر الشيباني، حينما يحضر في أي من أحاديث من يعرفونه من رجال العائلة، يمثل وقعاً خاصاً عندي وعند غيري من الشبان، بوصفه مثقفا مشهورا في اليمن برمتها، واكتسب هذه الشهرة من كونه مذيعاً كبيرا، عرفت صوته إذاعات صنعاء وعدن وتعز في طيلة سنوات الستينات والسبعينات حين كانت البلاد تمر بمخاضات عسيرة، وإن والدي، الذي هو ابن خال له، حينما كان يتحدث عنه بعد كل سماع لصوته في إذاعة عدن منتصف السبعينات، كان بالضرورة يعيد التذكير بمواقف وحكايات جمعتهما في القرية وعدن حينما كانوا صغاراً.
بُعيد عودته من عدن مطلع الثمانينات شاهدته مع أحد أقربائنا، حينما كان يستعد للسفر إلى صنعاء، كان ودودا ومهيباً ورزيناً في آن، فتطابقت عندي صورته وصوته بالصورة ذاتها التي تشكلت بذهني من أحاديث الناس عنه.
وحينما انتقلت للإقامة في مدينة صنعاء في منتصف الثمانينات، سكنت لدى ابن خالتي، القانوني عبد الكريم عبد الرحمن، الذي هو ابن شقيق عبد القادر فكان يمر عليه من وقت لآخر فنجلس معه ونستمع إليه ولذكرياته الكثيرة والمدهشة عن الناس والمدن والأحداث.
بعد أربعين سنة من ذلك التاريخ لم تزل تلك الحكايات تلمع في ذاكرته الثمانينية، وتتقطر من أحاديثه صافية، تُشعر كل مستمع إليه أنها تخصه هو الآخر أيضاً. الحكايات معجونة بتاريخ اليمن خلال سبعة عقود وأزيد قليلاً؛ فأيام الطفولة في القرية تشير إلى بؤس تلك الأيام وشقائها، والزمن العدني محاولة للإمساك بالصورة المدهشة لمدينة أرادتها السلطات البريطانية أن تكون مركزا جاذباً لخدمة مصالحها الاستعمارية في المنطقة الحيوية ومستوطن هجرة للريفيين القادمين من قرى اليمن المعزولة لبنائها، وبوابة للعمالة الرخيصة التي تغادر ميناءها للعمل في البر والبحر، وفي الدول القريبة والبعيدة؛ أما أيام جدة فهي إعادة إيقاف الزمن حينما كانت تتشكل على أيدي اليمنيين.
جاء صنعاء بعد ايام قلائل من انفجارها الثوري في سبتمبر 1962، فكان شاهداً قريبا على أحداثها المفصلية، قبل أن تسجنه لمرتين، ويغادرها لمرتين؛ الأولى للدراسة في دمشق، والثانية هروباً إلى جنة الاشتراكية الموعدة في عدن، ومنها إلى بلغاريا، قبل أن يعود من جديد إلى مدينة القلب صنعاء، وإلى إذاعتها، ثم إلى السياحة التي صار أحد خبرائها المرموقين، وخبيراً بالحرف والتراث الشعبي.
عرفت مدينة صنعاء بنخبها الثقافية والسياسية والاجتماعية عبد القادر الشيباني كواحد من رموزها الشعبية والعالم بتفاصيل الحياة فيها، وألفته الوجوه في شوارعها وأسواقها التي يجوبها على قدميه منذ عقود طويلة، فصار يكنى عند كثيرين بالمشاء.
في تطوافاتنا الكثيرة في المدينة القديمة والشوارع الجديدة دائما ما يدهشني بالذكريات التي تربطه بالمواضع ومن قطنها من الأحياء والأموات، وعلاقة كل ذلك بتاريخ المدينة، التي جاءها ولم يكن بها فندق أو مطعم بالمعنى الحديث، إلى جانب من مخزونه الهائل من المحفوظات الشعرية والنثرية والمقولات القديمة والحديثة، التي كثيراً ما يعرضها بصوته الإذاعي الفخيم وبلغة شائقة.
منذ سنوات، رغبت كثيراً في تدوين هذه الرحلة كجزء من اهتمام شخصي بمشروع ثقافي أساسه بناء ذاكرة شعبية متخلصة من الادعاءات والتزييف وصناعة الأبطال الورقيين.
(**)
لم يكن عبد القادر عبد الله سعيد (عبد القادر الشيباني) يعرف تماما تأريخ مولده، وكان يدونه، في العادة، بالعام 1941، غير أن الأستاذ سعيد علي الجرك (صاحب جريدة الصباح وابن عمة عبد القادر) صحَّح له التأريخ ، قبل سنوات قليلة، بالعام 1942، وربط "الجرك" ذلك بعودته الأولى من عدن حينما كان طفلاً في الثامنة، وقت زار عمته وهي في حالة وضع لطفلها الأخير، الذي اشترط والده قبل سفره إلى أسمرة أن يطلق عليه اسم عبد القادر.
يقول عبد القادر الشيباني أنه يتذكر من أيام طفولته في "وادي جنِّن" ببني شيبة الغرب الكثير من أشياء الطفولة، مثل الرعي وحراسة الحقول من القرود، واللعب في وادي القرية، و طأنه كان طفلاً شقياً، ومع مجموعة من أقرانه (محمد يحيى وسعيد سيف وعلي معمر) اعتادوا على مطاردة الحيوانات في سفوح الجبال المحيطة (الثعالب والأرانب)، واصطياد العصافير في الحقول، ولم تسلم منهم بيضات الدجاج، وأنهم جمعوا ذات مرة سبعين بيضة بطرق شتى، وحينما رأوا حمار بائع السليط (مروس) يتجول بمفرده دون صاحبه بمِخلَف القرية قرروا الحصول على القليل من سليط الجلجل (السمسم) لاستخدامه في قلي البيض.
يقول عبد القادر: "حينما لمعت الفكرة، قررت الذهاب إلى بيتنا وأخذ وعاء (مغرف) معدني، وعند وصولنا إلى جوار الحمار قمت بإخراج مسب السليط (جراب جلدي مغطى بإحكام) من الخُرج، وحين هممت بصبِّ السليط في الوعاء تحرك الحمار فانسكب السليط على الأرض، ففزعنا وهربنا ثلاثتنا، وحينما اقترب بائع السليط على أصوات النساء، ورأى الكمية المسفوحة في الأرض بدأ بالبكاء والصياح والتهديد بالذهاب إلى التربة، وتنفيذ عساكر العامل على أهلنا، وحينما سمعه أحد وجهاء القرية، واسمه عبده محمد الجندبي، تمت تسوية القضية بثلاثة ريالات فرنصية فضية (ماري تريزا)، أما نحن فانطلقنا باتجاه الجبل، ولم نهبط منه إلا بعد أن طمأننا الذين صعدوا للبحث عنا بأن الموضوع تم تسويته مع مروس، الذي كان يأتي إلى قرانا من مناطق الخبوت البعيدة (الوزاعية) لبيع بضاعته، وكان رجلاً كثير الكلام، وإن تركه لحماره وحيداً حينذاك كان بسبب انشغاله بحديث طويل مع أحد الأشخاص جوار القرية".
من الأشياء التي لم تغب عن ذاكرته، أصوات الطائرات، التي كانت تمر في سماء المنطقة، فتثير فيه الرعب، فيضطر إلى الاختباء إما في جرف إن كان في الوادي، أو حيد إن كان في الجبل، أو في سفل الدار إن كان في المنزل، يتذكر منها أيضا أثوابه العتيقة، ومنها جاكت ثقيل داكن عاد به والده ذات وقت من أسمرة، وكان يسميه "الكبّوت)("، الذي أغلقت والدته فتحاته برباط سميك (سوتلي)، حتى يستطيع لبسه إلى أسفل الركبتين.. قال إنه كان يملك ديكاً كبيراً بأعراف مذهَّبة يذهب معه أينما ذهب، ويستكين جواره إن وجده نائما، وكان يصيح حين يسمع أحداً يناديه، قبل أن يسمع صاحبه صوت المنادي.
( يتبع)