مقالات
رصانة الكلمة أم جودة اللحن؟!
ننفعل كثيرا عند سماع الكثير من الأغنيات، سواء كانت يمنية أو عربية قديمة أو جديدة، وعلى مستوى الوطن العربي كله..
ولكن لنتحدث هنا عن الغناء في اليمن تحديدا، حيث نجد الكثير من القصائد الغنائية عندما نقوم بتفكيكها إلى نصوص شعرية، نكتشف أنها نصوص عادية جدا، بل وأقل من العادية، ولكن اللحن يمنحها دفقة شعورية عارمة إضافة إلى صوت المطرب المفعم بالأحاسيس الفياضة.
وإذا قمنا بكتابة بحث حول هذا الموضوع، سنجد أنفسنا أمام مادة غزيرة قد لا يستوعبها إلا كتاب كبير، وسيكون علينا نسف أكبر مادة شِعرية في تاريخ الشعر الغنائي اليمني، وفي تاريخ الغناء.
ولا شك أن الكثير من شعراء الأغنية في اليمن هم شعراء شعبيون، وهي اللغة الأقرب إلى أحاسيس الناس جميعا، وخاصة الطبقة الشعبية التي لم تتلق تعليما، أو معرفة بالتجارب الشعرية والشعورية، التي يقوم عليها الشعر العربي بطبيعة الحال.
وفي مقدمة هولاء الشعراء الشعبيين هو حسين المحضار، الذي ساعده -كملحن- التنويع اللحني لكلماته، ووجد بالقرب منه مطرب بحجم أبو بكر سالم بلفقيه.
فيما يخص الشاعر عباس الديلمي، وتجربته مع السنيدار، نلمح بساطة أكثر القصائد الغنائية التي كتبها عباس، ونستطيع أن نقول عنها إنها أكثر من عادية، لكن نشوة اللحن الصنعاني، الذي منح تلك النصوص الحياة، واحتراق السنيدار في محراب الغناء الصنعاني، وصوته المميز لهذا النوع من الغناء، وهب قصائد عباس ومنحها الحياة، أما نصوصه الشعرية، التي يمكن أن نلحقها بالشعر، فهي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
وعندما نقارن عباس الديلمي بعباس المطاع، أو مطهر الإرياني، الذي شغلته النقوش واللغات اليمنية القديمة عن الشعر كدراسة مقارنة، نجد عباس المطاع ومطهر الإرياني يتفوقان إلى حد كبير على عباس الديلمي.
حتى إن ملحمة "خيلت براقا لمع" هي مجموعة نصوص وأبيات من هنا وهناك، لطشها عباس من تاريخ الزوامل القبلية العريقة، وأعاد صياغتها بطريقة أقرب إلى "التناص"، الذي هو اسم الدلع للسرقات الشعرية، حسب النقاد القدماء.
طبعا، كان الشعراء في اليمن يتسابقون لكتابة ما يسمى بالشعر الغنائي، وخاصة إذا ما وجدوا مطربا يمتلك حنجرة ذهبية، ليرفعوا من مكانتهم الشعرية.
أما الشعر الحميني لا خلاف عليه أنه من عيون الشعر الغنائي، ولولاه لكان التراث الفني اليمني قد اندثر؛ الشعر الغنائي الرفيع هو حاضنة الألحان، عبر الأزمنة العربية كلها منذ نشأة الغناء في نجد والحجاز، وخاصة المدينة ومكة.
لا شك أن العصر الذهبي لغناء أبو بكر هو عصر عدن الذهبي، ولكن بعد رحيله إلى دول الخليخ تحولت ألحانه وكلماته إلى مسخ مشوه ما عدا القليل؛ لأنه انتقل من بيئة فنية إلى "بئر نفط".
طبعا التجربة القمندانية، وفضل اللحجي، وعبدالله هادي سبيت، هي تجربة محل نظر، وليست كلها بالتجرية الخالدة، وإنما لكل تجربة مميزاتها ومثالبها الكثيرة.
بقي هنا الإشارة إلى افتقار اليمن في الوقت الراهن إلى مواهب شاعرة، وإلى مواهب فنية، أي على مستوى الكلمة واللحن، وكذلك الصوت.
فكل من نسمع منهم هم عبارة عن أصوات ومقلدين، لم يمتلكون الموهبة، وخاصة على مستوى القدرة على التلحين، فقط أجادوا العزف والتقليد، ولم يكلفوا أنفسهم السفر والرحيل لتعلم "النوتة" الموسيقية، او تنمية ما لديهم من مواهب قد تكون كامنة، افتقدوا للطموح، وحبسوا أنفسهم في الأعراس، وتقليد من سبقهم، وأصبحوا ليس لديهم ما يقدمونه إلا لمن سبقهم، وهذا يدخل في باب الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، والتكسب من عرق الآخرين، وبعضهم أنشأوا قنوات في اليوتيوب، وأصبحوا يكسبون أكثر من الفنان الأصلي أو ورثته، وهذا فضلا عن كونه جريمة فهو أيضا قتل كل المواهب.
ولا شك أن فؤاد الكبسي امتلك خامة صوت مميزة، ولكنه عاش عالة على تراث علي الآنسي، فشوّه الماضي الجميل والحاضر البائس.
وهنا نود الإشارة إلى الموسيقار بحق أحمد فتحي، الذي كان يمكن أن يمنح جميع المواهب اليمنية الموجودة اليوم ألحانا يمنية خالدة، ولكنه بقي منكمشا، وحريصا على منح ذاته ما يقدر عليه بصوته العادي، ولم يفكر للحظة أن يكون بليغ حمدي اليمن.
ولعلنا هنا نتذكر قصة رواها أحد من أجرينا معهم مقابلة بخصوص الشاعر الفضول في أواخر التسعينات، حين التقى بأحمد فتحي، وسمع غزفه وغناءه، فأخبره بأنه يتنبأ له بمستقبل كبير في عالم التلحين، ونصحه بأن يبدأ مع أيوب طارش، أما عن صوته فقال له إنك ستغني لكن بصعوبة، وهذه الصعوبة هي محسنات الصوت في أستديوهات الغناء.