مقالات
سبتمبر ثورة اليمنيين جميعاً
يوم السادس والعشرين من سبتمبر هو اليوم الذي استجمعت فيه اليمن كل إرثها الحضاري، والروحي، وأطلقته في قلب الإمامة المظلم، وقوضت فيه منظومتها العبثية التي حوت كل عوامل الانهيار والخذلان للروح اليمنية التواقة لقيم الحرية، والعدالة، والمساواة، والمواطنة، والمتطلعة للبناء والتعمير.
لم تكن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 تصديرا مصريا، ولا صناعة ناصرية، بل كانت ثورة يمنية إعدادا، وتخطيطا، وتنفيذا، وامتدادا للانتفاضات والثورات والحركات التي قام بها اليمنيون ضد نظام الإمامة في الشمال، منذ عشرينات القرن المنصرم، ابتداء من انتفاضات وتمردات القبائل الشمالية في العشرينات والتهائم وبقية مناطق البلد، ثم تحرك الأحرار في ثورة 1948 ضد نظام الإمام يحيى، والسعي لإقامة إمامة دستورية، وإن لم يكتب لهذه الثورة النجاح إلا أنها استطاعت أن تهز الأسس الدينية لقواعد سلطة الإمامة، وتضرب قداستها التي ظلت ترسخها عبر الحقب والقرون في ذهنية المجتمع، وثقافة الشعب، ثم تلتها حركة الجيش عام 1955، والتي لم يتحقق لها الفوز أيضا، حيث هدفت هي الأخرى، لإحلال إمام بآخر، وكان من نتائجها تآكل البيت الحاكم، وتهاوي أركانه بعد أن أقدم الإمام أحمد على قتل اثنين من إخوته هما العباس، وعبدالله الذي كان سيحل محله. ورغم فداحة التضحيات وشلالات الدماء الغزيرة التي سكبها أحرار اليمن على إصلاح نظام الإمامة إلا أن ذلك لم يفلح، إذ كانت منظومتها عصية على الإصلاح، فلقد كانت عقلية الإمامة وجمودها وتخلفها إحدى القوى التي قوضت بقاءها، ودفعت بالقوى الوطنية منذ فشل حركة العقيد الثلايا عام 1955، نحو التوجه والعمل للتغيير الجذري للإمامة، والتفكير بإقامة النظام الجمهوري.
فلم تتوقف المحاولات اليمنية عن مواجهة الإمامة، ولم يستسلم ثوار اليمن للفشل، حتى تكللت جهودهم بالنجاح في سبتمبر 1962م، الذي أعلن فيه قيام النظام الجمهوري، وهذا لا ينفي تأثر الثورة اليمنية بثورة يوليو 1952 في مصر، لأن التأثر والتأثير بين الأمم والمجتمعات من طبائع التاريخ وحقائقه، لكن جميع التحركات والثورات التي استهدفت تغيير نظام الإمامة، ومنظومة الحكم في البلد كانت يمنية خالصة، بل وسبقت المحاولات المصرية، وفي ذلك يؤكد محمد حسنين هيكل بأن ثورة سبتمبر 1926في اليمن "لم تكن اختراعاً مصرياً صدَّرته القاهرة إلى اليمن. وإنما الثورة في اليمن، أو محاولاتها جرت قبل ثورة مصر. وبقى الإصرار اليمني الشعبي عليها يفصح عن نفسه بومضات برق وسط الظلام الكثيف النازل بالظلم على كل اليمن".
كما أن تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، وإعلان قيام الثورة كان هو الآخر قرارا يمنيا، وقد أكد على هذه الحقيقة اللواء يحيى المتوكل الذي كان أحد اعضاء التنظيم بقوله: "بالنسبة لتكوين تنظيم الضباط الأحرار وقرار قيام الثورة فقد كان ذلك منذ البداية صناعة يمنية، حيث قام الضباط ببناء تنظيم تفجير الثورة اليمنية بدون توجيه القيادة العربية أو غيرها".
وإذا كانت ثورة سبتمبر قد عانت من الاضطرابات، فإن ذلك لم يكن عائد إلى قوة الملكيين الذاتية، ولا إلى إيمان المقاتلين في صفوفها بأحقية بيت حميد الدين في الحكم، فبعد قيام الثورة لم يجد البدر بعد هروبه من صنعاء قبيلة تأويه، لكن حصوله على الدعم من قبل المملكة العربية السعودية في الشمال، والدعم البريطاني من الجنوب والشرق، هو ما ساعده على تجميع المرتزقة خلفه، فالدعم المهول الذي تم تقديمه من قبل الرياض ولندن، وبقية القوى الدولية والإقليمية ضد اليمن وثورته هو ما حرك البدر بهدف تقويض الثورة اليمنية، فخلال الأيام الأولى للثورة بدأت تفتح الجبهات ضد ثورة سبتمبر، فكان التحرك في نجران وقعطبة وبيحان، الأمر الذي جعل قيادة الثورة في اليمن تدرك أن الخطر الذي يتهدد اليمن قادم من وراء الحدود الشمالية، ومن المناطق اليمنية الخاضعة للاستعمار البريطاني، وكان هذا ما دفعهم لطلب العون والدعم من القاهرة، وهو ما جعل مصر تبادر في الاستجابة لطلب اليمن، حين تأكدت أن العدوان الحقيقي قادم من الخارج.
لقد شهدت ثورة سبتمبر منذ أيامها الأولى التفافا شعبيا لم تنله أية انتفاضة أو حركة عرفتها البلاد قبل ذلك، وقد أسهم في نجاحها اشتراك جميع التيارات الوطنية والقوى الاجتماعية في إنجازها، فقد كانت ثورة اليمنيين جميعا، وهي بحسب اللواء علي قاسم المؤيد، أحد قادتها "شعبية لا تقبل التشكيك أبداً. ولقد كان من الصعب الحكم على من كان يدعي بالملكيين بأنهم ملكيون يريدون الإمامة عن قناعة كاملة". كما أنها لم تكن لحظة ارتجال، ولم يعجل بقيامها - كما يتوهم المرجفون وأصحاب الأقلام المثلومة - موت الإمام أحمد، بل إن مرضه كان قد عمل على تأخيرها، وذلك حتى لا يستغل الإماميون وحلفاؤهم من الرجعية والاستعمار قيامها خلال مرضه ويدلسون على المجتمع بأنها نالت من رجل مريض مقعد، كما جرى مع ثورة 48 التي قتل فيها الإمام يحيى، فهي كما يؤكد القاضي عبدالسلام صبره لم تكن "وليدة الصدفة، وإنما كانت نتيجة حتمية للنضال الكبير لكل فئات المجتمع الذي ضاق من الظلم الذي لحق به خلال سنوات عديدة، لهذا لم تكن الثورة وليدة الصدفة أو مستوردة من الخارج كما قد يعتقد البعض"، بل كانت تعتبر كما يقول المناضل صبره "الوليد الشرعي والمكتمل النمو لثورة 1948م ولحركة 1955م وما تخلل كل تلك السنوات من أحداث وتضحيات جسام ونضال مرير وعنيف توج باليوم الخالد والمجيد في 26 سبتمبر 1962م."
ولا يستطيع تيار أو جماعة أو فئة في اليمن الاستئثار والادعاء بدور يتجاوز دور البقية في الدفاع والحفاظ على ثورة سبتمبر، فهي وإن خطط وأعد لها وقادها تنظيم الضباط الأحرار فإن جميع اليمنيين قد ساعدوا في نجاحها، وساندوا في الدفاع عنها وبذلوا في سبيلها المهج والأموال، من كل مناطق اليمن في الشمال والجنوب على حد سواء.