مقالات
شاعر سبتمبر وأكتوبر الكبير عبدالله عبد الوهاب نعمان (1)
كما أن السياسة ليست شارعاً واحداً، فإن الثورة ليست خطاً واحداً تعزف عليه الرصاص نشيد النصر والفرح، وإنما الثورة متعددة الخطوط عديدة المواقع، كل خط يؤازر موازيه، وكل موقع يساند مقابله؛ لأن الحياة كل والثورة هي كل عطايا الحياة، وأجمل عطايا الأحياء، فلكي تتآزر خطوطها وتتواصل مسيرتها تتعدد المواقع الثورية، ثورة الزنود إلى جانب جمرات القلوب، وثورات المحاريث والمعاول إلى جانب ثورات المعازف والأغاني والأشعار والأفكار.
ولقد ظفرت ثورة 26 سبتمبر وأكتوبر بالكثير من هذه المواقع الثورية... تأججت الأغنية بنار الوجدان القلبي، وعزفت الرصاص حماس الوجدان الشعبي، وأطلقت الأفكار مشاعل الأضواء؛ لكي تتواكب ثورة الثقافة الشعبية وثورة الشعب التائق إلى كل آفاق والإبداع.
ومن جمال التوافق أن الثورة تكونت مع هذه البواكير الإبداعية من إبان تبرعمها، فقد تبازغ الشعر الثائر من الجو الإمكاني للثورة.
وكلما تنامى إمكان الثورة سمعت قامات الإبداع الفني في شكل قصيدة، في شكل مقالة صحفية، في قالب أغنية.
فلم تسبق الفنون الجديدة إمكان الثورة، ولا سبق إمكانها تبازغ الفنون الثائرة، فمن منتصف الخمسينات تغايرت مفاهيم الكلمة المكتوبة، والكلمة المروية، والقصيدة السائرة، وكانت الأغاني الجديدة مقصورة على جلسات الأصدقاء. كما كان أكثر الشعر الثائر يجوب المناطق محمولاً على الأوراق المخطوطة، وقلما أفصحت مقالة منشورة عن السرّ الشعبي.
صحيح، أنها كانت تلوح بوادر شعرية وكتابية في الصحف الرسمية، التي كانت تُنشر في تعز وصنعاء وعدن، وكانت هذه المنشورات القليلة تتناغم مع القصائد الآتية من الشعر الجنوبي، وبالأخص قصائد عبدالله عبدالوهاب نعمان.
فقد انتشرت له، في منتصف الخمسينات، قصيدة شهيرة تندد باستسلام الشعب للطغيان، أو تستفز الشعب إلى مقاومة الطغيان.
ومطلع تلك القصيدة:
فرش التراب وبالحصير تأزَّر
شعبٌ بحمد الله يمشي للورا
وعلى سعة انتشار هذه القصيدة، فإنها لم تحمل اسم صاحبها حتى ادّعاها البعض لنفسه، مع أنه مجرد راوٍ من جملة رواة تلك القصيدة، التي استظهرها الكثيرون لحسن موقعها في القلوب يومذاك.
وكان عبدالله عبدالوهاب يؤجج الشعر الثوري والكتابة الساخرة من عدن؛ لأنه صاحب صحيفة "الفُضُول"، التي انطبق اسمها على اسمه، وكان في تلك الصحيفة أمْيلَ إلى الهُزْءْ السياسي منه إلى المباشرة، إلاَّ أنه كان يستغلّ كل بادرة وكل حادثة مهما كانت عادية.
فعندما سقط أمير جيش تعز من ظهر بغلته، أبرز الفضول هذا العنوان: "انقلاب عسكري في اليمن"، وتحت العنوان الخبر العادي كما وقع.
إلى جانب هذا كان يكتب الشعر الساخر معارضاً القصائد الشهيرة، مثل معارضته قصيدة المتنبي (على قدر أهل العزم تأتي العزائم)، فنشر الفضول معارضتها هكذا:
على قدر كبر الحقو تأتي المحازمُ
وهكذا كان الفضول يسخر بسياسة تلك الفترة وبرجالها، على امتداد الخمسينات.
*
كانت حياة عبدالله عبدالوهاب نعمان أشبه بقصة مأسوية من نسيج الواقع والخيال معاً، وقع الشيخ عبدالوهاب نعمان -والد بطلنا- في قبضة الإمام أحمد كأخطر رجال حركة 1948م، ونَفَذَ فيه حكمُ الإعدام مع الطليعة الأولى من الشهداء، وكان عبدالله عبدالوهاب -ابن الشهيد- في طور أحلام الشباب والأمل، فكانت الصدمة أعنف، ولكنه لاقى استشهاد والده بقلوب الرجال.
ففر إلى عدن متخفياً، ويُقال إن الإمام قلب الدنيا بحثاً في طلبه، ولكنه نجا وظل صامتاً متواريا مدة أربع سنوات، ثم أخذ نجمه يلوح في صحافة الشطر الجنوبي، وفي القصائد التي كانت ترتاد الشعر الشمالي، وكان ظرفاء شعراء عدن يلقبون عبدالله عبدالوهاب بصقر الحجرية؛ تشبيهاً له بصقّر قريش عبدالرحمن الداخل، الذي عزَّ على قبضة السفاح، وعبر البحر إلى الأندلس، فأقام فيها العرش الأموي، وكان هذا التشبيه مقبولاً إذ نجا عبدالله عبدالوهاب نعمان من قبضة الوشاح، إلاَّ أنه ظل في عدن على توجُّس من الحكم الاستعماري، ومن إمكان مكيدة أحمدية.
ولما حدث انقلاب مارس، عام 1955م، في تعز، بدأ الإمام أحمد يتحول عن قَتَلة أبيه وأتباعهم إلى الذين حاولوا إسقاطه هو أو قتله؛ فتنفس الأحرار الصعداء في شطري اليمن وفي المهاجر العربية والأجنبية.
وكان ذلك الظرف بداية إمكان الثورة، وبداية تحول الفنون كاستجابة للتحول الاجتماعي، وتسارع التحول شعبياً وفنياً، حتى وصل المد صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر يوم إعلان انتصار الثورة ونهاية العهد الإمامي.
*
بعد قيام الثورة يتحول كل الناس إلى ثوار، إما بفضل العدوى، وإما مجاراةً للظروف، وإما استجابة لقوة التغيرات.
كذلك تحول بطولة أفرادٍ كل الناس إلى أبطال، فقد شهدت الساحة بعد ثورة سبتمبر اتقاد الجماهير وتأجج الشوارع، وكأنّ كل واحد هو الذي فجر الثورة، لهذا انكمشت بعض الوجوه ذات السبق، وطفت على السطح آلافٌ من الوجوه الدَّعِيَّة والمدَّعِيَة، على حين انزوى بعض النجوم خلف الغبار في انتظار انجلاء الغبار، من أمثال عبدالله عبدالوهاب نعمان، فلم يرد اسمه بعد الثورة مع الأسماء التي رنت يومذاك، فظل كموظف متوسط في محافظة تعز، ومتردداً على صنعاء، وكأن شيئاً لم يحدث كما كان ينتظره بطلنا؛ لأنه طوى جوانحه على الصمت وكان كل شيء قد انتهى، بما في ذلك دواعي شعره فتبدَّى بطلنا خارج دائرة الشعر والسياسة من قيام الثورة إلى عام 1967م.
(يتبع 2)