مقالات
صورة سبتمبر في أول مؤسسة مالية (2-2)
في تتبعي لخارطة المديرين التنفيذيين للبنك في سنوات التأسيس الأولى وما بعدها توصلت إلى جملة من النتائج، منها أن البنك استطاع استيعاب كل اليمن تقريباً في قياداته الفوقية، ليس من منطلقات مناطقية فجّة، ولا محاصصات سياسية شائهة، وإنما لكون المشروع الوطني الكبير وقتها كان بمقدوره تذويب مثل هذه النزعات، فيظهر هؤلاء باعتبارهم يمنيين من "تهامة، والحجرية، ويافع، وبني حشيش، وكمران، وصنعاء، وسيئون، وحراز، وسنبان، وغيرها من مناطق اليمن"، لم يكونوا من مشارب سياسية واحدة، ولا من مدارس اقتصادية وفكرية متطابقة، فالأول تخرّج من إيطاليا، والثاني من إيرلندا، والثالث من أمريكا، والرابع من فرنسا، والخامس درس في القاهرة، والسادس تخرّج من بغداد، والسابع تأهل في الخرطوم، وهكذا.
يمن ما بعد سبتمبر 1962م، في أول خطواته، نهض على مثل هذه الكفاءات والخبرات، حتى صار في رائج القول أن البعثات التعليمية الباكرة لبغداد ولبنان والقاهرة ومتبوعاتها هي التي صاغت هذه الصورة الجديدة، ولو أن الإماميين كانوا حسبوا لمثل هذه المآلات لما أخرجوا مثل هؤلاء الطلاب من عزلتهم التي فرضوها لعقود، وأطلقوهم في العالم الجديد، الذي أعاد صياغة وعيهم على طريق التحديث، وأعادوا إنتاج اليمن الجمهوري، على أنقاض الإمامة.
سيرة أول رئيس مجلس إدارة للبنك، الدكتور حسن مكي، تقول إنه ينتمي إلى تهامة اليمن العامة بشامها ويمَنها، وهو سليل أسرة معروفة في المخلاف السليماني في منطقة "صِبْيا".
كان ضمن طلاب بعثة الأربعين طالباً التي ابتعثت، في العام 1947، إلى لبنان قبل أن تستقر بعد ذلك بعام في مصر. بعد استكماله الدراسة الثانوية في مصر، ابتُعث إلى إيطاليا في العام 1953، فدرس الاقتصاد والعلوم السياسية، وتخرّج من جامعة "بولونيا"، حاملاً شهادة الدكتوراه في العام 1960. وحينما عاد إلى اليمن من جديد عمل في العديد من الوظائف، منها مستشاراً لوزارة الاقتصاد في العهد المتوكلي، ثم وكيلاً لها.
أما سيرة أول مدير للبنك، محمد سعيد العطار، فتقول إنه مولود في العام 1927، في مدينة جيبوتي لمهاجر يمني من منطقة "بني شيبة" في مديرية "الشمايتين" بمحافظة تعز. تلقّى تعليمه في مدارس المستعمرة الفرنسية حينها، وأكمل تعليمه العالي في باريس. وعمل باحثاً في كلية الاقتصاد في جامعة "السوربون" بين أعوام 1958 و1962، ونال منها شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي عام 1962، عن كتابه الرائد "التخلّف الاقتصادي والاجتماعي في اليمن".
وبعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، عاد إلى صنعاء ليكون ضمن المؤسسين الأوائل للبنك اليمني للإنشاء والتعمير، وكان أول مدير عام له، وفي العام نفسه عُين مستشاراً في مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية والتنموية.
الاسم الثالث في قائمة المؤسسين هو محسن حسن السري، وهو من مواليد منطقة "وادي السر" في مديرية "بني حشيش" بمحافظة صنعاء في العام 1930، وكان ضمن بعثة الأربعين طالباً. أكمل دراسته الثانوية في حلوان - مصر، قبل أن يُبتعث للدراسة في إيرلندا، فيحصل على بكالوريوس تجارة من "ترينيتي كوليدج – دبلن". عاد إلى اليمن باكراً، وعمل في عديد من الجهات الحكومية، منها الخزانة والخارجية. وعاد إلى الأخيرة وزيراً في الحكومة الخامسة التي شكلها اللواء حمود الجائفي في مايو من العام 1965، واستمرت ثمانية أشهر فقط، ليعود بعدها إلى البنك كرئيس لمجلس الإدارة لخمسة أعوام متصلة بين عامي 1973و 1978.
لا يُوثّق للعمل المصرفي في اليمن إلاَّ ويذكر معه اسم عبد الله محمد السنباني، الرئيس السابع للبنك (1967م)، ومحافظ البنك المركزي اليمني، ووزير الخزانة السابق، وهو من مواليد منطقة "سنبان" في محافظة ذمار في العام 1935م، هاجر باكراً مع أقرباء له إلى السودان، واستقر في "وادٍ مدني"، حيث أكمل تعليمه الأساسي، قبل أن ينتقل إلى القاهرة التي استكمل فيها الدراسة الإعدادية والثانوية فيها. أما دراسته الجامعية فقد أتمّها في العام 1960م في جامعة "الاسكندرية"، وأعقبها بدبلوم عالٍ من معهد الإدارة العامة في القاهرة في العام 1961م، قبل أن يعود إلى اليمن ليعمل رئيساً لقسم الشركات في وزارة الاقتصاد. وبعد قيام ثورة سبتمبر أسند إليه موقع نائب وزير التجارة، الذي كان يشغله وقتها عبدالغني مطهر، ثم نائباً لوزير الخزانة الدكتور عبد الغني علي.
محمد سعيد عبد الرحمن الفقيه، الرئيس العاشر للبنك ( 69- 1970)، من مواليد جزيرة "كمران" في العام 1936م، درس في مدارس عدن، وأكمل تعليمه الجامعي في القاهرة عام 1958م، بحصوله على بكالوريوس في إدارة الأعمال، قبل أن يعود إلى اليمن ويُساهم بتأسيس البنك، ويصير عضوا في مجلس إدارته منذ العام 1962. بعد حصوله على ماجستير "اقتصاديات التنمية" من جامعة "كاليفورنيا" في العام 1984م، صار خبيراً في البنك الإسلامي للتنمية في "جدة"، منتدباً من البنك اليمني.
وغير هذه الشخصيات هناك الكثير، وتغطي سيرهم المهنية حالة اليمننة الصريحة في حضور البنك في حياة المجتمع، بوصفه أحد أوجه التحول الجديد في اليمن.
(*)
يلفت نظر الزائر لمكاتب البنك أن أغلب حيطان المباني مزيّنة بلوحات تشكيلية لفنانين يمنيين معاصرين، فمثلاً في الردهة الواسعة المؤدية لمكتب مدير البنك، يمكن للزائر مشاهدة لوحة تشكيلية للفنان الراحل عبدالجبار نعمان، تختلف بأسلوبها ومضمونها عن لوحاته التي ذهبت لتصوير الوجوه، والطبيعة، والمعمار، فهي أقرب إلى التجريدية والترميز. توقيعه على اللوحة كان في العام 1973، أي بعد عشر سنوات من تأسيس البنك، وبعد سنة من تشييد مبناه الحديث على أطراف ميدان التحرير، كان عبدالجبار نعمان أكثر الفنانين اليمنيين التصويرين علاقة بالمباني الحديثة في العاصمة التي تتزيّن بلوحاته القريبة من المزاج العام، ومنها لوحته التصويرية لليمن بعاملها وفلاحها وجنديها وطالبها وحقلها ومصنعها، التي تتزيّن بها الردهة الجانبية للمدخل الجنوبي للمبنى، وتحمل اسم "لوحة وطن"، وهي تتكامل مع لوحات زيتية تعبيرية مجسّمة على الجدران، تختزل مضامين رسالة البنك.
قال لي الصديق عبدالفتاح عبدالولي، الفنان التشكيلي والقاص المعروف، والمدير القانوني السابق للبنك، إن الراحل أحمد علي المُحنّي، رئيس مجلس إدارة البنك اليمني للإنشاء والتعمير (في الفترة من 1990 إلى 1996)، كان ذا ميول فنّية راقية، وله الكثير من اللوحات التشكيلية التي رسمها في حياته، وتحاكي الطبيعة. وقد عمل على شراء الكثير من اللوحات الفنية الأصلية من الفنان عبدالجبار نعمان، ومن غيره من الفنانين المعروفين، وأمر بتعليقها في مكاتب وردهات مكاتب البنك، وصارت مع الأيام تمثل قيمة مضافة لأصول البنك، إن كان الأمر بحسابات عائدات الأصول، كما يفهم الأمر مقيّمو الحسابات في كثير من البنوك في دول العالم.
منذ فترة طويلة قرأت -في الغالب- عن بنك مصر، أنه يمتلك عشرات اللوحات الفنية والمنحوتات لكبار الفن التشكيلي المصري ورُوّاده، وأن هذه المقتنيات صارت قيمة مضافة إلى أصول البنك، بسبب تزايد قيمتها النّقدية مع توالي السنين، وإن الحفاظ على تلك المقتنيات بأساليب علمية تمنع عنها عمليات الإهلاك والعطَب، واحدة من أساليب كثيرة للحفاظ عليها كثَروة مستديمة.
(*)
في تتبعي لموضوع الشركات والمؤسسات، التي موّلها واستثمر فيها البنك منذ سنة التأسيس 1962 حتى سنة الوحدة 1990م – اعتماداً على كتاب د. سعيد الشيباني- حضرت في رحلته الاستثمارية قرابة أربعين شركة كانت هي عماد الاقتصاد الوطني في سنوات التحوّل الكبير. ففي العام 1963م، قام البنك بالاستثمار، وتمويل شركتين حيويتين هما: شركة المحروقات اليمنية (لاحقاً شركة النفط اليمنية)، التي صارت منذ سنة التأسيس الأولى جزءاً من مساهمة الحكومة فيه، وشركة كهرباء الحديدة التي قام بتأسيسها منفردا من أسهم المُودعين، لكنه في العام 1990م كان قد تمدد في خارطة الاستثمار، حين صار مؤسسا وممولاً ومستثمرا في شركات حيوية كثيرة، منها:
"شركة التبغ والكبريت الوطنية، الشركة اليمنية للأدوية، الشركة اليمنية للتجارة الخارجية، شركة المخا للزراعة، كهرباء صنعاء وتعز، شركة القطن اليمنية، شركة الطباعة والنشر، شركة مأرب للتأمين، بنك اليمن والكويت، البنك الصناعي اليمني، الشركة اليمنية الكويتية العقارية، الجمعية الاستهلاكية لموظفي الدولة، بنك اليمن الدولي، شركة صنعاء للمرطِّبات، الشركة اليمنية للسينما، الشركة اليمنية البريطانية للاستثمار، الشركة اليمنية للفنادق، الشركة اليمنية لتكرير الملح، شركة تسويق المنتجات الزراعية، شركة أعلاف الدواجن، الشركة اليمنية للعقارات، الشركة اليمنية للاستثمار الزراعي، الشركة اليمنية للإنشاء والتعمير، الشركة اليمنية لصناعة البطاريات، الشركة اليمنية لصناعة الجبس، شركة الشولات اليمنية، وغيرها من الشركات والمؤسسات".
حتى العام 1990م، بلغ إجمالي استثمارات البنك في هذه الجهات، ومنذ تأسيسه، مبلغاً وقدره (205،665،000) مئتين وخمسة ملايين وستمائة وخمسة وستين ألف ريال، منها مبلغ (141،026،000) مائة وواحد وأربعون مليونا وستة وعشرون ألف ريال استثمارات داخلية.
ويلاحظ أن قطاعات الاستثمار توزّعت على الحواضن الاقتصادية الحيوية في الطاقة والزراعة والمصارف والعقارات والغذاء والصناعات التحويلية والسينما وغيرها.
هذه نتفٌ من ذاكرة بنك البنوك، الذي تصير - في القراءة والتوثيق- من خلال سيرته الأولى صورة أخرى من صور سبتمبر العظيم.