مقالات
عبدالله سلام ناجي.. شاعر التمرّد والسَّلى الغزير (2-2)
القراءات المتعددة في مدوّنة الشعر العامي المعاصر والحديث، خلال القرن العشرين في اليمن، تضع الشاعر عبدالله سلام ناجي في مصاف الريادة لهذا اللون الشعري فهو "واحد من أبرز شعراء القصيدة الجديدة في اليمن، ومن مؤسّسي الحركة الحديثة في شعر العامية. ظهرت بواكيره الشعرية واليمن على عتبة الثورة تتحسس طريقها نحو ما أنجزه العالم في القرن العشرين، فكانت إرهاصاً حقيقياً بالتحولات الجذرية في الحياة السياسية والاجتماعية" [الدكتور عبد العزيز المقالح - "شعر العامية في اليمن"- دار العودة بيروت، طبعة 1986، ص 438].
وهو أيضاً "رائد للشعر العامي الحديث ابتداء من ملحمته الشعرية الشهيرة (نشوان والراعية)، وانتهاء بقصائد ديوان "سلام للفهم" {مخطوط}. ففي "نشوان والراعية" قام بتحديد ملامح أول مدرسة للشعر العامي الحديث، وأعلن عن اكتمال بنائها معتمداً على فهمه العميق بأن القصيدة العامية الحديثة برهنت على قدرتها الفائقة في احتضان المضامين الإنسانية بنجاح لا يقلّ عن القصيدة الفصيحة، وهذا كان لإثبات استقلال شخصية القصيدة كتجربة مستقلة، مما ينفي تطفل الشكل في جانبه اللغوي" [د سلطان الصريمي "بوح فتنة ومعاناة"، صحيفة الجمهورية - 19 يونيو 2007].
من هاتين القراءتين - المتباعدتين زمنياً- يحضر عبدالله سلام ناجي في وعي أستاذين كبيرين في الحياة الثقافية اليمنية المعاصرة بوصفه رائدا حقيقيا لهذا النوع من الكتابة بخصوصيّتها المحلية، التي قطّرت لاحقاً العديد من التجارب التي أشار إليها عبد الباري طاهر آنفاً، وأضيف إليها تأثيره الكبير في تجربة الشاعر القرشي عبد الرحيم سلام.
وهو في قراءة ثالثة شابة: "مبدع ومجدد في مجال الشعر العامي، حين أخرجه من شكله التقليدي القائم على البناء السجعي المتجانس والقريب إلى شكله العمودي المقفول بقافية، إلى طور آخر ذي طابع حداثي متحرر من شكلية العمود وقيود القافية معتمداً على: الاشتغال الحديث المرتكز على الانسياب الموسيقي واتزان التفاعيل" [فاروق السامعي – 25 نوفمبر 2013- صفحة الكاتب في الفيس بوك].
لكن ما يعنيني في هذه المقاربة على وجه الخصوص هو معاينة بعض نصوصه الشعرية، التي صارت أغاني رائجة ومؤسِّسة للون غنائي جديد لم يكن حاضراً في سياق القراءات الرائجة؛ وأعني اللون التعزّي بخصوصيته (الحُجرية)؛ فقبل هذا اللون تعددت ألوان الغناء في اليمن (الصنعاني، اللحجي، اليافعي، العدني، الحضرمي)، ووجدت مثل هذه الألوان طرائق وصولها إلى جمهور التلقّي بواسطة مطربين ذائعين، استطاعوا استلهام كلمات شعراء كبار كتبوا بلهجات تلك المناطق، وعبَّروا عنها بروح قادرة على التحليق الطويل في أزمنة مختلفة. وهذه الجزئية ستكون محط مقاربة مستقلة لاحقاً.
وبعيداً عن موضوع الريادة والتأسيس اللوني، وقريباً من النصوص المغنّاة، هناك قصيدة باكرة للشاعر عبدالله سلام غناها الفنان محمد مرشد ناجي مطلع الستينات، ترتبط بأهم رموز مدينة عدن، وأحد واجهات التعريف بالمدينة في ذروة حضورها (الاستعمار) في خمسينات القرن الماضي، وهي "ميناء التواهي"، كتبها باللهجة العدنية الصرفة، ومنشورة في ديوان "نشوان والراعية"، وعلى غير كل المقاطع الشعرية، في هذه الملحمة، ظهر هذا المقطع المقوَّس، ببنيته اللغوية المختلفة وإيقاعه الغنائي العالي، بمسمّى "صوت"، وبالفعل كان صوتاً مختلفاً ومستنبتاً عارضاً داخل بنية النص الملحمي، وهو لا يشير إلاَّ إلى نفسه. فالأصوات الأخرى تحضر بوصفها تفاعلات حكائية، وتخوض في تفاصيل النص وتتماهى معه، ولا يُبرر لهذا المقطع وجوده المتني إلا بإقامة "نشوان" في مدينة عدن التي هرب إليها ليعود منها لتحرير "الراعية" من سجنها المسحور بضربة قاتلة للسحر والقرصان.
لحّن المرشدي لهذا المقطع وأدائه الإيقاعي السريع صار يشير إلى مرحلة التجريب الثرية، التي اتسمت بها المدرسة الطربية المرشدية شديدة التنوع:
"يا ميناء التواهي.. حُبك بالقلوب / يا عمري اللي ساهي والأيام تذوب/ تَذكّر الطفولة، والشبَّة والرجُولة / واللعب بالشوارع.. وعمرنا اللي ضائع.
يا ميناء التواهي .. القمر عادُه طالع / في الساحل العجيب.. في ساحل الذهب / تِمتِّع الغريب بالطيب والعجب/ وأولاد الحوافي يمشُوا بالكوافي/ تُخَبّي كل قاسي والمركب اللي راسي كم جاب من مأسي...."
ارتباط الشاعر بمدينة التواهي في أزهى أوقاتها بين 1946 و1956م، قاده إلى استلهام تفاصيل الحياة فيها والكتابة عنها بخصوصيتها اللهجوية، ابتداء من تذكر الشبِّة والرجولة واللعب في شوارعها، ولبس شبان الحوافي للكوافي التي كانت وقتها رمز الأناقة، وصولا إلى ساحلها الذهب (جولد مور)، لكن تبقى التواهي هي تلك الميناء والمراكب الراسية فيها التي تجلب كل شيء إلى المدينة بما فيها المآسي، ويحضرني هنا ما وثّقه بلال غلام حسين عن دخول الخدمات الصحية إلى مدينة عدن بُعيد احتلالها، أن كثيرا من الأمراض الغريبة تفشّت في المدينة بعد أن نقلها القادمون إلى المدينة من الهند وأفريقيا، وإن الغربان المنتشرة في المدينة- حسب رواية رائجة- هي سليل زوجين جلبهما رجل هندي يعمل مع القوات البريطانية، لتصير مع الوقت إحدى المشكلات البيئية المستديمة.
في هذا المقطع، الذي كتب بنفس مديني صرف (نسبة إلى المدينة)، لم يتخلّص فيه سلام تماماً من استلهاماته الريفية التي دمغت تجربته العريضة، حين يستجلب واحدة من مرموزات الريف والفلاحة وهي الجهيش (ثمار الزروع قبل حصادها)، لتصير أحد مفاعيل الميناء المستعادة: "في الدكة في جبالك.. سواعدي تعيش/ والخير من قبالك يضيع كما الجهيش".
الفنان العدني اسكندر ثابت غنى قصيدة "بين السبول" في فترة قريبة جداً من قصيدة "ميناء التواهي"، فأعطاها دفئاً خاصاً، بالرغم من خصوصيتها الريفية، لتصير مع الوقت واحدة من الأغاني الصباحية الأثيرة في سماع أجيال متعاقبة، التي تقول بعض كلماتها:
"بين السبول رايتُ قبول/ مثل القمر بين الغمام/ والزهر يضحك والبتول/ غنىَّ بألحان الغرام/ تمشي كما يمشي الغمام/ والورد في صحن الخدود/ والثغر بلون المدام/ ينضح بألوان الورود".
ومثل نصوص عبدالله سلام ناجي الشعرية قام هذا النص على بنية حكائية مكتملة الأركان، وابتدأت هنا بالرؤية ثم الوصف فالحوار، وانتهاء بالزواج، على طريقة التشبيب العذري في الشعر العربي.
"قلتُ اسمعي مني كلام يا زهرة الوادي الجميل/ عالنار تطفي والهيام والشوق والليل الطويل/ قالت أبي منك قريب روح خبِّره واسعد قلوب/ ونبات يا أجمل حبيب نسمر معش اللحن الطروب/ لما اجتمعنا والغرام في عشنا الهادي الحبيب/ غنينا ألحان الهيام للنجم والفجر القريب"
من النصوص الغنائية الباكرة لسلام التي غنَّاها الفنان "فرسان خليفة" أغنية "نجم الصباح"، والمعروف أيضا بمسمى "كم شغني"، ومنها:
"نجم الصباح بكّر سحار يلالي/ ليته فهيم يدري بما جرى لحالي/ خِلي يا ناس من شخبره بحالي/ صبري خلص وأنا أسهر الليالي/ غائب سنين قالوا السنة وصوله/ الله يصيب من كان سبب رحيله"
وهو خلاصة لمناجاة امرأة تعاني من هجرة حبيبها (الخل) لنجم الصباح الذي بكر يشدو (يلالي)، وهو الذي لا يستطيع فهم حالها، وليس هناك من يستطيع إخبار حبيبها بحالها، وصبرها الذي بدا ينفد من سهر الليالي، تترقب عودته بعد سنين من الغياب القسري، ولا تنسي أن تدعي على من كان سبب رحيله إلى البعيد. الموضوع المعالج في النص هو موضوع الهجرة والفراق بشكل واضح.
نص "غزير السلى"، الذي لحنّه وغناه الفنان الراحل محمد عبده زيدي في فترة إقامة سلام الثانية في عدن (1971- 1977)، زاوج في آن واحد بين المنزع المديني والخصوصية الريفية. فمطلع النص، على سبيل المثال، يشير إلى الأولى:
"أنت فين وا غزير السلى؟ أنت فين/ أيش جرى لك غليت والا شرعك غلا؟/ يا حَسين مثل حسنك عيون الملا أجمعين/ لم تر يا خصيب الحلى ساحرين"
وما يشير إلى الريف في النص قوله: "اقطع سفوح البلاد واهجر ظلال الشواجب/ واجعل حضورك إلى روح المحبين واجب".
والشواجب هنا هي أطراف الحقول في المدرجات الزراعية التي تفصلها عن حقول أخرى ترتفع عليها صفوف أحجار مثبتة تمنع انجراف التربة، وعادة ما تكون هذه الشواجب خصبة وظليلة بفعل الأشجار والنباتات التي تنمو فيها.
تبقى قصيدة "الدودحية" بحضورها الرمزي، والمؤسسة على حالة التمرّد على سلطة العائلة بسبب العشق، واحدة من أهم الأغاني التي ذاع سيطها في منتصف السبعينات (غناها الزيدي وفرسان باللحن ذاته تقريباً)، وتزامنت مع رائعة "خطر غصن القناة" لمطهر علي الإرياني، التي أداها الفنان علي الآنسي.
استطاع سلام في هذه القصيدة (حجرنة) الكتابة، أي بجعل النص مكتوباً باللهجة الريفية الحجرية، مع احتفاظها بكامل منزعها الشفاهي الذي صاغته الألسن عن هروب ابنة الشيخ مع ابن عمها بعد رفض الأب تزويجهما:
"غدّر عليا بوادي الدودحي/ ورده فراجم وغصنه مستحي / والنجم سامر يواسي الدودحي/ ومنك تصدع قليبه ما يحي/ يا دودحية أنا ابعمك أنا/ وانتي الذي تدري بمو تم بيننا/ لا الذنب ذنبك ولا ذنبي انا/ ذنب الذي من دجا الباب ردنا/ يا دودحية يا قبوه من درر/ ما دودح البن إلاَّ بالمطر/ لا تسمع الريح هداره والخبر"
قصيدة "قطفت لك"، التي لحّنها وأداها الفنان المرشدي منتصف سبعينيات القرن الماضي، تصلح أن تكون بعض أبياتها نموذجاً لهذه الملامسة (الصحافية) العابرة لسيرة عبدالله سلام، وتجربته الرائدة في كتابة النص الغنائي بخصوصيته المحلية لمنطقة الحُجرية في تعز:
"قطفت لك كاذي الصباح بكمّه/ وافتك وروح يا حبيبي شُمّه/ عرفُه يفوح بكل جبل ووادي، وأنت يا فؤادي ..غائب تهيم/ لا الدار وسع ضيقك ولا البوادي * كل الخبوت سريت بها وغنيت، وكل بحر جزعت به وهميت/ لاحد سمع منك دعا ولا جاب/ إلاَّ الحبيب اللي تركته بالباب".
فيه تتجلى واحدة من المعضلات الاجتماعية التي رافقت اليمنيين عبر تاريخهم الطويل وهي الهجرة وترك الموطن والأهل، وعبَّر عنها كثيراً الشاعر عبدالله سلام ناجي، حتى صار أحد ثلاثة أدباء روّاد طرقوا هذا الموضوع باكراً (الشاعر محمد أنعم غالب، والقاص محمد عبد الولي)، قبل أن يلحق بالثلاثة الشاعر مطهر الإرياني في رائعته (البالة).
هناك نصوص غنائية أخرى للشاعر أداها فنانون معروفون مثل قصيدة "صباح الحب"، التي ارتبطت بالفنان جابر علي أحمد:
"صباح الحب ع الشبان اللي يعشقوا/ يقطفوا الرمان وفي ظل المشاقر يغرفوا/ يسمروا أحلى سمر في ليالينا الجميلة/ في المشنة والطويلة/ تحت أضواء القمر/ مثلكم عاشق أنا والحب عندي كالسبول/ أخضر وسحره بيننا يسري كما تسري السيول/ كم بت اشدو للهوى والليل للشادي يطول".