مقالات
عدن.. الإمساك بصورة الحنين!!
بعد ثماني سنوات من آخر زيارة لها، أو من آخر ذوبان جسدي بها، عدت إليها، حاملاً صورة متضخمة عن حالها الناقض لما عُرف عنها.
صورة تشكلت من متابعة أحوالها عبر المقروء والمتداول في الألسن خلال سنوات الحرب. صورة معتمة غير تلك التي كبرت معي منذ نصف قرن، حينما جئتها طفلاً في السادسة رفقة والدي.
غير أن هذه الصورة المنقولة سرعان ما تتبدد حينما تترك لنفسك الذوبان فيها من جديد؛ فهي لم تزل قادرة على منح عشاقها الكثير من البهجة والشغف لإعادة تجميع صورتها المحببة من التفاصيل الصغيرة، التي تبدأ بالرائحة ولا تنتهي باللهجة الباذخة، وما بينهما تفاصيل الحياة اليومية لأبنائها القادرين على انتزاع الفرح من بين مخالب الغلاء وانيابه الشرهة.
الأطفال والشبان بملابسهم العصرية ينصبون في المساحات وناصيات الشوارع طاولات البليارد بقطائفها الخضراء، وعصاينها الطويلة والقصيرة، وكراتها الصماء، ثم يزجون أوقاتاً طويلة في ممارسة اللعبة الباذخة.
وفي الحواري وفضاءات الميادين ينصب كبار السن طاولات وكراسي عتيقة من أجل لعب الدومينو والورق، التي يتخلل وقت لعبها الطويل نقاشات وجدل ومزاح ينتزع القهقهات من الأفواه التي عبث بها الزمن.
بإمكانك أن ترى، في الصباحات الباكرة وفي أماكن مختلفة، أشخاصاً عديدين، بالقرب من أكشاك البيع وفي المقاهي الشعبية، وعلى الأرصفة، وهم منهمكين بقراءة الجرائد اليومية التي تصدر في المدينة، وهي عادة متأصلة عند كثيرين. حتى أولئك الذين لا يستطيعون شراء الجرائد يجدون حلاً، حين يتشارك اثنان في شراء جريدة واحدة، ثم يتناوبون على قراءتها.
لم يزل بائع الليمون في الشارع الطويل يعلق صورة الرئيس عبد الله السلال، منذ ستين سنة، وأغلب من يمرون على كشكه الصغير -النابت في ركن حيوي بين شارع رئيس وشارع ثانوي، ويتناولون مشروبهم المفضل وقوفاً- لا يعرف أكثرهم عن صاحب الصورة بإطارها المذهب أي شيء، وحينما سألت الشاب الذي يلبي طلب الزبائن، عن هوية صاحب الصورة، اكتفى بتعريفه بالرئيس السلال، وأن جده قد قام بتجديدها قبل أشهر فقط، بعد أن أكلت الرطوبة النسخة السابقة منها.
في المحل العتيق أسفل عمارة قديمة بالقرب من سوق البلدية لم يزل "عبده المجيدي" يستقبل زبائنه، على الطاولات والكراسي الخشبية المتهالكة، بذات اللكنة المخلوطة بين العدنية والقروية، قبل أن يقدم لهم تلك القهوة الشعبية المكونة من الزنجبيل الكثير والقليل من البن بمغارف معدنية، وأكواب فخارية عتيقة تعرف بـ"الحياسي"، وهي الطريقة ذاتها التي كان يستخدمها والده وعمه حينما فتحا هذا المحل بالتشارك قبل ستين سنة.
زبائنه من المتقاعدين غالبا يقضون الساعات على كراس وطاولات تشبههم يتحدثون في كل شيء.. يستقدمون من مخازن الذاكرة البعيدة تاريخ المدينة بحنين فارط ثم يسكبون آهات (جمرية) حين يقارنون بالحال الذي وصلته اليوم.. لبعضهم راديوهات قديمة يلتقطون بواسطتها ما بشبه الأغاني والأخبار، ويستطيعون قول أشياء كثيرة عنها في أحاديثهم.
قبل ثماني سنوات كانت "سمراء" فتاة صغيرة تشاكس القاعدين على طاولات لعب الدومينو بالقرب من السوق، حين يرفضون السماح لها باللعب معهم، وهي اليوم أحد المتحكمين بأكثرية الطاولات، يرضخون لأحكامها الصارمة حين يختلفون؛ طريقة لبسها وكلامها الخارج من فم يتناوب على حشوه القات والتمبل، كثفتها كحالة خاصة تثير الانتباه في محيط ذكوري صارم.
صحيح أن العديد من محلات السوق الطويل تحولت إلى محلات صرافة تماشياَ مع الحالة، التي جعلت من هذه المهنة رائجة بسبب الطلب على العملة، غير أن السوق لم يزل يحتفظ بنكهته وحيويته المحببة، التي هي، على الدوام، خليط من الزحام والروائح المتداخلة المتصاعدة من صناعة الحلويات الهندية والشرقية ومن تحضير الوجبات الشعبية العدنية البسيطة (البطاط والسمبوسة والباجية والعتر).
المطاعم والمخابز الشعبية المتناثرة في الشوارع الخلفية للسوق تقاوم بكثير من العناد، وتقدم لمرتاديها نفس الأطعمة التي تأسست عليها منذ عقود، لكنها في كثير من الحالات لم تعد تقدم الأصناف مرتفعة الثمن، وتستبدلها بأصناف رخيصة (بدرجة رئيسية الأسماك) حتى يستطيع معها الزبائن الاستمرار بارتيادها.
مقهى "زكو" في قلب المدينة صار كتلة خرسانية صماء، وقيل إنه سيتحول بعد الانتهاء من تشطيباته، إلى فرع لشركة صرافة كبيرة، بعد أن تم تغيير نشاطه من مقهى إلى مطعم ثم إلى محل ملابس خلال السنوات الماضية، لكن بالمقابل لم تزل مقاهي مثل "كشر" و"سكران" تقاومان الفناء، تماماً مثل مقهى الشجرة في الشيخ عثمان الذي توسع نشاطه ليصير مقهى ومطعم شعبي.
لكن بالمقابل هناك، وفي قلب المدينة القديمة، لم يزل سوق البلدية رابضاَ بمكانه منذ سبعين عاماَ، ولم تتدخل أياد حانية لترميمه والاهتمام بنظافته، حتى صار محاطاَ بالقمامة وروائح المجاري الطافحة.
وبوضعه هذا صار أشبه بحالة مستعصية على البلدية ذاتها، فمنذ سنوات طويلة وهو على هذا الحال، حتى إن تنظيم وتجميل المنطقة المحيطة بها مثل "جولة الفل"، لم يلهم السلطة المحلية طرائق تفكير عملية لترميمه وتنظيفه بوصفه أحد معالم المدينة، التي توجب الاهتمام بها مثل بقية الأماكن السياحية في المدينة.
(**)
يستغرق تفكير واهتمام أبناء المدينة بكل شرائحهم شيئان اثنان:
أولهما: الخوف من موجة غلاء جديدة تبتلع الجميع مع دخول شهر رمضان، دون وجود أجهزة رقابة فاعلة تراقب الأسواق وتضبط المخالفين، وموجة مثل هذه ستضاعف من معاناتهم القائمة اليوم بسبب حالة الغلاء المتفشية، وستجعل من معيشة الجميع جحيماً حقيقياً.
وثانيهما: ارتفاع درجات الحرارة في ظل الانقطاعات الطويلة لشبكة التيار الكهربائي، وهي المشكلة الدائمة، التي لم تجد لها الحكومات المتعاقبة حلاً جذرياً، وإن الحلول الترقيعية والمعالجات الآنية هنا وهناك تعمق المشكلة أكثر في ظل غياب الرؤية والتخطيط.