مقالات

علي عبدالله السّمة.. فنان الشعب والحُب والجمال

13/11/2024, 07:21:55

لديَّ شعور عميق أن أي كتابة لي عن الفنان علي عبدالله السمة سوف تختلط بانحيازي له كفنان وشخصية تحمل هَمًا وطنيا وإنسانيا.

من المؤكد أنه يستحق كل ما يمكن أن يُقال عنه كفنان مبدع وشخصية فارقة، لكن انحيازي له يفوق نظرتي لأي فنان آخر، أياً كان مستوى فنه وإبداعه وتقديري له.

الفنان علي عبدالله السمة شخصية فارقة؛ لا لأنه كان منتمياً في أعماقه لليمن وناسها وحركتها الوطنية فحسب، بل لأسباب عديدة.

قبل كل شيء -قبل الفن والحضور العام- كان علي السمة منخطفاً بشغف نحو ما خُلِق من أجله، نحو الفن؛
كان لديه شغفه العميق بالغناء، وإيمانه بأن الفن هو طريقه للوجود، وتحقيق الذات.

تقرأ سيرته وبداياته، تحسّ بأنه كان مدفوعا بقوة كامنة في أعماقه ليكون فناناً. علي عبدالله السمة خُلق ليكون فناناً، ولم يكن بإمكان أي قوة أن تحول بينه وبين رغبته هذه التي استولت عليه منذ بداية إحساسه بالحياة والناس من حوله.

- بروفات أولى برفقة صديق طفولته وعُمره علي الآنسي

في ليلة ظلماء بعد صلاة العشاء، في أحد بيوت صنعاء القديمة، منتصف القرن الماضي، سمع مراد السمة (جد الفنان علي السمة) أصواتا خافتة في الدور الأول داخل منزله، وكان يُستخدم شبه مخزن للحطب، وغيره من مستلزمات البيت.

ظن الرجل في البداية أن سارقا قد دخل بيته، لكنه سرعان ما تبيّن أنه صوت غناء؛ تمتم يحدث نفسه هامساً:
ما بش سارق يغني!

نزل ليتأكد بنفسه، فوجد أمامه حفيدهُ الشاب الصغير علي عبدالله السمة، ومعه صديقه علي الآنسي، وثالثهما "جَلَنْ" مشدود الأوتار يستخدمانه عوداً للغناء.

أخذ الجد "جلن الغناء" فكسرهُ، ورمى به بعيداً، لكن الشابين، اللذين سيصبحان لاحقاً من أبرز فناني اليمن، كانا قد حسما قرارهما للمضي في طريق غير مألوف: اختارا الغناء، ولم يعد يمقدور أحد أن يحول بينهما وبين رغبتهما الجامحة هذه.

هذه القصة، التي سمعتها من إبنه الفنان محمد علي السمة، تعبّر عن المفتاح الأساسي في شخصية والده.

هذا الاختيار المبكر يقول لنا إن رغبة الفنان علي عبدالله السمة في الغناء كانت، منذ طفولته وشبابه، “النابض الأساسي” في شخصيته.

هذا التوق إلى الغناء هو الذي مكّنه من تجاوز كل العقبات، ومكّنه من أن يصبح فناناً متميزاً، وأتاح له تالياً أن يصبح الصوت الذي يعبّر عن الحُب والجمال والروح الوطنية، وأن يعبّر عن أرض اليمن وناسها؛
لا مجتمع حفزهُ على الحرية والتمرد واختيار الفن؛
لا حركة فنية وثقافية قوية -بالحد الأدنى- وجدت في زمنه، وأثرت عليه وحفزته للمضي في طريقه.

نعيش اليوم في القرن الواحد والعشرين، زمن الإنترنت والشاشات والتواصل الاجتماعي، وكلها غير كافية لتحفيز شاب في مستهل عمره للتمرّد واختيار طريقا فارقا لا يقرهُ زمنهُ ومجتمعهُ؛ فما الحال بزمن كان الغناء فيه من المحرمات؟!

بعد "بروفات الجَلَنٌ" بسنوات، كان الفنان علي السِّمة قد تجاوز العشرين عندما قاد شاحنة لنقل البضائع يملكها جده، ليذهب بعيداً في طريق مصيره الذي قرره بنفسه وإرادته الحُرة.

بوصوله تعز غادر شاحنة البضائع، وأرسلها لتعود إلى صنعاء، وأفرد جناحيه في طريق حدد اتجاه حياته كلها: طريق الفن الغنائي اليمني، الذي كان أحد أهم مجدديه في النصف الثاني من القرن العشرين.

- ألحانه المتميزة وكتابته الشعر في أغاني الحُب والجمال

ثلاث سمات ميّزت فن علي السمة: الحُب، الجمال، والوطنية اليمنية؛ هذه هي المواضيع الأساسية، التي تناولها في أغانيه؛ وكلها تدور حول الانتماء للوطن، الحب، والجمال.

هذا المزيج من الجمال والحب والوطنية يمكن تفسيره بكون “النابض الأساسي” لديه ليس مجرد تحقيق الذات كفنان فحسب، بل تعبير عن التواصل مع القيم الوطنية والإنسانية الكبرى، ومحاولة لصياغة فن جميل يعبّر عن هذه القيم ويكرّسها.

توزّعت الألحان الجديرة، التي أبدعها، على هذه الكلمات الثلاث: الحُب، الجمال، الانتماء لليمن وناسها.

أول أغنية من ألحانه "نظرة منك يا جميل المحيا"، وهي من كلمات الشاعر عباس المطاع، وهو واحد من أبرز ثلاثة شعراء غنى لهم، إلى جانب مطهر الإرياني.

"أهوى الجمال" أغنية أخرى من بداياته، ومن كلمات المطاع أيضاً، وفي الأغنيتين يبدو هاجس الجمال واضحاً في اختياره للكلمات، وطبيعة اللحن القادر على تحويل ما فيها من جمال إلى نغمات تتسرّب إلى قلب ووجدان من يسمعها.

بعض أغاني الفنان علي السمة عن الحب كانت تعبّر عن تجارب خاصة عاشها، وحوّلها إلى أغانٍ كتب كلماتها وأبدع ألحانها تحت نار الحُب المتقدة في قلبهُ؛ من هذه الأغاني "يا نعمتي والنعيم، ويا صبايا صبر، ويا طالعات الجبل قولين لمحبوبي.. ما زلت أنا منتظر جواب لمكتوبي".

كل إنسان له قصة، وكل أغنية حُب جيدة لها قصتها، وكل أغنية لها قصة تكون ملائمة لقصة أخرى عند سامع مجهول.

أجمل أغانيه كانت تتمازج تحت هذين العنوانين "الحُب والجمال"؛ عناوين مثل هذين نلحظها هنا، في أغانٍ شهيرة له، ساهمت في تشكيل وجدان اليمنيين، والتعبير عن تجاربهم وأحاسيسهم:
"الهوى والحب غلاب، يا كحيل العيون ودعتك الله، أنت المنى والحياة وأنت نور العين، يا ريم وادي بنا يا اخجم".

في نوع مغاير قليلاً، ضمن أغانيه الرومانسية، غنى السمة: " تودعته تودعته، لا تفكر يا حبيبي أنني بنساك، سالت دموع العين، شاهيم طول الليالي": موضوع هذه الأغاني هو الفراق، ويُقال إن أحاسيس الفِراق أعلى مراتب الحب.

مثل غيره من الفنانين، غنى الفنان علي السمة من التراث اليمني وأبدع فيه، غير أن الأغاني، التي لحنها وكتب كلماتها وجدد من خلالها في فن الغناء اليمني، هي ما ميّز شخصيته كفنان، وشكّل له نغمته الخاصة فن الغناء اليمني.

تأثر السمة بالفنانين فضل محمد اللحجي، الذي التقى به في عدن، وشارك معه في تأسيس الفِرقة الموسيقية في صنعاء، وكذلك تأثر بالفنان صالح العنتري، غير أن منجزه الغنائي كان تعبيراً عن فرادته الخاصة كفنان.

وعلى ذكر التأثير والتأثر، أضيف هنا معلومة جديدة سمعتها من ابنه الفنان محمد السمة: في أواخر الستينات تقريباً، غادر الفنان علي السمة إلى السعودية، وهناك أقام عدة سنوات.. جُل إقامته هناك كانت بقرب الفنان طلال مداح، الذي استقبله، وتعاون معه فنياً.

يتميّز طلال مداح بروح الأبوة الصادقة للفنانين الشباب، وكان الفنان علي السمة واحداً من هؤلاء الذين رعاهم طلال مداح وشجُع مواهبهم، وأثّر عليهم.

- انتماؤه للوطن والأرض

انحيازه لليمن، لثورتها، للناس، للأرض، كان واحدة من أهم ميزاته كفنان: بدأ ذلك مبكراً بعد ثورة سبتمبر 62 وقيام الجمهورية، شارك في تأسيس الفرقة الموسيقية في صنعاء، وكان أحد أعضائها النشطين والمتحمسين.

من أغانيه الوطنية: "مرحى مرحى سبتمبر، ثورة الشعب الأبي، يا حبيبة يا يمن، يا قافلة عاد المراحل طوال”.

أغنية واحدة تُدْرَسْ يمكن أن تتيح لنا معرفة مرحلة تاريخيّة أفضل مما تفعله كتب السياسة والتاريخ.

من أغانيه الوطنية الفارقة؛ غنى للشاعر والمؤرخ مطهر الإرياني أغنيتين: الباله، وفوق الجبل:

فوق الجبلْ حيث وكر النسر فوق الجبلْ
واقف بطل محتزم للنصر واقف بطل
يزرع قُبَلْ في صميم الصخر يزرع قُبَلْ
يحرس أمل شعب فوق القمة العالية

قمة إبداع الفنان علي عبدالله السمة تجسّدت في ملحمة "الباله": هذه ليست أغنية بل ملحمة جسّدت اغتراب اليمني وعذابه الطويل داخل بلده وفي المهاجر التي شد إليها الرحال؛ بحثاً عن فرصة حياة.

هذه الأغنية / الملحمة تحتاج مقالة كاملة لدراستها وإستقصاء أبعادها، كُتب حولها الكثير، غير أنها ما زالت أرضاً بكرا، تتوهج وتزداد جمالاً كلما تقادم بها الزمن.

وضع مطهر الإرياني وعلي السمة في هذه الأغنية بصمتي شخصيتهما كاملة؛ الأول كشاعر تجري اليمن في كل ذرة من كيانه، والثاني كفنان تمازجت روحه مع تربة اليمن ونبض ناسها وخلجات قلوبهم:

والليلة البال ما للنسمة السارية
هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البُن فيها الهمسة الحانية
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية

والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد
ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد
قلبي بوادي بنا وأبين ووادي زبيد
هايم وروحي أسير الغربة القاسية

- خاتمة

وصَفْت الفنان علي السمة -في بداية مقالي- بأنه ”شخصية فارقة”، وأضيف إليها في خاتمة المقال صفة أخرى: إنه شخصية ملهمة. ذلك أنه لم يتجاوز التحديات الشخصية فقط ليكون فناناً، بل ساهم في إحداث تغيير ثقافي واجتماعي من خلال إصراره على إبداعه وتفرّده.

شخصية كهذه تترك أثراً يتجاوز إنجازاتها الفردية، إذ تصبح رمزاً للطموح والإبداع في بيئة لم تكن تعترف بقدرة الفن على تشكيل الوعي أو تغيير واقع الناس.

لم يكتفِ السمة بالغناء والتعبير والتأثير من خلاله؛ لقد ذهب أبعد من ذلك: انتمى للحركة الوطنية (الحزب الديمقراطي الثوري)، وهو انتماء نابع من رغبته في التجذر والاعتزاز بهويّته، رغم التحديات التي واجهها.

الجمال والحُب والانتماء العميق لليمن: يعبِّر الحب والجمال عن سعيه لإضفاء العُمق والبهاء على أغانيه وتجربته كفنان؛ كان الحُب دافعه المحرك لإبداعاته الغنائية مثلما كان الانتماء لليمن دافعه لإبداع أغانيه الوطنية، وفي ذروتها "ملحمة الباله".

هذه المواضيع، التي شكلت أغراض شعره وأغانيه، أتاحت له ليس فقط التعبير عن ذاته، بل وتجسيد انتمائه الواعي والعميق لليمن وللناس من حوله، وخلْق عالم من الحُب والجمال، جسدته أغانيه، وكان مساهمته الإبداعية لتغيير ذوق عصره ومجتمعه.

عبّرت أغاني الفنان علي عبدالله السمة عن جوهر وطني وجمالي وإنساني كبير، يدعو إلى المحبة والجمال: المحبة والجمال باعتبارهما رافعتي الارتقاء الشخصي والاجتماعي.

مقالات

أبو الروتي (6)

في الأيام، التي تلت مغامرة دخولي السينما، كنت كلما التقيت بأبناء قريتي، الذين سبقوني في النزول إلى عدن، وسبقوني بالدراسة، يستوقفوني، ويسألوني عن السينما، ويقولون لي: صحيح -يا عبد الكريم- دخلت السينما، والا يكذبوا؟!".

مقالات

"الرواية والثقافة والمثقف"

قد نتّفق جميعاً على أن الرواية عمل أدبي عظيم، وربّما عند البعض هي أعظمها، ولكن علينا أن لا ننسى أنها جزء أو شكل واحد ضمن أشكال عدة في الأدب، وأنها في علاقتها بالثقافة أيضاً تصبح جزءا أصغر ضمن ذلك التركيب، الذي يشمل البنية الفوقية ككل، وفقاً للتعبير الماركسي، أو بحسب أحد التعاريف التي أظنها مقبولة للثقافة بأنها: ذلك الكل المعقد الذي يتكون من الدين والفن والأدب والفكر والعلوم والقانون والعادات والتقاليد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.