مقالات

عن ذكرى "استعادة" عدن الميناء وخطاب "المعايرة"!

06/04/2024, 19:47:07

دائماً ما يحضر الاحتفاء بتحرير عدن من سيطرة مليشيا الحوثي - وصالح وقتها- في معرض النكاية بقوى مقاومة الحوثي في المحافظات الشمالية!

ولطالما تكررت هذه المعزوفة اللزجة على أفواه نشطاء وسياسيين، والكثير من الحمقى والسذج طيلة السنوات الفارطة: "احنا حررنا أرضنا روحوا حرروا غرف نومكم".

على أن " أهزوجة" الأطفال هذه بقدر ما تفصح عن الإستراتيجية التي اتبعها الفاعلون الإقليميون في الحرب، فإنها تكشف عن فداحة وعي القوى التي تردد هذه المقولة الغبية تلبية لحملة إعلامية يشنها الممول.

في هذه الذكرى، يجري بصورة مركزة اختلاق سردية تصنع أبطالاً مزورين فضلاً عن أساطير "الحلفاء" الذين خرقوا الخطط العسكرية "الكلاسيكية" واستطاعوا تحقيق انتصارات خارج المألوف!

في الواقع، وقبل أن يقرر التحالف إطلاق ما أسموه وقتها "عاصفة الحزم"، فإن اليمنيين شمالاً وجنوباً جابهوا هذه المليشيات، حتى إن محافظة كإب قاتلت الانقلاب وواجهت أطقم مليشيا الحوثي في مداخل المدينة، وفي ضواحيها قبل أن تخمدها الألوية العسكرية الموالية لصالح، ودعم انتفاشته حتى آخر مدينة يمنية.

وفي مطلع "العاصفة"، استطاعت مقاومة هذه المحافظة، بدعم ذاتي، تحرير 9 مديريات، لكن التحالف، الذي فوجئ بتلك الانتفاضة، لم يكن مستعجلاً، وقرر إعطاءها ظهره، فواجهت منفردة مصيرها، لتتحول إلى مأساة ستتكرر خلال سنوات الحرب في عتمة وحجور وحيمة تعز، بل إن تعز نفسها المحاصرة من 9 سنوات كانت أكثر قصص الخذلان المقصود وضوحاً.

غير أن خطاب "المعايرة" البائس للشماليين ليس سوى ضرباً من العته والمراهقة، إذ أن الحجج أكثر من أن تسرد.

اجتاز الجيش والمقاومة سلاسل جبلبة قاسية تستحيل على قوى عسكرية كبرى، وصولاً إلى تخوم مطار صنعاء، ثم تبيّن بعد غضب التحالف من أمريكا أن الأخيرة كانت تمنع السيطرة على العاصمة.

لا شك أن فساد إدارة الحرب قد تسبب بالكثير من الكوارث، لكن ذلك جزء من إشكالية كبرى لها علاقة بأهداف التحالف نفسه، وطريقة إدارته للمعركة، وارتهان الشرعية التام له، بالإضافة إلى القوى الكبرى التي تحدد مسار ونقاط الحركة والاشتباك.

يمكن أن تتضح صورة المشهد أكثر إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الدول الداعمة لانقلاب صالح والحوثي، ومن خلفهما إيران، كانت هي نفسها التي وجدت نفسها "فجأة" بعد أشهر تقود "عاصفة الحزم" لإنهاء انقلابه، في واحدة من أكثر صور الملهاة العربية عبثية!

وإذا عدنا إلى مقابلات رسمية لقادة "العاصفة"، فإن الخط الأحمر الوحيد الذي رسمته العاصمة العربية الكبرى أمام قوات صالح والحوثي: الاتجاه نحو عدن.

ضمنياً كان ذلك يعني إباحة الشمال للانقلاب، ولعل ذلك ما يتفق مع ما انتهت إليه الأمور راهناً بالجملة!

لقد قاتل أبناء عدن من كل الأطياف والمناطق اليمنية، وكان نائف البكري، المكلف محافظاً للمدينة، بعد أن طعنها بن حبتور في الظهر، يقود المقاومة، وينظم صفوفها، وهناك الكثير من القيادات العسكرية الجنوبية اليمنية، التي قادت المعارك على الأرض بعد إنجاز التخطيط على الورق.

يحضر المحافظ، لاحقاً، جعفر محمد سعد، الذي مثل مقتله الغامض البداية الأولى لمسلسل التصفيات، كما يحضر القائد العسكري سيف اليافعي وعبدالله الصبيحي، وقبلهم هادي ناصر، كأول القادة الميدانيين الذين صاروا في ذمة الله!

ربما سيتوجب علينا أن نعترف بأن الكفاءة الإماراتية في إدارة مسرح العمليات كان لها دور مهم، لكن طبوغرافية المدن الساحلية تجعلها سهلة أمام أي غزو عسكري، لا سيما مع حالة ضعف، إن لم يكن الانعدام التام للقوات البحرية، وانهيار القوات والدفاعات الجوية، من طرف قوات الانقلاب منذ الضربة الأولى.

هذا النوع من المعارك السهلة، التي تحتاج إلى عنصرين رئيسيين: قوات مشاة على الأرض، وغطاء جوي، كان هو امتياز الإمارات التي وجدت نفسها تقود الانتصارات على طول الشريط الساحلي بمقاتلين يمنيين وصولاً إلى مداخل مدينة الحديدة.

لقد استعان التحالف بأطراف وتشكيلات عديدة لقتال الحوثيين في عدن، ليس من ضمنها هذه القوة التي تهيمن عليها الآن، كما أن عديد قيادات جرى إبعادها بطرق مختلفة لهندسة وضع جديد يتفق مع أهداف أصحاب العاصفة.

مع ذلك، فإن الذين يسيطرون على الوضع اليوم في عدن، بعد جولات من المعارك مع الشرعية، ما زالوا مجرد فصائل لا تنتظم في هيكل واحد، وخيوطها القيادية مربوطة بيد المتصرف الأوحد!

هذا يعني في ما يعنيه أن بناء دولة جنوبية مستقلة ليس هدفاً، ويتم توظيفه إعلامياً وسياسياً كحافز "شعبوي" للمتعصبين، لكن مستقبله ستحدده مصالح المموّل وكوكتيل طويل عريض من الحسابات الإقليمية والدولية!

والمؤكد أن هذا الشعار كان فعالاً للغاية في تقويض الحرب على الحوثي، وبعثرة اليمنيين، وتيسير مهمة "الحلفاء" في تحقيق أهدافهم الخاصة.

يعلم الحلفاء قبل غيرهم أن تشتيت أهداف المقاتلين هو المقدّمة الحتمية لانتصار عدوهم، وذلك ما يحاول التحالف تجريعه لليمنيين بعد 9 سنوات حرب.

إن رغبة الإمارات في "استعادة" عدن كانت الحافز الأهم لدولة منحتها القوى الدولية الكبرى مساحة للاهتمام بالموانئ والمدن الساحلية في ممرات التجارة العالمية الحيوية. وهي رغبة مضاعفة بالنسبة لدولة وجدت نفسها مطرودة في أعقاب انتفاضة 2011 من إدارة موانئ عدن. 

والأرجح أن هذا "الجرح النرجسي"، فضلاً عن التكليفات الدولية، كان وراء موقفها المندفع وراء دعم انقلاب "الحوثي - صالح" بأموال طائلة، وفقاً للتصريحات الشهيرة لضابط الاستحبارات السعودي أنور عشقي للقضاء على "حزب الإصلاح".

ولسوف يغدو هذا الحزب عنواناً لمعارك الإمارات العديدة، تحت غطاء "العاصفة"، وقد نجحت في تحقيق أهدافها كاملة: من وضع اليد على الجزر والمنشآت الحيوية، إلى المدن الساحلية والموانئ، في القلب منها عدن.

وعدن هي الميناء الذي جعل للمدينة صيتاً عالمياً عندما كانت تنافس ميناء نيويورك في سبعينات القرن الماضي، وكان بعض قادة الانتقالي حالياً، مثل لطفي شطارة، يكافح في عهد صالح لفضح فساد صفقة منح ميناء عدن لإدارة موانئ دبي، وكانت حجته موضوعية وثابتة، إذ أن من شأن ازدهار ميناء عدن أن يضرب ميناء "جبل علي" الإماراتي، الذي يدر سنوياً أكثر من 80 مليار دولار!

الراسخ أن الأهمية الجغرافية لعدن لم تتغيّر إذ مازالت الجغرافيا تمنحها أهمية بالغة في طريق التجارة العالمي، وتتزايد أهميتها مع مشروع الحزام والطريق الصيني الضخم.

وإذا كان الميناء قد عُطل في عهد صالح، بوجود شبه الدولة، في ظل إدارة موانئ دبي، بشهادة "شطارة" القديمة، فكيف ستتصرف الإمارات وقد صار الميناء والبلد بكله جزءاً من غنائمها؟

لقد حدثت وقائع كثيرة تنطوي على سخرية كبيرة من مختلف الأطراف اليمنية، التي قاتلت بدعم التحالف: من القصف الجوي المتكرر للجيش وقوى المقاومة إلى سقوط نهم، وتسليم أكثر من مائة كيلو متر من سواحل الحديدة للحوثي بعد التضحية بالآلاف.

أما التصرف بأرخبيل سقطرى الإستراتيجي، ومقايضته مع قوى إقليمية ودولية لتحقيق مصالح دولية لأهل "العاصفة"، وكأنها جزءٌ من أرضهم، فقصة أخرى صاعقة وثقيلة على النفس.

والآن يجري التفاوض بين أطراف إقليمية باتت هي المتصرف بالشأن اليمني، لتقرير مصير البلاد، ثم يصرخ أحدهم منتشيا داخل فقاعة وهم كبيرة: "حرروا غرف نومكم!".

يمكن إيجاز ما حدث في حرب اليمن بهذه العبارة: من أراد استعادة عدن الميناء للإمارات وإفشالها كعاصمة حتى لسكانها من همجية النهابة هو نفسه الذي قرر الاحتفاظ بالجزء الأكبر من الشمال لإيران.

وربما ليست مصادفة أن هذه الخريطة، التي تتقاسمها إيران من جانب والسعودية والإمارات من جانب آخر، هي نفسها مقترحات الرئيس الأمريكي أوباما قبل الحرب!

ما يجب قوله في هذا المقام هو أن اليمنيين في الشمال والجنوب، كشعب، ضحايا سياسات إقليمية ودولية، تلاعبت بهم، وهم في الأساس ضحايا قوى متغطرسة طائفية داخلية، يقف على رأسها الحوثي، ثم تأتي نخبهم كمصدر لفشل الدولة وتمزّق كيانها.

هل هناك طرف يمني يمتلك مصيره (من الحوثي إلى الشرعية والانتقالي) حتى يتفشى خطاب "المعايرة" العرة هذا؟

-------

* صحفي وكاتب 

باحث

دكتوراة في علوم الإعلام والاتصال بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس

مقالات

السلام مع ذيل الكلب!

منذ سنوات طويلة، ونحن نقرأ أو نسمع عن السلام في اليمن، وعن تسوية سياسية، وعن حوار عبثي، وعن رحلات مكوكية، بين العواصم التي تخوض معاركها على الأرض اليمنية، والضحايا هم اليمنيون فقط.

مقالات

عن الأحكام التي تسبق الجريمة

أظن أن النفس البشرية، حتى في أشد حالات نزوعها نحو الشر والجريمة، تبحث في الغالب عن مبررات لأفعالها، ومنها تلك الأحكام الذاتية التي يطلقها الإنسان على غيره، قبل أن يرتكب في حقهم جرما معينا، وهذه الأحكام غالباً لا تمت للقيم الإنسانية بصِلة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.