مقالات
عن "شدو خيوط".. أو اليمن المزروعة بالأغاني (1-2)
بقي هاجس استحداث زاوية خاصة بالأغاني في منصة "خيوط" يراود تفكير هيئة تحريرها منذ إطلاقها في مارس 2020م، لجهة التوثيق للفن اليمني، بعد تعرضه لتجريف طويل، وتشويه متعمد في ظل تساهل المؤسسة الرسمية، وكان على رأس الأسئلة الحاضرة والملحة أمامها: كيف سيتم التنفيذ مع الحفاظ واستدامة النشر في هذه الزاوية؟
كانت هناك مجموعة من الفيديوهات قد تم تحضيرها بمبادرة فردية، لمقاطع من الأغاني اليمنية المعروفة لا يتجاوز سقفها الزمني دقيقتين للفيديو الواحد، مدوّن عليها أسماء أغاني الفنانين والشعراء والملحنين، فكان أن استقر الأمر في أكتوبر 2022 على أن تستحدث زاوية باسم "شدو"، يكون الفيديو مركزها مشفوعاً، في الوقت ذاته، بنصٍ مُعرِّفٍ بقصة الأغنية وتفاصيلها مثل: سيرة الفنان، وكاتب الكلمات وملحنها، بالإضافة إلى كلمات الأغنية ذاتها.
وبعد الاطمئنان إلى مخزون كافٍ من الفيديوهات لثلاثة أشهر، أطلقت المنصة أول أغنية في الزاوية، في 6 أكتوبر، وكانت أغنية "يا طبيب الهوى" للفنان أحمد السنيدار، وهي بالمناسبة أوّلُ قصيدة غنائية كتبها الشاعر عباس علي الديلمي، وهو في سنّ السادسة عشرة، حينما كان طالبا في الصف الأول الإعدادي في مدرسة الكويت بالجحملية - تعز.
قال الديلمي للمحرِّر إنه أرسلها لإذاعة صنعاء، في العام 1968، وأذيعت في بريد المستمعين، الذي كان يُشرف عليه الراحل إسماعيل الكبسي، وأنّه طلب تسليمها للفنّان أحمد السنيدار، الذي كان يعمل وقتها في إدارة التنسيق بمكتبة الإذاعة مع الفنّان علي الآنسي، وكان نجمه كفنان قد بدأ بالظهور، ليشكِّل تالياً مع الشاعر أحمد عبد ربه العواضي ثنائيّاً فنيّاً لامعاً في صنعاء.
سرعان ما تلقّف السنيدار القصيدةَ، وأبدع فيها لحناً وأداء؛ لأنّها -كما قال للشاعر الشابّ لاحقاً- وافقت هوى في نفسه، حينما كان هو الآخر يمرّ بتجربة عاطفية عاصفة.
يا طبيب الهوى بالله داوي لهيبي
جُدْ ببذل الدواء فالحب كثَّر نحيبي
يا طبيبي أنا أمسيت أدوِّر حبيبي
والفؤاد في ضنى ولا تَحقّق نصيبي
يا نجوم السما بالله ردّي وجيبي
أين غصن القنا وأُنس عيشي وطيبي؟
أين عَذْب الْلَّمَى فليس غيره طبيبي
من وشَى بيننا؛ هل عاذله أم رَقِيبي؟
يا سحَر هل ترى مَن للشقاوة رضي بي
من رضي بالفنا للقلب؟ ما هي ذنوبي؟
آه يا أهل الهوى بالله ردّوا حبيبي
بلغوه إنَّ انَا هايم وهو ما درى بي
بعد أسبوع من إطلاق الزاوية، حلت ذكرى ثورة الرابع عشر من أكتوبر، فكان من المهم تدبُّر أمر أغنية صالحة للمناسبة، فتم إنتاج فيديو قصير بأنشودة "الله الله يا اكتوبر" مع تقديم خاص بها، وتعريف بالشاعر والملحن والفنان، فكان أن ظهرت بهذا التقديم:
"كثيرةٌ هي الأغاني والأناشيد الوطنية التي تغنّت بثورة أكتوبر المجيدة، وواكبت مناسباتها طيلة عقود، وكثيرون هم الشعراء الذين كتبوا لهذه المناسبة، وتلقّفَ ما كُتِبَ مُلحِّنون ومطربون كبار، لكن تبقى أنشودة 'الله الله يا أكتوبر' من أعذب وأصدق ما كُتِبَ وغُنِّيَ للمناسبة".
منذ أكثر من نصف قرن، وهذه الأنشودة تتجدّد كلّما حلّت الذكرى، وتعيد التذكير بالشاعر الغنائي الكبير عبدالله عبدالكريم، الذي أبدع كلماتها السهلة البسيطة، وتعيد التذكير أيضاً بالفنّان الراحل يوسف أحمد سالم الذي لحّنَ وأنشد أبياتها التي تُحفر عميقاً في الوجدان والذاكرة:
الله الله يا اكتوبر
الله على نورك في بلدنا
الفرحة بقدومك تكبر
يا أحلى وأجمل أعيادنا
أكتوبر يا عيد الثورة
حطمنا فيك الأسطورة
وهتفنا لما تحررنا
يا سلام على نورك في بلدنا
الله الله يا أكتوبر.
وفي الثلاثين من نوفمبر، قامت المنصة بنشر مادة عن أنشودة "أيا ثورة الشعب دومي منارا"؛ وهي أول أنشودة أذيعت صباح الاستقلال، في 30 نوفمبر 1967، لتصير مع الوقت أحد مرموزاتها الكبرى. كتب كلماتها الشاعر حسين عبدالباري، وألحان محمد محسن (المحسني)، وغناء الفنانة رجاء با سودان:
تقول بعض كلمات الأنشودة:
أيا ثورة الشعب دومي منارا
فإنّا بهدي ضياك اهتدينا
لجأنا إلى شامخات الجبالِ
ومن شامخات الجبال ابتدينا
* *
عمدنا إلى رأس أوراسنا
وردفان أوراسنا أجمعين
حملنا إليه سلاح الكفاح
نصوّبه نحو مستعمرين
قضية شعبي رفعنا مداها
إلى مستوى ثورة الثائرين.
الشاعر الذي كتب الكلمات هو حسين عبدالباري؛ شاعرٌ وأديب يمنيّ معروف، من مواليد منطقة البريقة بعدن. عُرف من خلال مجموعة قصائد غنائية أدّاها مطربون معروفون، من هذه القصائد "فين التقينا وشفتك فين"، التي أدّاها الفنّان الراحل محمد صالح عزاني، وصارت مع الوقت من الأغاني الخالدة، وغنّى له فنّان لحج حسن عطا، قصيدته الذائعة "يا ما احْلى ذا الجميل ما احلاه"، وتبقى قصيدة «أيا ثورة الشعب دومي منارا» هي العنوان الوطني الأبرز لهذا الشاعر المنسي.
أما الفنّانة هي: رجاء باسودان، التي استطاعت بصوتها المتميز البديع إنهاء الخصومة بين جماهير عدن المنقسمة بين الفنان أحمد بن أحمد قاسم، والفنان محمد مرشد ناجي، في ستينات القرن المنقضي، فصار جمهور المرشدي يذهب إلى مسرح البادري والملعب البلدي في كريتر، لسماع الفنّانة رجاء باسودان في حفلات يكون نجمها الفنّان أحمد قاسم، وبالمقابل يذهب جمهور أحمد قاسم إلى حفلات تحييها رجاء مع المرشديّ وفنّانِي الشيخ عثمان في مسارح وسينمات المدينة.
هذه الفنّانة تعرّضت في بداية مشوارها الفنّي، الذي بدأته ضمن فريق الثلاثي اللطيف، الذي شكّله الفنان أحمد قاسم مطلع الستينات من ثلاث فتيات صغيرات؛ هي، وصباح منصر، وأم الخير عجمي، تعرّضت لضغوط أسرية لترك الغناء، ولولا وقوف والدها معها لكان صوتها قد وُئِدَ في مهده، ولم يجترح كل ذلك الفرح ولم يزل.
يقول عبدالقادر خضر: "إنّ والد الفنّانة رجاء هو الشخصية المرحة والشجاعة والعنيدة، عبدالقادر باسودان، الذي وقف بكل صلابة إلى جانب خيار ابنته الشابّة وموهبتها الفنيّة في وجه العائلة في حضرموت وعدن، التي رأت في احتراف ابنتهم للغناء خروجاً فاضحاً على التقاليد الاجتماعية".
أغنية "المسكونين بالحنين" هي أغنية الفنان الراحل محمد علي ميسري "يا عم منصور يا مروّح البلد"، التي كتب كلماتها ولحنها وأداها، وقال عنها -لاحقاً-
"كتبُتها متأثراً بالحنين إلى الوطن والأهل، وبلواعج نيران البعد والغربة والاشتياق؛ فقد كنت حينها في كوريا [الشمالية] مشارِكاً في أحد المهرجانات الشبابية ضمن وفد اليمن [الجنوبي]، فهفت نفسي إلى بلادي وأهلي، وشعرت بحنين جارف وشوق كبير للوطن، فبدأت أكتب الكلمات كمقدمة عمل جديد يُعبِّر عن هذا الشعور، وبدأت فعلاً في وضع اللحن بعكس طريقتي المعتادة، ثم استكملت الكلمات واللحن بعد عودتي للوطن بثلاثة أشهر، ثم قدّمت الأغنية هذه لأول مرة في الكويت عندما كنت في زيارة لها".
تقول كلمات الأغنية:
يا عم منصور يا مروّح البلد
سلِّم على أهلي شيبتهم والولد
وبلّغ الشوق باهي الوجن والخد
من حلّ في الحشا حبّه وفي الكبد
شوقي لهم زاد ولوعتي أشد
ما طاعني الرقاد أصل الغربة نكد
أمسي مع الليل ضناني القهد
لا عيش طاب لي ولا جفن لي رقد
ومثل كثير من الأغاني اليمنية الذائعة، تم السطو على "يا عم منصور"، وتم تنسيبها لواحد من الفنانين الخليجيين بعد غنائها الأول في الكويت، إلى جانب أغنيتين أُخرَيَين تم السطو عليهما، وهما: "ليش زعلان مني"، و"شي معك لي أخبار"، كتب كلماتهما الشاعر عبدالله مقادح.
- عن الفنان:
من مواليد منطقة دثينة (مودية) في محافظة أبين، في 1947، وتُوفِّي في أحد مشافي عدن في فبراير 2016، بعد مرضٍ طويل، وبين الميلاد والوفاة تحضر سيرة الميسري كقامة فنّية وتربوية كبيرة، ابتدأها حينما كان مُعلِّماً في مدينة مكيراس في العام 1962، بمعية مدير المدرسة بامقيبل (حضرمي كان يهوى الموسيقى ويمتلك عوداً، لكنه لم يك يجاهر بهوايته بسبب مكانته)، وحينما غادر بامقيبل مكيراس، في 1965، أهدى العود للميسري، الذي عاد به إلى دثينة كأول "آدمي في المنطقة يعزف ويغنّي، فبدأت تواجهه بعض المشاكل والصعوبات من بعض الأفراد في المجتمع، ولكنه اجتازها، وبدأ يجمع حوله بعض الشباب في المنطقة الذين شكّل بهم أوّل ندوة موسيقية في تاريخ مودية في آواخر نفس العام".
استمرت الندوة الموسيقية في دثينة، التي أخذت تسميتها بالمشابهة من "الندوة الموسيقية العدنية" و"الندوة الموسيقية اللحجية"، في نشاطها حتى العام 1968، حينما تم تغيير اسمها إلى "فرقة فحمان الموسيقية"، لتشارك بعدها في العديد من الفعاليات الفنّية في المناسبات الوطنية والثقافية، ومعها سيحقّق الميسري الكثير من الانتشار، وستغدو أغنيته المعروفة "يا فلاحة" عنواناً عريضاً في مشواره الفني، التي تقول بعض كلماتها:
يا فلاحة فوق السوم عيونك سبوني
وضحكات الشفايف صادوني وكووني
وروَّحتْ يا غالي وطيفك في خيالي
وذكرك في بالي واسمك في العلالي
ويقول الميسري عن هذه الأغنية إنّه كتب كلماتها أثناء عودته مع مجموعة من أصدقائه من منطقة المحفد في 1969، وقفزت إلى ذهنه حين شاهد مجموعة من الفلاحات وهنّ يفلحن الأرض، ويشاركن في الحصاد، ويسرن فوق الأسوام يحملن الحشائش على رؤوسهن، فتأثّر بهذا المنظر، وكتب القصيدة، التي اعتبرها أول أغنية تكتب لهذه الشريحة من المزارعين في اليمن.
(يتبع)