مقالات
عن هذه الصورة وهذا الحنين!!
لا أدري لماذا حينما أشاهد صوراً قديمة لمدينة تعز، أو يمرُّ طيف ما بذاكرتي عن الوجوه والأمكنة والأحداث، يعود بي الحنين منهمراً إلى ذلك الوقت الجميل، الذي تسرَّب من أعمارنا مثل ماء بارد نقي في صيف قائض.
هذه الصُّور، التي وجدتها في صفحة صديقي المبدع فهد الظرافي، أعادتني إلى صباحات السوق المركزي الباكرة، حينما كانت تختلط فيها روائح النعناع الأخضر الذي تحمله، في قففهن، نساء صبر وثعبات، مع روائح قهوة البُن والشاي بالحليب، الذي يتصاعد من "كتالي" صالح ماوية و"دلال" الأصوع، ويختلط برائحة البحر التي تخرج من ثلاجات الصيادين المملؤة بأسماك البحر الأحمر ومضيق باب المندب، التي وصلت على سيارات دفع رباعي منذ الصباح الباكر إلى السوق؛ تختلط مع روائح الليمون المجلوب من مناطق المفاليس بالقرب من طور الباحة.
أصوات المقرِئين التقليديين (عبد الباسط عبد الصمد، ومحمود خليل الحصري) المنبعثة من مسجلات بعض المحلات، وكانت تتواجد لهذا الغرض فقط، تتداخل مع أصوات المتسوِّقين والباعة المبكِّرين، غير أن أصوات مذيعي البي بي سي (ماجد سرحان، هدى الرشيد، سلوى جراح، رشيد رمضان، وغيرهم)، المنبعثة من الراديو العتيق القابع أمام والدي في دكان الحاج سعيد عمرو، هي التي لم تزلْ تغزل في الذاكرة تفاصيلها، التي بمقدوري لمسها ناعمة وطرِية.
الصبريات الشابات بثيابهن الريفية المميّزة أول من يتواجد في السوق في الصباح الباكر، ويحملن في قففهن وسلالهن الكثير من المنتجات الموسمية، التي ينتجها الجبل وقرى ثعبات وحسنات في سفحه الشمالي الغربي، وكانت رائحة النعناع والريحان كثيراً ما تسبقهن، وكُن يقمن بتوزيع مجلوباتهن من الخضر الورقية على بائعي الخضر في البسطات والمفارش والحوانيت في المحيط، وعند العاشرة يعدْن للمِّ الغلّة من أصحاب المفارش، قبل أن يغادرن باتجاه الباب الكبير، حيث موقف سيارات الدّفع الرباعي لندكروزر القديمة (الصوالين)، حيث سيغادرن إلى الجبل، وقد حملن بقفافهن أيضاً حاجتهن من السوق، وكذا طلبات أهل القرى.
في هذا الوقت، ستفسح الشابات الصاعدات مجالاً لنازلات أُخريات من الجبل. هن أكبر قليلاً وأكثر خبرة بالسوق، ومنتجهن أكثر طلباً وأغلى قِيمة، وموعد تصريفه يبداً من قبل ظهر كل يوم في كل حال. إنه 'القات'، الذي بحاجة إلى بائعات مدرَّبات، يعرفن كيف يلتقطن المشترين بكثير من الفوائد.
يتوزّعن في الأسواق المهمّة، مثل: المركزي، والباب الكبير، وباب موسى، وبعض الأسواق الثانوية في 'التحرير'، لبيع 'قات' الجبل الذي كن يجئن به مغلفاً بأوراق الذُّرة اليابسة أو نبتة "العُثرب"، أو المناديل البلاستيكية الملوَّنة، ويبعنه بمسمّيات موسمه مثل: "المثاني، والمبرح، والشرو، والجدة".
كان للحاج سعيد عمرو، في فترة من الفترات، بائعة 'قات' مُخصصة اسمها "شريفة"، تصل بمناديلها الخضراء والحمراء، الموضوعة بعناية بشِوَال صغير أنيق فوق رأسها، ولا يجاريها في مسابقة كلماتها السريعة والحاسمة غير أصوات المعدن اللامع الذي يغطّي ساعديها وصدرها وأذنيها.
الكثيرون كانوا لا يفرِّقون بينه وبين الذَّهب الحقيقي للسبْكة، التي أتقنت بها صناعة هذه "الغواشي والحلق".
وحده الحاج كان يضحك كثيراً حينما يرى استغراب الناس من لبسها كل هذا الذّهب، وكان يقول هذا ذهب "فالصو"، أي يعني مزيَّف وعديم القِيمة.
في بعض العصاري اللاحقة، كنت أبقى لوقتٍ جوار الباب متأملاً استعدادهن لمغادرة المدينة، بعد أن أنهين بيع 'قاتهن' وخضرواتهن في الأسواق القريبة.
كانت السيارات الصوالين “لاند كروزر” العتيقة موديل 75، هي التي تقلّهن إلى قرى الجبل قبل تعبيد الطريق.
يكنَّ، في هذا الوقت، قد ملأن قفافهن وصحافهن المعدنية ببضائع مختلفة. في حين لا تتحرّك السيارات، في طابور واحد من ثلاث أو أربع سيارات، إلاَّ بعد أن تتفقّد النساء بعضهن البعض. بالتأكيد ستكون سيارات أخرى غير السيارات المغادرة قد أقلّت قبل ذلك بعضهن، وخصوصاً أولئك اللواتي يرتبط تواجدهن في المدينة بخضار وفواكه البُكور.
بعد أكثر من أربعين عاماً تستيقظ هذه الصورة بكل انهمارها وشجنها، لكنّي في "في زيارتي الأخيرة إلى تعز، قبل عام تقريباً، وجدت بعض النساء المُسِنات لم يزلن يزاولن مهنة بيع 'القات'.. طبعاً لم يعدْن بالكثرة ذاتها، حتى 'القات' ذاته صار يُستجلب معظمه من أماكن غير جبل صبر، الذي غدا إنتاجه شحيحاً بسبب الجفاف، وتآكل الرِّقعة الزراعية، وهجرة مهنة الفلاحة، حتى النساء الصبريات اللواتي لم يزلْن يبعْن الفواكه وبعض محاصيل الجبل من البقوليات، ويمكن مشاهدتهن في أسواق المدينة (المركزي، وباب موسى، والباب الكبير)، يجلبْن معظم الفواكه من سوق الجُملة؛ وإن أغلب البائعات لم يعدْن صبريَّات ينزلْن إلى المدينة ويعدْن إلى قُراهن كما كان يحدث في الماضي، فقد صار أغلبهن من قاطنات المدينة، ويتزيّن باللباس التقليدي لنساء الجبل، لإبقاء ذلك الرِّباط الوجداني قائماً مع إرث الجبل وعلاقته بسوق المدينة".
وفي قراءة لهذه الحالة نشرت، عنونْتها بـ"عن سؤال فرانك مراميه، ونساء صبر، ومدينة تعز!" (*) عددت فيها أسباب كثيرة بالإضافة إلى ما ذكرناه، ساهمت في تقليص حضور المرأة العاملة في حياة المجتمع، ومنها تزايد واستكلاب الظلامية السياسية والاجتماعية، التي بدأت تتغلغل في الحياة العامة في المدينة وعموم اليمن، منذ أواخر السبعينات.
سبب ثانٍ لهذ التقلّص، هو استزراع مساحات واسعة بشجرة 'القات'، في مناطق لم تكنْ تزرع فيها أصلاً، في أرياف تعز القريبة والبعيدة، ومع تعاطي قطاع واسع من التركيبة السكانية هذه النّبتة، صار الطلب على 'القات' الأكثر رخصاً، والذي يُباع في أسواق مزدحمة لا يُشاهد فيها نساء يزاولن مهنة البيع فيه، وإن الأسواق التقليدية في المدينة التي كانت تتواجد فيها مثل هذه البائعات، فبالكاد تشاهد النادر منهن مفترشات الأرصفة والأزقَّة، يبعنْ 'قاتاً' لا يتميَّز بجودة مختلفة عن المعروض في السوق، ولا يختلف عنه إلا بأثمانه المرتفعة قليلاً، التي تطلبه البائعات أنفسهن.
سبب ثالث، أقوله من باب التقريب الفكه، هو أن التواصل بين أجيال البائعات بدأ يضمر، بسبب أن المهنة لم تعد تُبذل أمام الفتيات الشابات لمواصلة مشوار الأمّهات والجدات، لعوامل تتصل بمسارات الحياة وضغوطها (الزواج، والتعليم، والمنع)، فصار كفاح المُسنات أقْرب تمثيلاً بشيخوخة الممالك، التي تصرّ على انتقال السلطة في جيل واحد دون إتاحة الأمر للأبناء والأحفاد للاقتراب منها، فتصير سياسات هذه الممالك إلى الشيخوخة السياسية والترهّل.
الانفلات الأمني، وسيلان الغرائز، وتراجع الضوابط الأخلاقية في الشارع، أدت إلى تعاظم الشعور بالخوف في أوساط النساء، وعلى وجه الخصوص الشابات منهن وأُسرهن، فغدا الدّفع بالفتيات في هذا الطريق محفوفاً بالمخاطر -كما يُقال تقعّراً- وهذا سبب إضافي لهذا التقلّص.
تعز بدأت تتخلّى عن إرثها الثقافي، الذي كان يتطرَّز بمثل هذه المناظر، ومثل هكذا مِهن، بفعل غمامة الحرب السوداء، التي غطّت ليس على العيون وإنّما على الأفكار، التي بدأت تُعلي من مقولات "العيْب والمحرَّم".
يحكي الفنان محمد محسن عطروش عن أغنيته ذائعة الصيت (يا بائعات البلس والقات)، أنه -في أول زيارة له إلى مدينة تعز أواسط الستينات من القرن الماضي- شدته مظاهر الحياة المختلفة في المدينة، التي كانت قِبلة الثوَّار والمثقفين والمغامرين، ومنها بيع نساء جبل صبر "القات والفواكه". وبعد عودته إلى "أبين"، بدأ يحكي لزوَّار مقيله عن المدينة، وعن نساء الجبل، في حضور خاله الشاعر الراحل الكبير "عمر عبدالله نسير"، الذي انتحى جانباً ليكتب هذه القصيدة، وهو الذي لم يزرْ المدينة أصلاً، واستلهمها من حديث الفنان العطروش:
"يا بائعات البلس والقات/ يا حوريات يا نازلات من علالي إلى البندر/ يا لابسات الذهب زينات/ يا سُعد من يشتري من صبايا صبر الأخضر/ في حسنهن شا ضيع يا بوي .. لو ذا الجمال للبيع يا بوي .. عتشتريه الناس.
بِكمًّا اشتيت قالت لي / وتنظر لي وتضحك لي/ نسيت اسمي /نسيت أهلي / يا رب يا ساتر يا بوي / من نونها الأخضر يا بوي.. هيمرعوه الناس".
هذه مدينة تعز التي تخلَّدت في وجدان اليمنيين كمدينة للتنوير والتسامح، وعبّرت عنها مثل هذه الكتابات من خارجها، فهل بالإمكان أن تستعيد هُويتها الثقافية بعيداً عن جنون المتحاربين وأهوائهم ونزعاتهم الظلامية، التي تريد أن تلّف ليس هذه المدينة فقط، وإنما كل مدن اليمن، بالحزن والدم؟
______________________________
(*) المهرية نت 08/11/2020