مقالات

في اليمن.. الشعب هو البطل والمنقذ

24/10/2025, 07:07:45
بقلم : محمد صلاح

يُعدّ الإيمان بفكرة “المخلّص” أو “المنقذ المنتظر” أحد أقدم الأنماط في الوعي الجمعي الإنساني، وقد وجدت هذه الفكرة تعبيراتها المتعددة في الأديان والمذاهب والفلسفات السياسية على حد سواء. فهي تظهر كلّما ضاقت الأفق، وتراجعت ثقة الجماعة بقدرتها على التغيير الذاتي، فتلجأ إلى الحلم بقدوم من يُعيد إليها العدل المفقود والكرامة المسلوبة.

غير أنّ هذه الفكرة — رغم رسوخها في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية — لم تجد موطئ قدمٍ راسخ في الوعي اليمني، الذي تشكّل على مدار قرون طويلة في بيئةٍ حضاريةٍ مختلفة، تُعلي من شأن الفعل الجماعي والاعتماد على الذات أكثر مما تُعلي من انتظار الخلاص الغيبي أو البطولة الفردية.

أولاً: البنية التاريخية لوعي مقاوم لفكرة الخلاص الفردي

تاريخ اليمن، منذ العصور القديمة حتى العصر الحديث، يكشف عن مجتمع يتعامل مع التغيير باعتباره عملية جماعية مستمرة، لا حدثا استثنائيا يحقّقه فردٌ خارق.

ففي ممالك سبأ وحضرموت وحمير ومعين وقتبان، لم تُبنَ الحضارة على بطولات الأفراد بقدر ما كانت ثمرة جهد اجتماعي منظّم.

وفي الإسلام، كان انخراط اليمنيين المبكر في مشروع الدعوة ثم في الفتوحات نموذجا على استعداد فطري للمبادرة، لا على انتظار سلبي للتوجيه أو القيادة من الخارج.

وحين نصل إلى العصر الحديث، نجد أن ثورة ٤٨، وثورتي 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963 لم تكن نتاج وحي فردي أو زعامة ملهمة، بل محصّلة نضال طويل شاركت فيه فئات المجتمع المختلفة — من العلماء والمثقفين والقبائل والضباط والطلبة — في سياق وطني جمعي.

هنا تتجلى إحدى السمات الجوهرية في الشخصية اليمنية: الوعي بأن الخلاص لا يُمنح، بل يُنتزع بالإرادة والعمل المشترك.

ثانيا: الوعي الشعبي ومحدّدات رفض ثقافة “المخلّص”

يمكن تفسير غياب “ثقافة المخلّص” في اليمن من خلال جملة من العوامل البنيوية:

1. الطبيعة الاجتماعية المركّبة للمجتمع اليمني:

تقوم البنية القبلية اليمنية على توزيع واسع للسلطة والمسؤولية داخل الجماعة، لا على تركيزها في شخص واحد. وهذا أضعف تاريخيا فكرة الزعيم المطلق أو “القائد الملهم” في الوجدان الشعبي، رغم محاولات توظيفها سياسيا من قبل بعض النظم.

2. الذاكرة التاريخية المقاومة للاستبداد:

لقد راكم اليمنيون عبر قرون طويلة تجربة مريرة مع النظم المغلقة التي ادّعت الاصطفاء الديني أو السلالي. فكانت الثورات المتعاقبة، سواء ضد الإمامة أو ضد الاستعمار، تعبيرا عن رفض عميق لفكرة أن الخلاص يُحتكر في شخص أو فئة أو نسب مقدّس، او تيار سياسي، او حزب، أو منطقة.

3. النزعة الجمهورية الحديثة:

بعد ثورة سبتمبر، ترسّخت فكرة أن الشعب هو مصدر الشرعية والسلطة، وأن الدولة ليست إرثا يُورّث بل عقدًا يُؤسَّس بين المواطنين.

هذه الفكرة أعادت تعريف “الخلاص” في الوعي اليمني: من خلاص ميتافيزيقي أو زعامي، إلى خلاص سياسي واجتماعي تتحقق غاياته عبر المشاركة والوعي والتعليم وبناء المؤسسات.

ثالثا: المهدي المنتظر… بين الغيب والإرادة

في الفكر الديني، يمثل “المهدي المنتظر” صورةً رمزية للعدل الإلهي الغائب الذي سيعود في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا.

لكن التحوّل الخطير يحدث حين تُستعار هذه الرمزية إلى المجال السياسي، فيُعاد إنتاجها في شكل قائد مقدّس أو “زعيم ملهم” يُفترض أن يخلّص الأمة من آلامها.

في هذا السياق، يُصبح الإيمان بالمهدي تعبيرا عن العجز الجماعي، وعن انسحاب الإنسان من مسؤوليته التاريخية.

اليمني، في المقابل، يميل إلى تأويل الإيمان على نحو عملي وإجرائي: فالإرادة الإلهية، في وعيه، لا تعمل بمعزل عن الفعل الإنساني، بل من خلاله.

ومن هنا يتأسّس الفارق الجوهري بين ثقافة الانتظار وثقافة المبادرة؛ بين من يرى الخلاص وعدا مؤجلا، ومن يراه فعلا يوميا متجددا.

ولو تأملنا تاريخ اليمن الاجتماعي لوجدنا فيه الحقيقة الماثلة والقائمة على روح المبادرة.

رابعا: الشعب اليمني كفاعل تاريخي

منذ فجر التاريخ الحديث لليمن، كان الشعب — لا النخب — هو القوة المحرّكة للتحولات الكبرى.

فعندما انهارت الإمامة، لم يكن الانفجار الثوري نتاج نخبة عسكرية فقط، بل حصيلة تفاعل اجتماعي واسع مع فكرة الحرية والمواطنة.

وعندما تصاعدت المقاومة ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، كان العمال والفلاحون والطلاب عماد تلك الحركة.

بل حتى في لحظات الانكسار الراهنة، يبقى الشعب اليمني هو الفاعل الصامت الذي يحتفظ بإرادة الحياة، وينتظر الفرصة لا المخلّص.

إن الوعي الجمعي اليمني يدرك — بفطرته التاريخية — أن الزعامات، مهما عظمت، تظلّ عابرة، وأن ما يبقى هو إرادة الناس وقدرتهم على إعادة إنتاج مشروعهم الوطني كلما سقطت الدولة أو ضاعت البوصلة.

خامسا: في مواجهة إعادة إنتاج الأسطورة

تحاول بعض القوى اليوم — ذات الأيديولوجيا الدينية أو الطائفية — أن تُعيد بثّ أسطورة “البطل المخلّص”، في محاولة لاستعادة السيطرة على الوعي الجمعي من خلال الرموز الغيبية.

غير أنّ التجربة التاريخية اليمنية، بما راكمته من ثورات وانتفاضات، تجعل هذا الخطاب هشًّا وغير قابلٍ للترسّخ.

فكلما حاولت سلطة أن تفرض قداسةً على نفسها، انبعثت من داخل المجتمع مقاومةٌ تفكّك تلك القداسة، وتعيد مركز الفعل إلى الناس، لا إلى السلالة.

إن روح الجمهورية — التي قد تضعف مؤسساتها أحيانًا — لا تزال حاضرة في الوعي الوطني باعتبارها فكرةً، والفكرة لا تُهزم.

وهي، في جوهرها، امتدادٌ لميراثٍ طويل من الفكر الاجتهادي اليمني الذي آمن بالعقل والحرية والعدالة، لا بالولاية والغيب والاصطفاء.

خاتمة: نحو فلسفة يمنية في الخلاص الذاتي

في اليمن، لا تنتعش ثقافة المخلّص، لأن الإنسان اليمني لم يفقد إيمانه بذاته.

لقد جرّب الانتظار طويلًا، وذاق مرارات الحكم الكهنوتي، وتعلّم أن الخلاص الحقيقي لا يأتي من فوق، بل من الداخل: من الوعي، والتعليم، والإرادة الجمعية.

الشعب اليمني هو المخلِّص الحقيقي لتاريخه، لا “المهدي المنتظر”.

وإذا كانت بعض الشعوب قد استسلمت لفكرة الخلاص المؤجل، فإن اليمني ظلّ يرى في نفسه الفاعل التاريخي الذي يُنقذ وطنه كلّما حاولت قوى الغيب أو الخارج أن تسرق إرادته.

إنها فلسفة يمنية في الوجود: أن يكون الإنسان فاعلا في قدره لا منتظرا لخلاصه.

مقالات

ورحل محمد محسن الظاهري ابن الشعب

مآسي اليمن كثيرة وكبيرة، وفقدان العلماء الأجلاء، والمثقفين الثوريين، أساتذة العلم والمعرفة، أمثال الراحل الدكتور محمد محسن الظاهري، فاجعة موجعة. فعمق معرفته، وغزارة علمه، يعبر عنها بساطته وأدبه وتواضعه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.