مقالات
قبران على الأرض وثالثٌ في السماء!!
القبر الأول يقبع هناك في أطراف مدينة الوهط، مغروساً في رمل دافئ منذ خمس وعشرين سنة (23 ديسمبر 1997)، يحتضن في جنباته رفات اسم شديد السطوع في تاريخ اليمن، خلال نصف قرن، اسمه عمر الجاوي الحاضر في أحداث اللحظات المفصلية، ابتداء من منتصف خمسينات القرن الماضي.
القبر الثاني هناك في موسكو (العاصمة الروسية) محفور في جبل من الجليد منذ 13 ديسمبر 2022، ويخص المفكّر والأكاديمي اليمني أبوبكر عبد الرحمن السقاف، الذي توفي هناك في منفاه الاختياري، الذي وصله قبل سبعة أعوام.
بين القبرين وصاحبيهما مشتركات كثيرة، تكاد تتحول إلى سيرة واحدة للشتات والموطن المؤبّد، وأحفورات المكان، وقبلهما حلم المشروع الكبير في رحلة الرجلين الساطعين.
الفرق بين مولدهما ثلاث سنوات، فعُمر يصغر أبوبكر بثلاثة أعوام، وتوفي قبله بربع قرن تماماً (توفي في ديسمبر 1997، وتوفي أبوبكر في ديسمبر 2022م).. ينتميان إلى القرية نفسها (الوهط)، لكنها ليست مسقط رأس أبوبكر، الذي وُلد في أثيوبيا في العام 1935م، لأب سقاف وهطي مهاجر، على عكس عُمر الذي وُلد وعاش فيها طفولته.
عاد أبوبكر إلى مسقط رأس والده منتصف الأربعينات وهو في العاشرة، وحين التحق بالمدرسة الجعفرية في الوهط كان معه عمر طالباً فيها بعمْر السابعة.
انتقلا معاً إلى المدرسة المحسنيَّة لدراسة المتوسطة، ومنها سافرا في منحة مشتركة إلى القاهرة في العام 1954م، ومعهما ثلاثة طلاب آخرون من القرية نفسها على حساب الاتحاد اليمني.. وهناك سيتزاملون مع مجموعة من الطلاب اليمنيين من الشمال والجنوب، منهم محمد عبد الولي، الذي تشابه ظرف تكوينه بأبي بكر السقاف، ووصل القاهرة هو الآخر على حساب الاتحاد بحكم وضع والده القيادي في الجالية اليمنية في أثيوبيا، مثله مثل عبد الله حسن العالم، الذي وصلها من درديوا عبر الخرطوم، حسب ما ذكره الراحل علوان الشيباني.
يرجّح الدكتور علي محمد زيد، في تتبعه لسيرة محمد عبد الولي في كتاب "الثقافة الجمهورية"، أن المبتعثين كلهم كانوا في طريقهم إلى الأزهر، أو هكذا كان هدف الابتعاث، لكنهم تمرّدوا والتحفوا بالتعليم النظامي، وأيضاً لم يقعوا تحت تأثير المد القومي الناصري، ولا البعثي، وانما اختاروا طريقاً اكثر مغامرة، بالتزامهم السياسي للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وهي منظمة شيوعية مصرية، في ذروة خلافها مع نظام عبد الناصر، بعد انحيازها لمحمد نجيب، واستمرار مطالبتها بالتعددية السياسية وحرية الصحافة، في وقت كان لها عضوان في مجلس ثورة يوليو.
يقول زيد : "وفي هذه الفترة برزت مجموعة من زملاء محمد عبدالولي في الدراسة في القاهرة وفي حركة اليسار، مثل محمد أنعم غالب، وعبده عثمان، وإبراهيم صادق في الشعر الجديد أيضا، وعمر الجاوي وأبوبكر السقاف في النثر الأدبي، وهي المجموعة التي تولت قيادة مؤتمر الطلبة اليمنيين الدائم في مصر، وأصدرت بيانا ما يزال يعد وثيقة تاريخية تجاوزت غموض حركة الأحرار المعارضة التي كانت -على الرغم من إيمانها بوحدة اليمن- ترى عدم الإفصاح علنا عن مطالبتها بوحدة اليمن ووحدة النضال لتحرير اليمن من الاستبداد في الشمال، ومن الاستعمار في عدن والمحميات، خوفا من أن تفقد حركة الأحرار المعارضة منفذها الوحيد نحو الداخل، لتسريب منشوراتها ورسائلها ومناضليها، وميدانها الوحيد للتواصل مع جماهيرها في مستعمرة عدن وفي الداخل. ولم يكن لدى الطلبة اليساريين الذين كانوا يسعون للتميّز عن حركة الأحرار كل هذا القدر من الحسابات التكتيكية، ومن الضرورات العملية، وكانوا معنيين بتسجيل الموقف المبدئي الذي يتفق معه الغالبية الساحقة من اليمنيين، حتى من أعضاء حركة الأحرار المعارضة وقياداتها. ولذلك ظل هذا البيان وثيقة تاريخية مهمة وتمسكت به المجموعة اليسارية، التي كتبته وأصدرته وناضلت في سبيل تحقيقه، وكان عمر الجاوي أكثر من اعتبره رسالة حياته كلها حتى غادر الحياة دون أن يتخلى عن قناعاته الوحدوية على الرغم من التراجعات والانهيارات السياسية التي شهدتها البلاد".
حينما طُرد الجاوي مع اثنين من زملائه، في صيف 1959، بعد أحداث طنطا بين الطلاب اليمنيين بسبب انقسامهم بين مؤيدي ومعارضي عبد الكريم قاسم بعد أحداث العراق بين الشيوعيين والبعثيين، التحق بهم الكثير من المتضامنين إلى تعز، ومنهم أبوبكر السقاف ومحمد عبد الولي وعبدالله حسن العالم، وأكثر من عشرين آخرين جُلهم محسوبون على اليسار، فأعيد ابتعاث الكثير منهم إلى "بلاد الشيوعية"، كما يُنسب لقائلها الإمام أحمد.
تشارك الجاوي والسقاف بغرفة واحدة في السكن الجامعي للطلاب الوافدين على جامعة موسكو، وعادا سويّة في العام 1963 إلى تعز، وعملا لفترة مترجمين للخبراء السوفييت في المركز الحربي، قبل أن يعودا لاستكمال دراستهما، الأول في كلية الصحافة الذي اختار موضوع الصحافة النقابية في عدن موضوعاً لرسالة الماجستير، والثاني في كلية الدراسات الإسلامية حين اختار موضوع الجذور الاجتماعية لتيار المعتزلة موضوعاً لأطروحة الدكتوراة.
عاد الجاوي إلى صنعاء منتصف 1967م، ولم يستقر السقاف فيها بشكل نهائي، وأستاذاً في جامعتها، إلا في العام 1973، لكنه كان يعود من وقت إلى آخر إلى الداخل اليمني.. روي لي الأديب والقانوني عبد الفتاح عبد الولي أنه في أواخر 1968م كانا هو والجاوي يقيمان بشكل مؤقت في منزل شقيقه محمد عبد الولي بتعز، وكانت تحرّكات السقاف طبيعية في الدخول والخروج للتنزّه في المدينة عصراً، على العكس من الجاوي الذي كان أشبه بالمتخفّي وحركاته محدودة للغاية وحذرة، والسبب في ذلك أنه كان مطلوباً للاعتقال بعد أحداث أغسطس 1968.
بعد عام، أسس الجاوي، مع رفيقه في المقاومة، سيف أحمد حيدر ، حزب "العمّال والفلاحين"، قبل أن يصير في 1971 "حزب العمل اليمني"، لكنه سرعان ما تخلّى عن التحزّب، ليلتقي في النقطة ذاتها مع رفيقه السقاف، الذي لم يتحزّب، بعد تحزّبه المبكر في أواسط الخمسينات في صفوف "حدتو" في القاهرة.
اختلف الصديقان في قضايا سياسية وفكرية عديدة، وأبكرها حينما انحاز السقاف إلى وجهة نظر الراحل زكي بركات في اعتبار الزبيري شاعر الحرية وليس شاعر الوطنية، كما قال الجاوي في كتابه الذي حمل ذات عنوان "الزبيري شاعر الوطنية 1974"، غير أن كتابات السقاف حول "جناية الفوريين الاندماجيين على التقدّم والديمقراطية والوحدة"، كانت في الأصل معارضة لمواقف وكتابات الجاوي وتياره القريب من الوحدويين الفوريين.
والجاوي على سرير الموت كتب السقاف عن الأمل، الذي لا يموت، حين قال:
"نحن لا نحيا إلا بقدر غريزي كبير من التفاؤل، حتى في العابر من شؤون حياتنا. والأمل ذروة هذا التفاؤل، فمنه ننسج تضامننا، وبه تتغذّى كل القيم التي تقوم بدور النوابض العميقة في كل ما نأخذ وندع. ومن هنا لم أستطع أن أفهم ما يكتبه عدد من الناس منذ لزم عمر فراش المرض أنهم ينعون إنساناً حياً يقاوم بروحه وجسده المرض".
(**)
في زيارتها الأخيرة لليمن، أوائل تسعينات القرن الماضي، مع ابنتها فاطمة، تمنت السويدية "برجيتا هولندير" أن تجد قبراً أو حتى نصباً صغيراً لزوجها محمد أحمد عبد الولي، لتستطيع وضع وردة عليه.
قبر محمد عبد الولي هو القبر الثالث موجود في السماء لا على الأرض، مثل قبرَي رفيقيه، حين تلاشى جسده بين شبوة وحضرموت في حادثة طائرة الدبلوماسيين في الثلاثين من أبريل 1973م، بعد أسابيع قليلة من مغادرته تعز إلى عدن للبحث عن حلم كبير في جنة الاشتراكية وقتئذِ، لكنه لم يجد حتى موضعاً لرفاته فيها.