مقالات

كرامة مرسال.. الشجن العتيق من حضرموت إلى أعماق الربع الخالي

03/08/2025, 08:18:04

تُغني جيدًا ويتألق صوتك إذا غنيت وحدك، كأن لا أحد يسمعك.

الفنان كرامة مرسال لديه القدرة على أن ينسجم مع ذاته الداخلية كأن لا أحد في هذا الوجود سواه.

يغني أمام الجمهور كأنه وحده، وكأن العالم من حوله عاجز عن إرباك انسجامه الداخلي. وجهته دائمًا داخل إحساسه المتمازج مع اللحن والكلمات.

يصل إلى الجمهور عبر هذا النبع الداخلي، لا عبر التصنع أو مسايرة ضجيج المشهد الخارجي.

في اللحظة التي يلامس صوته مايك الصوت أمامه، يبدو كأن لا أحد في العالم حوله سوى صوته والموسيقى التي تسري من داخله. لا تراه منشغلًا بما حوله، ومع ذلك هو في المنصة قائد حقيقي؛ يوجّه الفرقة الموسيقية، ويجذب الجمهور إلى مجاله الخاص دون جهد ظاهر، وكأن حضوره مغناطيسي بطبيعته.

تجده منغمسًا في الأغنية حدّ الذوبان، وكل كلمة تمر عبر حنجرته تتحوّل إلى إحساس يشعر به المستمع من ملامح وجهه، وقفته، لا فحسب نطقه المتأني والمنطرب للكلمات.

فنان معتّق، كأنه نتاج قرون من التشكّل والتراكم النفسي والفني، المحتفظ بطابعه وأسلوبه الخاص عبر الزمن.

الكلمة في حنجرته ترنّ، وكأنها إحساس تحوّل إلى شيء ملموس ومتين.

صدق التعبير وعذوبة الصوت يصنعان معًا بصمته الخاصة التي لا يمكن لأي فنان أن يكررها. كيف لا تكون له بصمة فريدة من نوعها، وهو يمتلك شخصية أصيلة لا شبيه لها في عالم الغناء الحضرمي واليمني عمومًا.

ما قد يبدو عاديًا وهشًا في صوت أحدهم، يتحوّل في صوته إلى أغنية مكتملة الوضوح والقسمات، تأسر المستمع وتغمره في تجربة نادرة من الانسجام الفني والوجداني. هو صوت يحمل ذاكرة المكان وروح الإنسان، صوت تفصح نغماته عن كل ما هو جوهري وحقيقي.

صوته يشبه أرضه: مكتمل وصبور، وفيه طبقات عاطفية تعكس البحر والصحراء والواحات والمدن القديمة.

كأنه صدى لأول من نطق اللغة الأولى، أمّ اللغات العربية الجنوبية القديمة. متأنٍ وعميق الأغوار كأن عاد وثمود وعماليق الربع الخالي تسكن صوته، لا فحسب حضرموت واليمن.

هو امتداد لطبقات من الذاكرة الصوتية التي حملتها الرمال والنخيل والسهول البحرية، لكنه في الوقت ذاته حالة فنية متفرّدة تقف في الحاضر، مثلما تضرب جذورها في أعماق لا يمكن سبر أغوارها.

أنصتُ إلى كرامة مرسال كما لو أنني أصغي إلى نفسي في مكانٍ أجهله منذ زمن طويل. موجة موسيقية تصدر من نسغ قصيّ وعميق الأغوار في تاريخ الشخصية الحضرمية واليمن عمومًا:

“على مهلك وقد الحال تكلم يا حبيبي بالكلام الدارجي، ما أطيب الريح هبّت من رياض اليمن، متيم في الهوى، حبي لها، ويشهد الله إني عادنا فيك حبان”.

في صوته بُحة نادرة، لا تُشبه أي بحة أخرى. بحة التاريخ القديم لا بحة التجربة الشخصية. بحة ذات جمعية انتظمت موجتها في روحه وليست فحسب خصيصة من خواص صوت وُلد معه.

بُحة ليست حزينة كليًا ولا منتشية كليًا، لكنها تُقيم في المنطقة الوسطى بين الشجن والسكينة، في نقطة فاصلة تلتقي فيها المشاعر المتناقضة الأكثر صدقًا، وتتجاوز لحظتها ثنائية الفرح والحزن، لتحلّق فوقهما.

هذه البُحة هي توقيعه الشخصي، العلامة التي تميّز صوته حتى وسط الجرس الحضرمي العريق، وكأن حضرموت نفسها استعارت حنجرة كرامة مرسال لتتجاوز بها طابعها الخاص، تُثريه، وتضيف له تجربة تتركه أكثر وضوحًا وكثافة.

تجد عنده وضوح العبارة وإيقاع النفس الطويل الذي يميز المدرسة الحضرمية منذ محمد جمعة خان، لكنه يتجاوزها.

أخذ من نغمة حضرموت مادته الأولى، ثم سكبها في ذات شديدة الخصوصية، حتى صار صوته نموذجًا قائمًا بذاته، لا يشبه إلا نفسه.

كرامة مرسال يملك قدرة عجيبة على تحويل كل كلمة إلى كائن حيّ، له ملمس وحرارة وذاكرة.

يُغني، فتتوهج الحروف في فمه كأنها وجدت حياتها الأولى. صوته ينساب كثيفًا وهادرًا مثل نهر قديم كان يشقّ الربع الخالي وصولًا إلى وادي حضرموت وما بقي فيه من أثره التاريخيّ.

هو نقطة التوازن بين جذور الأغنية الحضرمية وروح الإنسان الكونية. حمل هذا التراث العتيق إلى أجيال جديدة دون أن يفقده أصالته، وترك عليه بصمته الخاصة، بصمة من الصدق والخشوع والعذوبة الخفية.

تستمع إليه وكأنك تلتقي بموجات عاد وثمود وعماليق الربع الخالي ومدينة الألف عمود. رنّة صوته تختزل حضرموت، ليس في جغرافيتها وحدها، بل في طبقاتها العاطفية، في حنينها وشخصيتها الأصيلة الصافية.

شفّاف وعذب وخفيف الروح في لحظات، وغامض في لحظات أخرى. فيه قوة خفية تحضر دون صخب. كرامة مرسال هو الفنان الذي يجمع بين قوة الصوت وعمق الروح التي تسكنه.

أسلوبه في الغناء بسيط وعميق في آن واحد. صوته قوي دونما صخب. جذّاب دون حاجة للزخرفة. يمتاز بوضوح العبارة، وتلوين المقامات بسلاسة دون استعراض، وكأن لكل جملة موسيقية معنى داخلي يبوح به وحده. هو من هؤلاء الفنانين الذين لا يمكن للضجيج الخارجي أن يصنع لهم قيمة؛ لأن قيمته الحقيقية في عمق إحساسه ونبرة صوته الطبيعية.

ما يميز مسيرته أننا أمام فنان لم يلهث يومًا خلف التجريب من أجل التغيير فقط. كان هو التجديد شخصيًا، بشحمه ولحمه ونغمات صوته. حافظ على خصوصيته وحمل معه الأغنية الحضرمية إلى أجيال جديدة، وأضاف إليها من روحه الدافقة بالمحبّة، دون أن يفقدها أصلها وجذورها.

برع في ألوان الغناء الحضرمي كلها، وفي ذروتها الدان الحضرمي، وأجاد الأغنية العاطفية، واستلهم التراث الشعبي في حضرموت، وكان عنوانه الأهم خلال خمسين عامًا من مسيرته الفنية. غنى للوطن بصدق وشجن قريب إلى القلب، يصل بك إلى أقصى درجات الانتماء بصوت متحرّر من الادعاء.

بالمعنى الزمني والفني، بدأ حياته الفنية من حيث انتهت حياة سلفه محمد جمعة خان في عام ثورة أكتوبر 1963، وفيه كانت بدايته وهو لا يزال في سن السابعة عشرة.

وما بين فنان ذاهب وفنان آيب، ترسّخ اللون الغنائي الحضرمي كأوضح ما يكون.

طُويت حياة رائد جدّد الغناء الحضرمي وأضاف له نغمات موسيقية جديدة، وبدأت حياة فنان تكثّفت فيه النغمة الحضرمية كما لم تتجلَّ في أحد غيره. أبوبكر سالم حالة مختلفة تمامًا، فبقدر ما يمثّل قارة فنية للغناء الحضرمي بثنائيته مع المحضار، وصلته العميقة بالتراث الحضرمي، وما أضافه هو من كلمات وألحان، لكنه مع ذلك فنان تجاوز حضرموت واليمن وقدم ألوانًا عديدة، والأهم أنه شكّل لوحده مدرسة غنائية جديدة باسمه في نهاية المطاف.

كرامة مرسال متكاثف هنا والآن في حضرموت. حضرمي ينتح من أغوار النغمة الحضرمية القديمة، ويقدّمها بطابع خاص يضفي عليها من روحه ووجدانه ونكهته الخاصة.

في التاريخ الحديث لحضرموت كان جمعة خان بداية مرحلة انبعاث جديدة للتراث الغنائي الحضرمي.

عمل خان 29 عامًا في الفرقة الموسيقية السلطانية، بقيادة الهندي عبداللطيف في جزء منها، ورئيسًا لها في الجزء الآخر. مكّنه ذلك من أن يصير رائدًا في تجديد الغناء الحضرمي وإدخال وتأصيل التقاليد الموسيقية الحديثة في ألحانه وأدائه الموسيقي.

إلى جانب هذا الملمح تعلّم جمعة خان العزف على يد سعد الله فرج، وكان معلمه ومرجعه في الفنون الشعبية في حضرموت ونغماتها وألوانها الغنائية. ألحانه وأداؤه أمدّا الذائقة الفنية الحضرمية واليمنية بمصادر جديدة مستمدة من الموسيقى الهندية، وله مكانة متميّزة في حضرموت واليمن عمومًا ويحظى بتقدير واسع.

كرامة مرسال جاء بعد محمد جمعة خان واستكمل مسيرته، بصوته الممتلئ بالشجن وبإصراره على البقاء في مدينته برفقة الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار في فترة كانت الفرص متاحة أمامه للانتقال إلى الخليج.

ظل حاملًا للموروث الحضرمي، والنموذج الأوضح والأكثر ثراءً وتعبيرًا عن البيئة الغنائية في حضرموت ومنبعها من الدان والإيقاعات الشعبية. لنقل إنه أكثر التزامًا بالأصالة المحلية والبساطة في الأداء مع حس إنساني وشعري عميق.

إلى تميّزه كفنان كان بارعًا في التلحين، في فترة تجاوز فيها المحلية، بجانب فنانين يمنيين آخرين، إلى التأثير في الساحة الخليجية. أحيوا الحفلات في مدن كويتية وسعودية، وحضروا في المشهد الغنائي في الإمارات وقطر والبحرين وعُمان في زيارات الوفود الفنية التي كانت رائجة حتى نهاية الثمانينات.

غنّى له فنانون خليجيون، وبعضهم أدّى أغانٍ جديدة من ألحانه.

كانت أغنية “متيم في الهوى” بطاقته التعريفية وأبرز أغنية له لقيت أصداء واسعة لدى فناني الخليج. مثلها أغنية محمد سعد عبدالله “كلمة ولو جبر خاطر”، وأغنية فيصل علوي “صبوحة خطبها نصيب”، و”يالله مع الليلة” لأبوبكر سالم.

ثم ماذا بعد؟

ما أن تنتهي من سماع صوت كرامة مرسال، حتى تمتلئ بشعور عميق أن صداه لم يغادرك، كما لو أنه غدا جزءًا من وجدانك وذائقتك الغنائية. هو من الأصوات التي لا تنطفئ مع انتهاء الأغنية، بل تتحوّل إلى شعورٍ يقيم في الروح، وإلى رنينٍ داخلي يصعب الإفلات من نغمته الآسرة. في صوته شيء من دفء البيوت القديمة التي تحتفظ بظل ساكنيها حتى بعد رحيلهم.

الاستماع إليه تجربة تتجاوز حدود الطرب، لأنها توقظ فينا إحساس الانتماء إلى ما هو أعمق من اللحظة: إلى جذورنا، إلى نبع داخلي عميق من الوجد والحنين، أكثر قدمًا من مدينة الألف عمود المطمورة تحت رمال الربع الخالي.

مقالات

العلوم والتكنولوجيا.. جامعة تحت القيد الحوثي

في مسار الأحداث التي مر بها اليمن خلال السنوات الماضية، تكاد لا توجد مؤسسة واحدة لم تطلها أيدي جماعة الحوثي، سواء بالتفكيك أو التوجيه أو إعادة التشكيل. ومنها جامعة العلوم والتكنولوجيا في صنعاء بوصفها حالة خاصة، تمثّل نقطة تقاطع دقيقة بين المعرفة والسيطرة، بين التعليم كقيمة، والتعليم كأداة.

مقالات

لو أنت تحبني اخرج من الحزب (6)

كانت تغريد تستيقظ عند الفجر وتمتطي قاربها وتدخل البحر، وكل يوم كانت أمها تظل تنتظر عودتها على قلق. وذات يوم تأخرت في العودة على غير العادة، وتفاجأتُ بأمها تدخل عليّ في العُشة وهي خائفة وتخبرني بأن تغريد لم تعد من البحر، وطلبت مني أن أفتح الكتاب لأعرف سبب تأخرها!!

مقالات

غزة.. صبر وعناد أسطوري

لا أعتقد أنَّ مُنظراً أيديولوجياً، أو قائداً عسكرياً، أو مناضلًا في حرب تحرير شعبية، أو حتى زعيمًا سياسيًا، هو من قال: «إنَّ شعبًا صغيرًا يمتلك إرادة التحرر من الاستعمار لا تستطيع أقوى قوة في العالم أن تَكسِرَ إرادته».

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.