مقالات
كم كان اليمنيون رائعين قبل العالم الافتراضي!!
لم يتعرَّض اليمنيون لتلوُّث نفسي خطير كما فعلوا بعد ما حصل بعد 21 سبتمبر، وكانوا قبلاً قد تلوثوا في بداية دخولهم العالم الأزرق ثم بقية العوالم الافتراضية الأخرى.
كان اليمنيون مُنكَبُّينْ على الصحف والكتب، وكانوا يتبادلون المودة والمحبة من خلال وسائل الثقافة المتعارف عليها منذ سنوات طويلة، وكانت طريقتهم في الحوار والنقاش طريقة هادئة ومتحضرة إلى حد ما، فليس هناك أي منغصَّات تُكدِّر صفو حياتهم ومحبتهم حتى التحزُّب والانتماء الحزبي كانت له أصوله المتعارف عليها بين الجميع، وكان الاختلاف لا يفسد للود قضية.
حتى دخلنا العالم الأزرق بدايةً -وهو "فيسبوك"- بدأنا نعاني من مشاكل كبيرة في الحوار والتعارف وطريقة الحوار، إلاّ أن كل ذلك لم يكن يصل بنا إلى إلغاء إنسانيتنا، وأننا أبناء وطن واحد موحَّد، رغم وجود إرهاصات المطالبين بالانفصال، واستعادة الدولة الجنوبية من سنوات طويلة.
ومع كل ذلك بقيت الثقافة بكل معانيها هي الأصل في التواصل بين اليمنيين والعرب جميعاً، قبل ما يسمى الربيع العربي، فكان التعارف يتم على أساس الشغف الذي نُكنُّه جميعاً لمختلف الأنواع الإبداعية من شعر وقصة ورواية وترجمات وقراءات، وكنا نحن - اليمنيين - خاصةً منبهرين غاية الانبهار بما وصلت إليه الثقافة في المغرب العربي، سواء في مجالات النقد الأدبي أو الإبداعي بحكم ثقافتهم الفرانكفونية، وخضوعهم للاستعمار الفرنسي الذي صقل شخصياتهم الثقافية، ومعها تحولّت لغتهم التي يتحدثون بها إلى الفرنسية أولاً والعربية ثانياً، فكنا نجد صعوبة في قراءة ما يكتبونه على الخاص بحروف إنجليزية لكن بمعنى عربي، فانصرفنا عن هذي الحوارات الخاصة الميتة إلى الاكتفاء بقراءة منشوراتهم، وما يكتبونه حول الأدب والنقد عموماً.
حتى إننا -نحن اليمنيين- كنا نتبادل نشر أفكارنا حول الأدب والنقد والشعر من خلال نشر ملاحظات تتم الإشارة بها إلى أكبر عدد من الأصدقاء للاطلاع عليها وإقامة حوار بناء ومفيد لإثراء الموضوعات مدار النقاش، وكان هذا قبل أن تتغير الخوارزميات في "فيسبوك" إلى حد بعيد ولمرات عديدة ومازالت، وكان اليمنيون قد شبكوا سلسلة علاقات عامة مع الجميع؛ سواء في المشرق أو المغرب أو مصر تحديداً، وبدأ المثقفون اليمنيون يشعرون بمتعة السفريات الثقافية إلى تونس ومصر والمغرب وسوريا والأردن وعُمان، وغيرها من البلاد؛ بناء على دعوات ثقافية شاملة كل التكاليف من طيران وإقامة، وسياحة ثقافية، وزيارات لمعارض الكتب، وكان أكبرها معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي كنا نعود منه بخير كبير من الكتب والإصدارات في شتى مجالات المعرفة، وتوطدت العلاقات مع كثير من الشخصيات الثقافية الكبيرة على مستوى الوطن العربي كله، وكذلك المؤسسات الثقافية، وخاصة اتحادات الكُتاب والأدباء في كل دولة عربية على حدة تقريباً، وقامت علاقات مبدئية مع كثير من دور النشر العربية بغرض التواصل من أجل طباعة الكتب والخروج من المحلية إلى العربية، ومغادرة الشرنقة أو المحارة، التي بقينا محبوسين فيها لسنوات طويلة.
خلال ثلاث سنوات، نمت معارف وثقافة المثقف اليمني إلى حد كبير، التي كانت حبيسة اليمن، وصحافته، وما تصل إليه من كتب ودوريات الوطن العربي، وخاصة من مصر أو الكويت وقطر، وهو التاريخ الذي صادف ما بين عام 2007م، وبداية عام 2011م، وأصبحت له شخصية مختلفة متحضرة، وعلى تواصل يومي ودائم مع العالم الخارجي من خلال العالم الافتراضي الذي بدأ في منتهى الجمال، وكأنه حلم جميل صاغته أيدي علماء وعباقرة غربيين طبعاً، من أجل خدمة البشرية، وتحويل العالم إلى قرية صغيرة حقيقية، أو هكذا نعتقد.
وشاءت الأقدار أن اليمنيين قبل ذلك كانوا قد اغترفوا من ثقافة إطلاق الحريات والعمل الحزبي، والتعددية السياسية، وهامش كبير من الحرية الثقافية، وإصدار الصحف والمطبوعات، فاستطاع المثقف اليمني التوازن من خلال قراءته الواسعة، حتى إذا وجد نفسه وجهاً لوجه مع العالم الخارجي أثبت للعالم أنه لم يكن بعيداً عمّا يدور حوله في أرجاء الكون بداية من الأدب الروسي الواقعي، وانتهاء بالواقعية السحرية القادمة من أمريكا اللاتينية.
وسرعان ما اندمج اليمنيون في العوالم الافتراضية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أحدثت ثورة هائلة بأكثر من سرعة البرق، وأصبحوا رقماً ثقافياً صعباً في الوطن العربي خاصة، حتى بدأ الربيع العربي من تونس فاختلفت القيم، وتبدَّلت الأحوال وانقطعت الصلات، والتواصل لانشغال كل مجتمع ووطن بما يدور فيه، ويعتمل داخله.
وبقيت مسألة تقييم الربيع العربي متروكة للتاريخ والأيام لتدوينها، لكنَّ اليمنيين وجدوا أنفسهم وحدهم في مواجهة عصابة وانقلاب لن نتعافى منه في القريب المنظور حسب المعطيات من ضعف الشرعية، التي أصبحت لعبة بيد حكام الخليج، وتغول جيران طامعين في اليمن وموارده وسواحله وكل خيراته، والسعي لتفتيته، وقوى إقليمية غاشمة وقوى دولية استعمارية من الرأس حتى القدم.
وكثيرون من اليمنيين، الذين رسموا لنا أحلام جميلة على أمل الخلاص، غادروا الدنيا وفي نفوسهم حسرة كبيرة على وطنهم، وها هم أو ما تبقى منهم ينتظرون عودة وطنهم إليهم، أو عودتهم إلى الوطن بسلام.