مقالات
كيف حولوا عدن واليمن إلى "مجتمع كسيح ونخب متوحشة"؟!
لم تسلم مدينة مثل عدن من شهوة الحرب وارتداداتها المميتة، فتحوّلت المدينة، التي كانت ذات يوم رمزاً للتعايش والتعدد والانفتاح، إلى مدينة غارقة في الفوضى والانفلات، ومقسّمة أحياؤها إلى مربّعات أمنية يتحكّم بها أفراد وجماعات بغير صفات قانونية سوى انتسابهم إلى قوى وتكوينات أمنية ومليشاوية تدير المدينة بمنطق الغلبة، وبهذا السلوك المتوحش "تم تكسير أضلع الإنسان {فيها} وتدمير قيم المواطنة المتساوية، وإشعال الفتن العمياء، والاحترابات والعنف والإرهاب، وتوطين الفســاد وتسويم الناس بالشعارات الغوغائيــة والانحطاط الســلوكي، وهبــوط الثقافة تحت درجة الوعي، وضمور الروابط الإنسانية وفقدان المعايير.
لقد أثّرت الحرب وحرب الخدمات والتصدّعات والأزمات والصدمات بشــكل عميق على ســلوك الأفراد والجماعات الاجتماعية، وشــهدت حياتهم انهيارات فظيعــة في خضم الفعــل البشري، والتدمري العمدي للبنية الاجتماعية والســلطة والمؤسسات، وتقطيع أوصــال الروابط الاجتماعية، واتســاع مساحة الغربة والضياع"، هكذا يصف الدكتور سمير عبد الرحمن هائل الشميري حالة الإنسان في عدن في تقديمه لكتابه المهم الذي حمل عنوان "مجتمع كسيح ونخب متوحشة"(*)، الذي جاء في مقدمته أيضاً:
"منذ ســنوات خلت وأنا ألحظ وأعايــش الأحداث والوقائع والظواهر الاجتماعية والخراب المــادي والخلقي والثقافي بعين سوسيولوجية متبصرة بآناء الليل وأطراف النهار. عايشت الحرب والقهر الجسدي والمعنوي والصدمات وأزمات الانكسار المادي والروحي والممارسات غير المحمودة الزاخرة بالمعاطب والمهالك خارج نطاق الحق والناموس الاجتماعي. في معايشــتي وملاحظاتي الميدانية المعمقة رأيت انهيار الدولة والأخلاق والمؤسسات وعايشــت مفازع الحياة وحرب الخدمات ومعاناة الضر والجوع والبؤس وانحدار قيم الإنصاف والتوازنات الاجتماعية وتصدع الروح الوطنية. ولا ينبغــي أن نندهش عندما ســلطت عدســتي البحثية على مدينة عدن لأطل من خلالها على الفضاء الوطني الذي قطعتا وصاله وتفشــت فيــه الاحترابات والتشــظيات وتعرضت حيــاة الناس للزعزعة والدمار العمــدي والهزائم والمجاعات والأمراض العضوية وكثرة التعفنات وفقدان المعايير والانعزال الاجتماعي واللامبالاة والحرمان والتهميش وإفســاد النفوس واضعاف العقول. ففــي عــدن تتجلى صــورة الوطن، ففــي جوفها فسيفســاء متنوعــة من البشر والثقافات والأحداث والوقائع وشــهدت تغيّرات سوســيولوجية مؤلمة لها دلالتها ورمزيتها في خارطة الوطن الجريح".
وسنتوقّف هنا أمام تعريفات مختلفة للنّخبة، يعرضها الكاتب ليصل في النهاية إلى اختزالها بنوعين من النخب "نخب حاكمة ونخب غير حاكمة".
فهي في تعريفها الأول: جماعة اجتماعية محدودة العدد، يتميّز أفرادها بالتنظيم، ولهم مناصب رفيعة ومؤثرة، ولا تغيب الكفاءة عن أغلبهم، واكتسبوا الهيبة والمقام الرفيع، واحتلوا موقع الصدارة في المجتمع. وفي الثاني: طليعة أفراد المجتمع، ويمثلون العناصر الأكثر وعياً وانضباطاً وشجاعة، ويتميزون بالنزاهة والشفافية. وفي الثالث: فئة اجتماعية بارزة تركت بصمات جلية في حياة المجتمع، وتتكون من تكنوقراطيين ومتخصصين ومثقفين من أصحاب الميول العلمية والعملية، ومن أصحاب الخبرة والمراس والعقول النظيفة. وفي الرابع: شريحة اجتماعية اكتسبت الشهرة والمال والسلطة والنفوذ عبر القوة، أو الذكاء، أو عبر الوراثة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهم ورثوا هذه السلطة والقوة والهيبة والمقام الرفيع كامتداد لمواقعهم الاجتماعية في التراتب الاجتماعي، أو كامتداد للمكانة الروحية والتقليدية التي توارثوها. وفي الخامس: جماعة صغيرة صاحبة تأثير وقرار تصنع الأحداث، أو تشارك في صناعتها، ولها مجالات مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية. وفي السادس: ليست حزباً سياسياً ولا مؤسسة حكومية ولا تنظيما مدنيا ولا هيئة خيرية، بل هي جماعة منظمة توجد في رأس السلطة السياسية، وفي المواقع الرئيسية الحساسة، أو في التجمّعات التنظيمية السياسية، أو الاقتصادية أو المدنية.
ومن كل هذه التوصيفات يصل إلى التفريق بين نوعين من النخب "الحاكمة وغير الحاكمة"؛ والنخبة الحاكمة تصير جماعة اجتماعية تتميّز بالقوة والتنظيم والثروة والتأثر النفسي والروحي والسيطرة على وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، اكتسبت الهيبة والسلطة بقوة القهر وسياسة قعقعة السيوف، وتقبض على مقاليد الأمور مستخدمة القوة المادية والمعنوية لتنفيذ أجندتها ومقاصدها وغاياتها.
أما النخبة غير الحاكمة فهي: جماعة اجتماعية محدودة العدد، تتميّز البعض منها بقوة التأثير وقوة التنظيم، اكتسبت القوة والشهرة عبر جماهيريتها ونضالاتها ومناشطها الطيفية التي تصب في خانة خير المجتمع.
تتكون هذه النّخب من سياسيين ومثقفين، تصنع الأحداث وتشارك في صنعها بفعالية عبر القوة الجماهيرية والقوة المادية والمعنوية والنفوذ والذكاء والثقافة والوعي والكفاءة. قد تكون هذه النّخب سياسية أو ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو معرفية وتكنولوجية تترك أثراً في حياة المجتمع في حالة تأثيرها وديناميكيتها وقدرتها على الحشد والتنظيم والتوعية المجتمعية والجرأة والبسالة والإقدام في غميس النضالات والصراعات والتفاعلات الاجتماعية، الهادفة إلى تحجيم الهيمنة ومقاومة الجور والفساد وخلق التوازنات، وقمع شهوة التسيّد والديكتاتورية، وبعث الحيوية والحراك في شرايين المجتمع والهياكل والتجمّعات والمؤسسات، وتغيير جغرافية العقل لتجنب الانزواء والتعفن والتشرنق والتكلّس الذهني.
هذه النخب، التي تصير في خضم الحروب والأزمات أدوات توحش حقيقية، تعتاش من ألم المجتمع ودم ضحاياه من الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا بعير في حروب المصالح والارتهانات التي انخرطت فيها هذه النّخب.
أما المجتمع، في سياق التوصيف السيسيولوجي عند المؤلف، جماعات كبيرة من الناس ارتبطوا بوشائج وعلاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية وعادات وتقاليد وأعراف مشتركة، وبمؤسسات اجتماعية ومعيشية وسياسية وثقافية وتربوية منظمة لحياة المجتمع.
فالسكان والحكومة والموقع الجغرافي والعلاقات الجنسية التكاثرية والاجتماعية والثقافة والعادات والتقاليد الشاملة والاستقلال تعتبر من العناصر الأساسية للمجتمع.
غير أن هذا المجتمع يصير مجتمعاً كسيحاً بفعل عوامل عدة، وعلى رأسها الحروب، وفي التعيين للمجتمع اليمني، في محيطه العربي، أنه، في سياقات الحرب والاضطرابات، بزغت إلى السطح ما بعد ثورات الربيع العربي مجتمعات كسيحة تشظّت بفعل عوامل شتّى، لعلّ أبرزها: المنازعات السياسية والصراع العسكري، وساهمت التدخلات الإقليمية والدولية إلى حد كبير في ضعضعة بُنية المجتمعات، وانتقلت هذه المجتمعات إلى حلبة الصراع الدموي، واشتعلت الحروب المذهبية والطائفية والعقائدية، وشمل الدمار كافة البُنى والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والهوية الوطنية، وتم تدمير الإنسان الذي يعتبر الركيزة المحورية للنماء والتطوّر.
إننا نعيش في مجتمع كسيح، والمجتمع الكسيح الذي نعيش فيه هو مجتمع مريض ومعقّد تنهشه الذئاب والكلاب والأمراض، وتعصف به العواصف، لا يقوى على الاستقامة، دمّرته الحروب والويلات والمصائب وشلت حركته، يعاني من إعاقة فكرية وذهنية وحركية، يهدر طاقته وإمكانياته في الترهات والسفاسف خارج قارعة الحضارة.
المجتمع الكسيح مفكك خالٍ من المهاجع الدفاعية، قاطن بين جدران الخوف والريبة والشك والزيف والاستلاب، يتلذذ بطعم فاكهة الخرافات والخزعبلات والجهل والبلادة الذهنية لا علاقة له بالعلم والمعرفة والتطور، ولا يحترم الكرامة العقلية والعقل المنير، المجد فيه للمخبولين والطائشين والسُواق.
المجتمع الكسيح مجتمع تبعية وخنوع وارتزاق، مجاله الثرثرة والفسفسة والتكفير والتخوين والزخارف اللفظية والخطب المنبرية، تحول فيه بعض البشر إلى كائنات خشنة ومتصحّرة لا يهمها إلا شهوة البطن والفرج. المجتمع الكسيح بلا دولة ولا مؤسسات ولا وعي ولا قيادة ولا أفق فيه للعقل والعلم والمعرفة والثقافة والعمارة والسكينة المادية والروحية، يعيش في دوامة من الاحترابات والهرج والمرج والقلق والرعب، وغارق حتى أذنيه في الأوهام والانقسامات الحادة، ويعيش على شيء من القلة والشظف، وتنمو في تربته الفطريات الخبيثة، وتترسخ فيه أقدام التوحش لكائنات غريبة الأطوار، تبتلع كل شيء (المال والغذاء والدواء والأحجار والأشجار والرمال)، وتشفط الهواء، وتبتلع البحار والمياه والأراضي، وتتحول فيه زُمر بشرية من كائنات اجتماعية إلى كائنات غرائزية، تطلق شهواتها ونزعاتها الذئبية إلى أبعد مدى، فالإنسان في هذا المجتمع لا هم له سوى الحصول على مقوّمات الحياة الضرورية، ولقد تم إغراقه بهموم ومشاكل يومية، ويتم هندسة حياته القاتمة بسلسلة متواصلة من الأزمات حتى لا يقوى على النهوض والتفكير السليم.
من علامات هذا المجتمع الجاهل عدم الاكتراث بالإنسان وحقوقه وآدميته، فعربات الحرب والفساد والفوضى والمحن والقلاقل طحنت عظامه، وخرّبت عالمه الداخلي، وأصبح يسر بلا هدى ولا بصيرة، فقد الأمل في السلام والأمان والعيش الكريم، وانغمس في متاهات لا حصر لها.
المجتمع الكسيح جامد وغير متحرك، مصاب بعمى الألوان، غير قادر على استغلال ثرواته وتدبير حياته، وعاجز عن إدارة أموره، ينتظر الإرشادات والتوجيهات والمساعدات، ويعيش على ما يقدمه المجتمع الدولي من مساعدات وهبات وعطايا، ولا يعرف مكامن القوة والضعف في مسار إيقاعات حياته اليومية، وتفكيره آنٍ لا ينظر أبعد من أرنبة الأنف، يرعى مصالح الغير وينسى مصلحته، ويبدد طاقاته اليومية في البحث عن:
الراتب، أنبوبة الغاز، المشتقات النفطية، الماء، الكهرباء، تردي الخدمات، ومشغول بتوفير لقمة العيش، وبغلاء الأسعار، وانهيار العملة المحلية، وانعدام الأمن والأمان.
المواطن يعيش في فضاءات منهوبة ومنكوبة زاخرة بالمرارات والهزات النفسية والحياتية الكبرى المندغمة بالتفجيرات والاغتيالات والاعتقالات والعمليات الانتحارية والمصادمات العسكرية، وانهيار الخدمات وشوكة العدل، وتقوِّي عضد المليشيات المسلحة وشاذِّي الآفاق، وشيوع ثقافة الارتزاق، وبيع الضمائر والتطاحنات السياسية والحربية المدمّرة التي تفضي إلى مزيد من الفوضى والهيمنة والتفلت المجتمعي وتبديد الثروات.
المجتمع الكسيح بلا ضوابط ولا هياكل ولا مؤسسات، وبمنأى عن سلطة النظام والقانون، عقيم وفاسد استشرت فيه النفوس الملطخة بالقذارة، يدمّر كل شيء، ويسر بخطى ثابتة في عالم الخراب، ويغوص في بحر غوير من الإعاقات والأمراض المزمنة، وأضحى مطمراً عظيماً للكفاءات والرأسمال البشري.
المجتمع الكسيح تنهشه النخب الحاكمة والنخب الطامحة في الحكم، الكل يدمّر المجتمع الكسيح بشعارات ناعمة وأباطيل شائعة وبذهنيات مشوشة على قدر كثيف من الضباب والشطحات وشطط الغواة، وتعجرف مسكون بهاجس العظمة.
المجتمع ينكسر ويموت، تأكله الحرب، وتدمّره عقلية الرعاع والغوغاء، يكابد الفقر والمسبغة، وتدمر بنيته التحتية الحرب، وتتحول مدنه وقراه إلى أثر بعد عين.
(يتبع)
________________________________
(*) مجتمع كسيح ونخب متوحشة، المؤلف: أ. د. سمير عبد الرحمن هائل الشميري، دار النخبة القاهرة، طبعة أولى 2022 – ينظر الصفحات من 1إلى 43