مقالات
لا خروج قريب من الحفرة!
إبقاء الوضع على حاله في اليمن (لا هدنة ولا حرب) هي الصيغة المثلى بالنسبة لطرفي النزاع الرئيسيين (التحالف والحوثيين).
فمنذ أكتوبر الماضي، حين انتهت الهدنة الثالثة، لم يسمع اليمنيون صوت طائرة حربية، ولا دوي انفجار، وعوضاً عن ذلك، يسمعون ويشاهدون طوافات عسكرية وهيلوكوبترات يسيّرها الحوثيون، ويستعرضون بها في سماوات المناطق التي يسيطرون عليها، ويشاهدون مهرجانات عسكرية وتحشيدات ومسيرات راجلة لمقاتليهم، ويشاهدون ضحايا لقناصاتهم وألغامهم.
يشاهدون مئات المركبات والصهاريج، التي تنقل البضائع والنفط ومشتقاته وهي تتدفق إلى الأسواق من المنافذ البرية والبحرية.
يشاهدون عمارات سكنية وأبراج وأسواق تجارية تنشأ في أهم المواقع لأثرياء، لم يكن أحد يسمع بهم قبل سنوات الحرب، ويشاهدون طبقة أعمال جديدة تتاجر بكل شيء بما فيها البضائع الأمريكية والسموم الإسرائيلية، وإن الشعار، الذي يُرفع لمقاطعة مثل هذه البضائع، ليس سوى للاستهلاك الشعبوي.
في أكثر من موضع، قلت إن حالة "اللاهدنة" تخدم الحوثيين، وبواسطتها يتنصَّلون من كل التزاماتهم تجاه المجتمع، من:
- دفع الراتب، الذي تستطيع الجماعة دفعه من مداخيلها القانونية وغير القانونية (ضرائب، وجمارك، واتصالات، وعائدات المشتقات، وجبايات ورسوم الخدمات، وغيرها)، التي تؤخذ من عموم المواطنين ورجال الأعمال، غير أن هذه الأموال يُعاد توظيفها لخدمة مشروعها، وتقوية حضورها السياسي والاقتصادي والعسكري برغبة ومباركة إقليمية غير مفهومة، إن لم نقل مشبوهة.. ووحدها القيادات الحوثية والموالون القريبون من يتنعّمون بمخصصات مالية مهولة تُصرف تحت بنود الأجور والمرتبات والإعاشة والتسيير وغيرها، وتقدُرها التقارير بمائة وثمانين مليار ريال سنوياً.
- إغلاق الطرقات وحصار المدن (تعز)، وهذا الوضع يخدم الجماعة أمنياً واقتصادياً.. فمنذ ثمانية أعوام تحاصر الجماعة مدينة تعز، وتقطع منافذ الوصول السهلة إليها، ليدفع ثمن ذلك المواطن البسيط من جهده وماله وصحَّته.
استوقفني، قبل أيام، تقرير تفصيلي عن أثر حصار المدينة، وكيف أن الجماعة حوَّلت هذا الملف من الجانب الإنساني إلى الشق العسكري، من أجل إبقاء الوضع كما هو عليه للمنافع التي يُدِّرها، ومما جاء في التقرير، الذي أعدّته لمياء الشرعبي، ونشرته "خيوط" تحت عنوان: "3000 يوم" من الحصار الحوثي لتعز - عقاب جماعي لملايين المدنيّين تحت أنظار العالم!
"إنّ القيود، التي فرضها الحصار على تدفق السلع والخدمات وحريَّة التنقّل، ساهم في خلق كارثة إنسانية في المحافظة، أثّرت بصورة مباشرة على أهم الحقوق الأساسية، التي كفلها القانون الدولي، كما تسبّب في ارتفاع الأسعار بنسبة تصل إلى 1000%، مع وقف الحركة التجارية وحرمان المدينة من إيرادات ضخمة يمكن أن تُساهم في ترميم البُنى التحتية، التي دمّرتها الحرب.
وضرب التقرير على لسان أحد الناشطين مثالًا لفارق أسعار البضائع المحلية من الحوبان، حيث ارتفع إيجار الطن إلى نحو 20000 ريال يمني، فيما لن يزيد على 4000 ريال يمني في حال فُتحت الطرقات الرئيسية لنقل البضائع.
علاوة على ذلك، تتعرّض تلك البضائع للتّلف بسبب وُعورة الطرق الجبلية وطول الطريق، الذي يستمر لعدة أيام، أو التقلّبات الطقسية كالسيول، والانهيارات الصخرية والحوادث، وما إلى ذلك، حيث تتعرَّض البضائع؛ مثل الأجبان والدجاج المجمّدة والأسماك والألبان، للتلف؛ بسبب تلك العوامل.
ويشير إلى ما يُنتج عن هذا الحصار من انتهاكات متواصلة للحوثيين من قنص يستهدف المواطنين الأبرياء والأطفال، وتبعات اقتصادية بالنَّظر إلى امتداد هذا الحصار، إذ يفرضون في منطقة إب ومنطقة الراهدة جمارك وضرائب كبيرة على التُّجار؛ الأمر الذي يتسبّب في ارتفاع التكلفة الاقتصادية على المواطنين داخل المدينة.
ولا يقتصر الأمر على الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، بل يمتد ليشمل المياه، التي تعتبر الوسيلة الأولى للعيش، حيث تقوم جماعة الحوثيين بمنع وصول المياه إلى مدينة تعز، التي تأتي من منطقة الحيمة في الحوبان، الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، إضافة إلى سيطرتهم على منطقة الحوبان الزراعية والصناعية، بحسب حديث رياض الدبعي، التي يحقّقون منها فوائد كبيرة من الضرائب، وهذا ما يجعلهم يتمسّكون بالحصار؛ كونه يعود عليهم بالفائدة الاقتصادية.
ويقول إنّ "الحوثيّين" يقطعون الكهرباء مثلما يقطعون المياه، فقد كانت الكهرباء تأتي من المخا، ولكن بعض المناطق، التي يمر منها التيار الكهربائي، تقع تحت سيطرة جماعة الحوثيين، الذين تسبّبوا في قطاع التيار الكهربائي عن المدينة.
- الخدمات
في هذا الجانب، تنصلت الجماعة عن تقديم خدمات النَّفع العام للمجتمع من تعليم وصحة وكهرباء وماء، فقد سلَّعت كل شيء، وتركت أمر إدارة الجهات والمؤسسات الخدمية لعناصرها، الذين يتعاملون مع موجودات هذه الجهات من أصول إنتاج الخدمة بوصفها ممتلكات خاصة، وعائداتها الكبيرة تذهب لحسابات غير معلومة.
يعاني سكان تهامة (شام ويمن) من موجة حرارة شديدة، ولا يستطيعون معها العيش في الحديدة، وبقية المناطق إلا في أجواء معقولة، ولا يتأتّى ذلك إلا باستهلاك مقادير طاقة لتشغيل وسائل التكييف والتبريد، وهذه الخدمة لم تعد في متناول معظم السكان، في ظل انقطاع المرتّبات وانعدام فرص العمل، وإن مشروع كهرباء الفقراء، الذي أعلنت عنه الجماعة قبل عامين، ليس أكثر من فريَّة فاضحة، فصار الدخل الشحيح للأسر يُنفق على فواتير الكهرباء على حساب بقية الالتزامات من إعاشة وتطبيب وتعليم .
أنموذج الحديدة نسوقه هنا؛ للتذكير بأن دخل المحافظة من الميناء والمصانع والمعامل والمزارع والاصطياد يمكن أن يقضي تماما على مشكلات الكهرباء والخدمات الأخرى المستديمة، كما يشير إلى ذلك تقرير أعده عمرو الأهدل عن الحديدة اليوم، التي تعيش بين ناري الصيف والكهرباء، ونشرته "خيوط" أيضاً.
- قال لي أحد الأصدقاء إن هناجر (مخازن) ضخمة في نواحٍ متفرِّقة من الحديدة وصنعاء وصعدة مملوءة تماماً بسلع غذائية وفَّرها برنامج الغذاء العالمي وجهات أممية ومنظمات إنسانية إقليمية كمساعدات للنازحين والفقراء، وإن هذه السلع تتسلمها الجماعة، وتصرف القليل منه، وبشكل تمييزي للموالين والأنصار، وقليل جداً للمحتاجين، وإن معظم الكمية تتسرَّب للأسواق، وتُباع في المحلات العمومية.
مع كل عام دراسي جديد، يتفاجأ اليمنيون بتعديلات جوهرية في مناهج سنوات التكوين الأولى المدرسية، في توجُّه خطير لإعادة صياغة الوعي الجديد بأيديولوجية الجماعة الظلامية، التي تعيد تقسيم المجتمع بين سادة وعبيد، وكان أنموذج هذا العام هو التدخل الفج في صياغة الهدف الأول من أهداف ثورة سبتمبر بمحو سياق "وإزالة الفوارق بين الطبقات" من كتاب التربية الوطنية للصف الخامس.
فصل الطالبات عن الطلاب في جداول المحاضرات في كلية الإعلام صار يُطبق في أكثر من كلية في جامعة صنعاء، وقد عمدت بعض الكليات، خلال الاسابيع الماضية، إلى إنشاء جدران إسمنتية عازلة بين قاعات الطلاب والطالبات، لأن هذا الأمر صعب تحقيقه في كلية الإعلام بسبب قِدم مباني الكلية وضيقها.
الحفرة الامتصاصية، التي وقع فيها اليمنيون، ستضيّق أكثر وستتعمَّق، وسيصعب الخروج منها، بعد أن سلّمت، وبمباركة إقليمية ودولية، رقاب الجميع لأدوات القهر والاستبداد، التي تستخدمها الجماعة لإدارة السلطة والثروة، في إطار بنية عصبوية مغلقة، لا تكترث بألم اليمنيين ووجوعهم.
وبمقابل ممارسة هذه الجماعة، ممارسة قريبة منها، وتشببها في المآلات، تقوم بها أطراف محسوبة على الشرعية، التي أدمنت الفساد حتى صارت تتنفَّسه، ولا تستطيع العيش بدونه، وإن مصالحها تكبر وتتضخم على حساب تفكك البلاد وتقسيمها، وبرغبة ومن ولي نعمتها (التحالف ومتناسلاته).